تمهيد
تمت اتفاقية الجزائر للسلم والمصالحة التي احتضنتها الجزائر في 1 مارس 2015، والتي وقعت بين الحكومة العسكرية المالية والجماعات المسلحة بعد مفاوضات طويلة، وهي من وضعت حدا لثلاث سنوات من الاقتتال منذ 2012 شمالي البلاد بين الجماعات المسلحة والسلطة في باماكو.
ولكن مع عودت الاقتتال في أواخر شهر أغسطس/آب 2023 في مقاطعة أزواد بين الحكومة العسكرية والحركات المسلحة بأزواد الممثلة لقبائل الطوارق، بدأ الجميع بطرح تساؤلات حول مصير اتفاقية الجزائر، ولكن مع نهاية شهر نوفمبر الماضي وتدخل الجزائر عبر عقدها لقاءات مع قيادات الطوارق (أزواد) مما فجر أزمة ديبلوماسية بين باماكو والجزائر، اذ كانت هناك مساعي جزائرية خلال الأشهر الأخيرة في تعديل الاتفاقية بناء على المعطيات الجديدة على الأرض ومن أهمها انسحاب القوات الفرنسية من شمال البلاد.
خلفيات الأزمة
بعد توقيع الجماعات المسلحة في شمال مالي لاتفاقية مع الحكومة المالية باماكو بواسطة جزائرية 2015، شهدت منطقة شمال مالي هدنة مع السلطة المالية، وتفرغت الجماعات المسلحة بإقليم أزواد والتي تتكون أغلبها من الطوارق (قبائل أمازيغية رحل في الصحراء الكبرى) لقتال الجماعات المسلحة التابعة للقاعدة وتنظيم الدولة، وتمركزت القوات الفرنسية بمناطق الأزواد لمعاضدتهم في هذه الحرب.
وفي أغسطس 2020 تغيرت القوى الحاكمة في مالي بعد انقلاب عسكري بقيادة أسيمي غويتا على الرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا، وعين غيتا رئيس للمجلس العسكري ولمالي إلى حدود القيام بانتخابات.
وبعد تدهور العلاقات بين باريس وباماكو، وإعلان فرنسا عن انسحاب قواتها من مالي بصفة عامة ومن إقليم آزواد بصفة خاصة في سنة 2022، بدأت أعين المجلس العسكري تصوب نحو المنطقة، إذ كان تواجد القوات الفرنسية أكبر عائق أمام دخول المجلس العسكري المالي للمنطقة، ولكن مع انسحاب الفرنسيين رأى المجلس العسكري أنها الفرصة المناسبة للدخول إلى شمالي البلاد.
لتندلع مواجهات مسلحة بين باماكو والجماعات الأزا وادية في أواخر شهر أغسطس 2023، ومنذ سنة 2020 كانت الجزائر تحاول عبر تدخلاتها مع الأزواد أو المجلس العسكري الحيلولة لمنع انهيار اتفاقية الجزائر حتى أنها قامت خلال الأشهر الأخيرة بمساعي ديبلوماسية حثيثة لإحداث تعديلات على الاتفاقية، إلا أن اندلاع المواجهات الأخيرة وتدخل الجزائر عبر استضافتها لقيادات الطوارق فجر أزمة ديبلوماسية بينها وبين باماكو.
مظاهر الأزمة
بالرغم من أن الجزائر دأبت على استضافة قادة الطوارق المعنيين باتفاقية الجزائر 2015، منذ احتضانها لمفاوضات هذه الاتفاقية، إلى أن أدى استقبال الجزائر للإمام المالي محمود ديكو إلى زيادة التوترات، حيث أن ديكو معروف بمعارضته للحكومة المالية وبنقده اللاذع لها، رفقة قيام شاحنات جزائرية في 30 نوفمبر بكسر حصار على تبمبكتو التي ضربتها عليها جماعة “جنيم” الجهادية وقامت بتزويد السكان بالمواد الغذائية والبنزين،
وفي آوائل شهر ديسمبر 2023 استضافات العاصمة الجزائرية مشاورات مع قيادات من الآزواد على خلفية دخول الجيش المالي برفقة مجموعة فاغنر الروسية إلى مدينة كيدال شمالي مالي، كل هذه العوامل أدت إلى انفجار الأزمة بين الجزائر ومالي.
وبناء على ذلك استدعى وزير الخارجية المالي السفير الجزائري بباماكو واتهمه بالتدخل في الشؤون الداخلية لمالي. وردا على ذلك، تم أيضا استدعاء سفير مالي بالجزائر العاصمة. وتم استدعاء السفيرين إلى بلديهما للتشاور.
لم تتوقف الأزمة عند حدود الديبلوماسية اذ انتقلت إلى الفضاء الإعلامي، حيث وصفت وسائل الإعلام الجزائرية رئيس المجلس الانتقالي بمالي حاليا ”أوسيمي جويتا” بالانقلابي الدموي، وهو دفع بالعديدن من المحليلين بإعتبار أن الهجة الإعلامية من بين أبرز عوامل تأجيج الأزمة بين الطرفين.
الجزائر والمسألة الأمنية
يبلغ طول الحدود الجزائرية المالية قرابة 1359 كم، وهي كلها حدود صحراوية تنشط فيها الجماعات الجهادية وجماعات الجريمة المنظمة ومنها خاصة تهريب البشر، ومع إندلاع الأزمة الأخيرة في شمال مالي، نزح عشرات الآلاف من الطوارق إلى الجزائر وخاصة مدنها الجنوبية على الحدود المالية كعين آميناس وعين صالح ومناطق رقان، بسب الضربات التي تقوم بها الجماعات الجهادية أو المواجهات بين الحكومة المالية والآزواد، وأكبر مخاوف الجزائر على غرار تفاقم أزمة اللاجئين هي اندساس مقاتلي الجماعات الجهادية ضمن المدنين للدخول إلى الجزائر، كما أن الإعلان الأخير من قبل المجلس العسكري بالنيجر إلغاء قانون تجريم تهريب البشر ينذر أيضا بتدفق عشرات الآلاف من المهاجرين عبر الحدود النيجرية الجزائرية التي يبلغ طولها قرابة 900 كم، وهي أزمة تعانيها الجزائر منذ أغسطس الماضي.
لذلك فإن تحرك الجزائر الأخير لكسر الحصار على تومبكتو عبر إرسالها لشاحنات مساعدات غذائية ومواد أولية أخرى وهو ما ساهم في تخفيف الحصار على المدينة وعودة اللاجئين إليها تدريجيا بعد تحسن الأوضاع.
إذ أن استقرار منطقة شمال مالي المحاذية للحدود الجزائرية والتي تعتبر في عمق الأمن القومي الجزائري في غاية الأهمية للجزائرين، حيث أن قبائل الطوارق تشغل الجماعات الجهادية في القتال معاها وهو ما يخفف عن الجزائر، كما أن عدم استقرار المنطقة ودخولها في أزمة إنسانية سيغرق المناطق الجنوبية الجزائرية باللاجئين. لذلك فإن تواصل السلطات الجزئراية مع الطوارق أمر ضروري للغاية فيما يتعلق بأمنها القومي، ولكن هذه التحركات الأخيرة التي قامت بها الجزائر في تشاور مع هذه المكونات لم ترق للمجلس العسكري بمالي.
خاتمة
تعتبر مالي عمق استراتجي للأمن القومي الجزائري، والمحافظة على الاستقرار فيها من مصلحة الجزائر، لأن تفجر الأوضاع بمالي أو بمنطقة آزواد بصفة خاصة ستكون له تداعيات كبيرة جدا على الجزائر، وبالنسبة لمالي فإن الجزائر حليف استراتيجي وإقليمي في غاية الأهمية بمنطقة الساحل والصحراء والقارة الإفريقية ككل، وهو ما سيجعل كلا الطرفيين بباماكو والجزائر يتجاوزون هذا الخلاف والأزمة بسرعة، ولكن ما يبقى على المحك ويرجح أن ينهار هو اتفاق الجزائر بين جماعات المسلحة في إقليم أزواد والمجلس العسكري بباماكو.