قراءة في كتاب
يسر مركز أفرو بوليسي أن يُقدم قراءة في كتاب يفتح عبرها نافذة مهمة للإصدارات التي تسلط الضوء على إفريقيا أو جانب من جوانب الحياة في إفريقيا، يستعرض دكتور عبد القادر غولني كتابا عن فترة مهمة من التاريخ الصومالي، لمؤلفه الأستاذ الراحل عثمان حاج مصطفى محمد ويشير بوضوح إلى التحريفات التي قام بها بعض المؤرخين الأجانب الذين أساؤوا غلى الصومال والصوماليين عبر تزوير الحقائق، فإلى الاستعراض:
” إطلالة تاريخية على الصومال ومستقبل مأمول: جماعة مبارك نموذجاً ” 1916- 1986
لمؤلفه الأستاذ عثمان حاج مصطفى محمد- له الرحمة والمغفرة والفردوس الأعلى
بقلم الدكتور عبدالقادر غولني
لكل كتاب قصة …فما قصة هذا الكتاب؟
يظهر من خلال مقدمة المؤلف المرحوم عثمان حاج مصطفى، ومقدمة عائلته، أنّ الكتاب لم ينتهي كما بدأ، من منظور أنه عبارة عن مشروع بحثي أخذ أشكال مختلفة، ومراحل متعددة، حيث بدأت قصة هذا الكتاب ومسيرته مع المؤلف من خلال نظرته الثاقبة للشهود النهضوي والصحوة الإسلامية التي بدأت تدب في الصومال، وتأخذ مكانها في خارطة النهوض الإسلامي في شمال وشرق أفريقيا والجزيرة العربية والشرق الأوسط، ولهذا كان المؤلف شاهداً على عصره، وصادقاً في هدفه النبيل الذي مفاده” السعي إلى تعريف الناس بالدور التربوي والجهادي للسادة الصوفية الصالحية الرشيدية الأحمدية في الصومال، دون تزييف أو تزوير ، ودون فرض ميول ورؤى شخصية، وهو ما حرص المؤلف على تطبيقه في هذا البحث مع مراعاة الاستشهاد بأثر البيئات الاجتماعية والعوامل الجغرافية على مثل هذه الجماعات طبقاً للمصادر الرصينة سواء كانت مكتوبة أو ميدانية أو منقولة من شهود عيان والتي يحسب لها حساب من حيث التأكيد على مصداقيتها ومنطقيتها وصحتها”.
فبدأ المؤلف وشرع تدوين رؤيته في سلسلة مقالات بعنوان ” أعرف وطنك” وتطورت الفكرة إلى أن يكون كتاباً فكرته الجوهرية هي “جماعة مبارك” في إطار مقاربتها بما يحدث من تطورات وجهود في البيئة الإسلامية عامة والصومالية على وجه الخصوص، وذلك في حوالي عام 2015م، فتوسعت فكرة الكتاب بأن تكون في إطار التاريخ الحديث والمعاصر لنموذج جماعة مبارك بأبعاد بيئاتها المحلية والإقليمية والدولية مع حرصه على ضرورة استشراف المستقبل، (ومستقبل مأمول)وهكذا يبدو واضحاً أنّ قصة الكتاب قد تحولت من فكرة الكتابة الوثائقية عن جماعة مبارك إلى إطار تاريخي أوسع حول تاريخ الصومال والتاريخ الإسلامي في محطاته الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل المأمول.
علاقة المحتوى المعرفي للكتاب بقدرات وتجارب المؤلف العلمية والعملية:
بمجرد أن تبدأ في تقليب صفحات الكتاب وتصفحه لابد وأن يلفت نظرك وانتباهك، ويسترعي اهتمامك قوة المحتوى والمضمون المعرفي لكل جزئيات الكتاب سواء حول جماعة مبارك أو تاريخ الصومال أو التاريخ الإسلامي السياسي والفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وهنا يأخذك السؤال وبكل تلقائية عن ماهية وطبيعة العقل المعرفي والحقول المعرفية وميادين التجارب العلمية لمؤلف الكتاب الأستاذ/ عثمان حاج مصطفى محمد، وحينها ستدرك أنّ سيرته الذاتية المهولة هي بقامة هذا السفر والموسوعة العلمية التي كتبها خالدة ومحفوظة في ذاكرة المثقفين الصوماليين والعرب والعالم بأسره، فهو صاحب الـ 67 عاماً حيث وهب كل عمره في سبيل خدمة العباد والبلاد، وفي نفس الوقت فهي تقارب فترة الكتاب التي كتبها 70 عاماً تقريبا، فهو فعلاً هنا بقامة الخبير الذي يحمل همّ أمته ووطنه وفكره، أما أنه خرج جامعة الإمام محمد بن سعود بالسعودية مختص وباحث في اللغة العربية وآدابها فهو عالم اللغة الذي يجيد فن التحليل والصياغة والتدقيق اللغوي والدلالي، أما عن تجربته وخبراته في مجال التعليم العام والتعليم العالي تدريساً وإدارةً وتأسيساً تدل على قدراته الموسوعية الاحترافية العالمية داخل وخارج الصومال، ولعلّ أقيمها وأعظمها مشاركته في مشروع تعريب المناهج التعليمية في الصومال، وتأسيس مؤسسة زمزم 1992م، وجامعة مقديشو 1997م، وتأسيس مؤسسة المعارف بهرجيسا2005م، والمعهد العالي لإعداد وتأهيل المعلمين، وغيرها مما يصعب حصره في هذه العجالة.
والجدير بالذكر والإشارة هنا أنّ المؤلف يعتبر واحداً من أعظم وأشهر رواد العمل الطوعي والخيري الإسلامي في الصومال والمنطقة.
الإطار الموضوعي للكتاب: عبقرية السياق التاريخي المتداخل بين جماعة مبارك والصومال
جاء عنوان الكتاب دقيقاً وعميقاً من حيث المتغيرات التي حواها وهي تاريخ الصومال ومستقبله ولكن في إطار نموذج مهم ومؤثر ومتأثر بمجريات تطورات التاريخ الصومالي وهي جماعة مبارك فعندما تقرأ عنوان الكتاب يتبادر إلى ذهنك لأول وهلة وكأن الكتاب مختص في تاريخ ومستقبل الصومال، ولكن عندما تقرأ المحتويات وتنداح من خلال الفصول والمباحث والجزئيات تجد عبقرية النموذج حاضرة ومنسابة وبتسلسل متدرج ومنطقي للأفكار والمعلومات بين جماعة مبارك ومسارات وتاريخ الصومال مؤكداً بهذه الفرضية أنّ تاريخ الجماعات الإصلاحية الإسلامية في الصومال لا تنفصل صيرورتها التاريخية وهذا ما أراد المؤلف أن يبرهنه في كتابه بصورة واضحة وجلية.
فكرة النمذجة لجماعة مبارك الإصلاحية…وليست دراسة حالة
يبدو أنّ المؤلف قد حالفه التوفيق في اختيار منهجية “النموذج” أو النمذجة من خلال اختيار “جماعة مبارك” والتي أضافت ميزات منهجيته ومعرفة مقدرة على شاكلة استخدام منهج النموذج الذي يتناسب أساساً مع استخدام المنهج الوصفي التحليلي والمنهج التاريخي والمنهج الاستقرائي التنبؤي، كل هذه المناهج استخدمها المؤلف في كتابه، وكذلك أتاحت “النمذجة ” امكانية دراسة وقراءة جماعة مبارك من خلال تاريخ الصومال العام، والاسلامي والحديث المعاصر، وقدرته على إظهار ربط وتحليل علاقة الجزء بالكل الصومالي، وأكثر من ذلك مكانة وعلاقة كل من جماعة مبارك والصومال من الكل الإقليمي والدولي، هذه “النمذجة” والمنهجية البحثية بصورة عامة جعلت الكتاب أكاديمياً يلامس ويتداخل مع أغلب العلوم والتخصصات، حيث تطالع أحياناً الجغرافيا وتأثيراتها على الجماعة والصومال وإظهار لعبقرية المكان الصومالي في نشأة وتطور جماعة مبارك وتفاعلاتها مع محيطها المحلي والإقليمي.
وفي سياق آخر تدهشك مداخل التحليل الديني وعلم الاجتماع الديني (علم الاجتماع الإسلامي) الذي يمثل المنظور الأبعد والأهم في تكوين جماعة مبارك وكل الحركات الإسلامية الإصلاحية في الصومال والمنطقة
ولعل من أقوى ما أعطى “النمذجة ” قيمة هو قولبة المؤلف لها في إطار تأثير وتأثر جماعة مبارك بالتاريخ السياسي والفكر السياسي والاجتماع السياسي والثقافة السياسية التي كانت تسود الصومال والعالم الإسلامي.
معالم الكتاب …فن التبويب وبناء الأفكار
يمثل الكتاب في حد ذاته أنموذجاً في مناهج البحث العلمي ومنهجية التفكير البنيوي، وقد ظهر ذلك جلياً في براعة المؤلف وحذقه في وضع خارطة ومصفوفة مترابطة وقوية لموضوعات الكتاب تعتبر بكل المقاييس مثلاً حياً لمنهجية التبويب وفن التقسيم والتي جاءت بحسب اختيار المؤلف في أربعة (4) أقسام وإثنى عشر(12) فصلاً وأربعة وعشرون(24) مبحثاً ومقدمة وخاتمة رصينتين، جاءت جميعها في حوالي 295 صفحة كان أروع أقسامها وفصولها في تقديري هو القسم الثالث الذي تناول فيها المؤلف رحمة الله عليه” جماعة مبارك والتجمعات الزراعية لها” لأنه قد حوى بداخله خمس فصول تحدث فيها بكل الإبداع والتقييم والتقويم عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والتعليمية للصومال وانعكاساتها على نشأة وتطور جماعة مبارك ومنهجها وأفكارها وجهودها ورحيل مؤسسها وخلافة إبنه الجاج مصطفى محمد عبدي زياد.
هذا، وقد جاء القسم الأول عن مدخل إلى جغرافية وتاريخ الصومال، والقسم الثاني: مدخل إلى التصوف والحركات الإصلاحية الإقليمية في القرن التاسع عشر، وختمها بالقسم الرابع عن التنمية المنشودة ومستقبل مأمول، نظرات على مستقبل جماعة مبارك والتجمعات الزراعية التابعة لها.
الإطار الزماني للكتاب 1916-1986 سبعون عاماً، لماذا؟!
من المعلوم بالضرورة أنّ لكل كتاب أو بحث أطروحة أو حتى ورقة علمية فترة زمنية لابد من تحديدها تمثل الإطار الزماني الدقيق الذي تدور فيه كل تفاعلات وديناميات وأنساق الموضوع في تناغم وانسجام تام مع الإطار الموضوعي والمكاني وهو جماعة مبارك في إطار الصومال وبيئاتها الاستراتيجية الإقليمية والدولية.
وعليه، فقد مثّل العام 1916 ميلاد زعيم جماعة مبارك الحاج مصطفى محمد عبدي زياد، والعام 1986 تاريخ وفاته رحمة الله عليه رحمة واسعة.
ولكن الغريب في الأمر والجدير بالإشارة أنّ إبنه عثمان حاج مصطفى قد قارب عمره عمر والده وكان 67 عاماً 1954- 2021م، الأمر الذي يستنتج منه أنه قد عاصر في حياته بالجماعة ما يقارب الإطار الزماني للكتاب الذي كتبه، وتلك مصادفة وترتيب رباني.
جوهر اشكالية كتابة التاريخ الصومالي… مشكلة الدولة والمجتمع والنخب
لعلّ من أفضل وأهمّ ما أشار إليه المؤلف الأستاذ عثمان حاج مصطفى في كتابه هذا هو طرقه بقوة لمشكلة مسكوت عنها، ومتجاهلة وهي إشكالية كتابة تاريخ الصومال ، إذ استنكر هذا التفاعل أو الجهل والتجاهل حول كتابة تاريخ بلد ودولة بحجم الصومال وأهمية الصومال ومكانة الصومال في التاريخ العربي والأفريقي والإسلامي بل في التاريخ العام محط أنظار العالم والتنافس والتكالب الإقليمي والدولي على ميراثها أي ميراث الصومال ومواردها وموقعها الجيوبوليتيكي والجيواستراتيجي الذي يجسد عليه.
وقد ركّز المؤلف كاتبين يتفقان معه في هذه المشكلة وهما: محمد طاهر أفرح، في كتابه نظرات في الثقافة الصومالية، والجنرال محمد إبراهيم ليقليقتو – في كتابه تاريخ الصومال.
ويبدو واضحاً أنّ هنالك شبه اجماع على إشكالية كتابة التاريخ الصومالي، وربما تظهر جل هذه الإشكاليات
في الجوانب التالية:
1- صعوبة الكتابة بموضوعية وعلمية ومهنية.
2- غموض كتابة التاريخ الصومالي.
3- الإعتماد فقط على التاريخ الشفاهي المليئ بالمغالطات والخرافات.
4- ترك الساحة للكتاب الأجانب، مما أتاح للغربيين أن يكتبوا عن تاريخ الصومال بدلاً من الصوماليين، فهل يعقل ذلك؟
5- القصور المشين للدولة الصومالية وجامعاتها ومراكزها ونخبها خاصة المتخصصين في التاريخ من التفكيير الجاد والتخطيط السليم وإتخاذ قرارات مصيرية في كتابة تاريخ الصومال وتخصيص وحدات علمية خاصة بذلك مثل ما تفعل بقية الشعوب والدول التي تخدم لصالح تاريخها وإنسانها وسيادة دولتها.
إشارة خاصة للتلاعب الغربي بتاريخ الصومال
في إشارة دقيقة ومهمة للوقوف عندها وعليها صــــ 27-32، أكد المؤلف وبكل حسرة أنّ تاريخ الصومال قد تركت كتابته للكتاب المستعمرين الذي كانوا في الصومال، وقد أجحفوا في حق وتاريخ الصومال، وقد استشهد المؤلف في ذلك بمثالين:
• الأول: الباحث البريطاني: إيوان ميردين ليويس(I.M. LEWIS) وهو بروفيسور في الأنثروبولوجيا عمل في كلية لندن للإقتصاد والعلوم السياسية واشتهر بأبحاثه وكتاباته حول الصومال تاريخاً ومجتمعاً، واصفاً الشيخ المناضل والقائد محمد عبدالله حسن “بالشيخ المجنون” وفي نفس الوقت ممجداً القائد البريطاني ريتشارد كورفيلد(Richard Cunningham Cornfield ) عند غزوه للصومال واحتلاله ونهب خيراته، بالإضافة إلى تشوهاته في ثقافة ودين الصوماليين.
• الثاني: الكاتب الملازم البريطاني: سي. جي. كروتندين(C. J. Crunttenden ) كتب عن القبيلة في الصومال ووقع في أخطاء ومغالطات تاريخية، حيث يعتبر التدين الإسلامي نوعاً من التخلف وقد استنكر أن يطلق على الشيوخ أو الفقيه أو معلم القرآن لقب الحكيم أو صاحب الحكمة.
ولهذا السبب دعا المؤلف المثقفين الصوماليين والباحثين أن يتحملوا مسؤولياتهم في كتابة تاريخ الصومال وإنسان الصومال ومكانة الصومال.
رسم خارطة التصوف في الصومال… وخصوصية الصومال الصوفية
أجاد الكاتب وبكل اتقان توصيف خارطة الطرق الصوفية في الصومال وارتباط جماعة مبارك بأصول المتصوفة وعلماء الطرق الصوفية وذلك من خلال قسم بأكمله.
وقد أفرد المؤلف مساحة مقدرة لفلسفة التصوف من خلال الطريقة الإدريسية وروافدها، ومنها قد وضح كل شجرة التصوف وفروعه في الصومال بدءً بدخول الطريقة الأحمدية في منتصف القرن التاسع عشر والتي تختلف الآراء حول من أدخلها إلى الصومال ولكن المؤلف ومعه جل الباحثين إن لم يكن كلهم يرجحون أن الطريقة دخلت بواسطة الشيخ عبدالواحد المعروف بعبدالرحمن (الرحمانية)على الأرجح وكذلك الشيخ على ميه الذي كان له دور بارز في نشر الطريقة في كل أنحاء البلاد.
وقد طاف المؤلف على الطريقة الصالحية لمؤسسها الشيخ محمد صالح الدويحي السوداني، ثم الطريقة الرشيدية الإدريسية، وقد أوضح المؤلف من خلال السرد التاريخي المترابط لأعلام التصوف بالصومال مدى قوة ارتباط التصوف الصومالي بجذوره وحركة التصوف وروادها في المشرق والمغرب العربي الإسلامي، وأكثر من ذلك تحليله المستفيض عن خارطة انتشار الطرق الصوفية في كل أقاليم الصومال والآثار الدينية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والوطنية السياسية في محاربة ومواجهة الاستعمار، كل ذلك في إطار قوالب وأنماط ومحددات عبقرية المكان والزمان والإنسان الصومالي حيث تشكل التصوف الصومالي بما يتماشى ويتواكب مع البيئة الجغرافية والثقافية والفكرية للصومال والصوماليين.
خلاصة أخيرة
وأخيراً يمكن القول أن كتاب ” إطلالة تاريخية على الصومال ومستقبل مأمول” جماعة مبارك نموذجاً، للمؤلفه الراحل المقيم الأستاذ عثمان حاج مصطفى محمد، يُعد اسهاماً معتبراً من اسهامات علماء الصومال، وآية ذلك أنّ هذا الكتاب منجز علمي مهم ينم عن إحاطة المؤلف بموضوعه إحاطة السوار بالمعصم، إذ فيه يقدم أفكاراً مرتبة بلغة سهلة ومنهجية عالية بعيداً عن الحشو والتطويل والتكرار والقصص الضعيفة والمصنوعة.
إنّ الكتاب جدير بالقراءة لمن يلم بجوهر موضوع تاريخ الصومال، وتاريخ الجماعات الإسلامية الإصلاحية، وعليه، ولكل هذا أرشح هذا الكتاب ليكون زاداً لكل صاحب اهتمام بالمسألة الصومالية.