محمد صالح عمر | المدير العام للمركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات
قراءة أولية في تطور العملية السلمية
منذ بداية شهر أكتوبر الماضي تسارعت الضغوط وتكاثفت على أطراف النزاع في إثيوبيا من أجل وضع حد للحرب الدائرة في إقليم التقراي منذ الرابع من نوفمبر 2020. الجلوس للتفاوض ومن ثم الوصول إلى حلول للنزاع الشائك والوعر أصبح محل استقطاب دولي وإقليمي، ما عزز حالة عدم الثقة واتساع الفجوة مع فشل ظاهر لكل محاولات جمع الأطراف على طاولة المفاوضات.
كيف وصلت الأطراف إلى هذا الاتفاق
بذل المبعوث الأمريكي مايك هامر هذه المرة جهودا كبيرة ومارس ضغوطاً هائلة على أطراف النزاع، ويذهب البعض أبعد من ذلك بالقول بأنه ربما وصل إلى تفاهمات معينة مع الحكومة الفيدرالية في موازنة العلاقات وترتيبها في المرحلة القادمة، بما يطمئن الولايات المتحدة وحلفاءها إزاء المحافظة على مصالحها مقابل المنافسين لاستراتيجيتها في المنطقة. ساعد في ذلك سعي الاتحاد الإفريقي بتوسيع الوساطة وإضافة شخصيات وازنة مثل رئيس كيناي السابق، ومراقبين من فاعلين دوليين.
دعوة الاتحاد الإفريقي إلى جنوب إفريقيا
بعد جهود كبيرة بذلها عدد من الوسطاء وعلى رأسهم المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي مايك هامر والمبعوث الأوروبي للقرن الإفريقي ومبعوث الإتحاد الإفريقي الذي تم تكليفه خصيصا لهذا الملف، ومفاوضات مهدت لتقريب وجهات النظر دعا الاتحاد الإفريقي الأطراف، إلى بدء الحوار التفاوضي المباشر في جنوب إفريقيا، مع فارق في الوسيط الإفريقي الذي تطور إلى لجنة برئاسة اوباسانجو الذي تحفظت على أداءه قيادة التقراي وعضوية نائب رئيس جمهورية جنوب إفريقيا والرئيس السابق أوهورو كينياتا ومراقبين من الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولكن بسبب ما أعلن من بعض الجهات ذات الصلة بأن عدم القيام ببعض الترتيبات الضرورية من قبل المسهلين تم تأجيل المحادثات إلى وقت لم يتم تحديده.
استراتيجية الحكومة للتفاوض
وضعت حكومة أبي احمد إستراتيجية تهدف إلى كسر عزيمة جبهة تحرير التقراي ومقاتليها بالاستيلاء على المدن الرئيسية والسيطرة على المؤسسات الرئيسية في إقليم التقراي وإخضاعها للحكومة الفيدرالية من أجل حماية سيادة وسلامة أراضي البلاد حسب تصريحات مسؤولي الحكومة. واستخدمت لتحقيق ذلك كل صنوف التكتيكات والقوة، مستفيدة من تطويق قوات التقراي من كافة الاتجاهات مع إغلاق كامل للمناطق التي يحتمل أن تقدم دعماً لمقاتلي التقراي جوا وبرا، وإنهاك جبهة التقراي بعدد كبير من جبهات المواجهة اليومية. وكان الإصرار واضحا والثقة في تحقيق ذلك كبيرة قبل الإقدام على أي تفاهم او أي لقاء مباشر في المحادثات مع التقراي. استطاعت القوات الفيدرالية أن تحقق انتصارات بكسر محور شيري الاستراتيجي والذي تساقطت بعده المدن من تحت سيطرة التقراي كأحجار الدومينو واحدة تلو أخرى، ومع أخبار عن خسائر كبيرة في الأرواح بين الأطراف المتصارعة.
على صعيد جبهة تحرير التقراي وحتى توقف تقدم القوات الفيدرالية صوب عاصمة الإقليم واسقاطها، طالبت بوقف إطلاق النار الفوري وهو ما رفضه الطرف الآخر في ظل إحرازه تقدما على مختلف الجبهات، وممارسة أعلى درجات الضغط والحرب النفسية على الجانب الآخر، حتى أصبحت القوات الفيدرالية على مشارف ميقيلي عاصمة الإقليم.
دعوة الوسطاء إلى المحادثات في 24 أكتوبر
على الرغم من تجدد القتال دعا الاتحاد الإفريقي إلى المحادثات مرة أخرى يوم 24 أكتوبر. كما عقد مجلس الأمن الدولي اجتماعاً، إلا أنه انفض دون أن يصدر بيانا بسبب الانقسام داخله، كما صرحت الحكومة الإثيوبية بانها تعتبر المحادثات فرصة لحل النزاع سلميا، وأكدت قيادة التقراي موافقتها على الحضور.
أعلن المتحدث الرئاسي في جنوب إفريقيا بأن المحادثات التي تأجلت سابقا بدأت يوم 25 أكتوبر. ويقود المحادثات الوسيط الإفريقي أوباسانجو وفريقه مع ممثلين عن الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية يشاركون كمراقبين، وصرح رئيس مفوضية الإتحاد الإفريقي بانه يشعر بالتشجيع إزاء إظهار الالتزام المبكر بالسلام من قبل الأطراف والسعي إلى حل سياسي دائم للصراع من أجل المصلحة العليا لإثيوبيا. وفي بيان صدر عن الاتحاد الإفريقي أكد على التزامه المستمر بدعم الأطراف في عملية تملكها إثيوبيا ويقودها الاتحاد الإفريقي لإسكات المدافع من أجل إثيوبيا موحدة ومستقرة وسلمية.
ذروة القتال وذروة التصريحات ودورها
ومنذ بداية الجولة الثالثة من القتال ومع اشتداد المعارك في عدد كبير من الجبهات تسربت معلومات وتقارير تفيد بضراوة القتال وشمول الحريق الذي لا يميز بين العسكري والمدني، وارتفاع عدد القتلى إلى درجة قدرتها بعض المصادر بأنها تتجاوز أعداد القتلى من الجانبين في حرب عام 2000. حيث تجاوزت 70 ألف قتيل حسب تقارير رسمية ويمكن استيعاب ذلك إذا تتبعنا تصريحات مختلف الجهات حول ذروة الحرب خلال الشهرين الأخيرين. حيث تحدث وزير الخارجية الأمريكي عن تقارير بوجود خسائر كبيرة في الأرواح ودمار وقصف عشوائي وانتهاك لحقوق الإنسان في شمال إثيوبيا ـ من جانبه، صرح الأمين العام للأمم المتحدة بأن الوضع في التقراي بدأ يخرج عن السيطرة. كما حذرت سامانثا باور رئيسة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية من وجود خطر كبير من وقوع مزيد من الاعتداءات والقتل ضد المدنيين إذا اجتاح القتال معسكرات النازحين في التقراي ودعت القوات الإرترية إلى الانسحاب من التقراي وحث الأطراف الالتزام بوقف إطلاق النار محذرة من أن مليون شخص يتأرجحون على حافة المجاعة.
تجمع هذه التصريحات على خطورة الوضع في التقراي وما ترتكبه الأطراف من تجاوزات في غياب وسائل تنقل الحقائق التي على الأرض وتكتم على كل شيء، وبالتالي فقد مارست كل هذه الأطراف ضغوطا كبيرة بكشفها لجزء يسير من الحقيقة التي تختفي خلف ستار الدفاع عن الشرعية هنا والانتقام هناك والحرب من أجل البقاء في الطرف الآخر، لتقود إلى الرضوخ ولو للحظة وقبول وقف إطلاق النار.
اتفاق الثاني من نوفمبر
استأنفت المحادثات في الخامس والعشرين من أكتوبر وبعد أربعة أيام من المفاوضات الشاقة وصلت إلى طريق شبه مسدود بسبب تشبث الأطراف بشروطها ورفضها لتقديم التنازلات وبذل الوسطاء جهودا مكثفة للحيلولة دون انهيار المفاوضات من خلال الاجتماعات المتواصلة مع الأطراف كافة لتقريب وجهات النظر والإبقاء على استمرار المحادثات أملا في الوصول على نقطة اتفاق، وأشار الوسطاء بأن أصعب الشروط هي نزع سلاح مقاتلي التقراي وخضوع الإقليم لسيادة الحكومة وخروج القوات الاجنبية ووصول المساعدات غير المشروط.
في 31 أكتوبر تم تمديد مهلة المحادثات لاستكمال الحوار حتى تم الإعلان عن وصول الأطراف إلى اتفاق في الثاني من نوفمبر لإنهاء دائم للقتال والبدء في مرحلة جديدة وتم توقيع الاتفاق بحضور الوسطاء والمراقبين وأثمرت الجهود في نهاية المطاف فيما اعتبره الوسيط الإفريقي خطوة أولى في بناء السلام.
أبرز بنود الاتفاق
لم تتحدث الأطراف المتنازعة ولا الوسطاء عن كيفية الوصول إلى الاتفاق وما هو سقف كل طرف قبل المحادثات وما هي طبيعة التنازلات التي قدمتها الأطراف للوصول إلى هذه النقطة ولكن تبرز من بين الأحاديث كلمة المتحدث باسم التقراي قيتاشو ردا الذي قال إنهم قدموا تنازلات مؤلمة. وجاءت أبرز بنود الاتفاق على النحو التالي:
– التزام الأطراف بوقف نهائي ودائم للأعمال العدائية ويتعهدان بفك ارتباط القوات أو الجماعات المسلحة الخاضعة لسيطرتهما ويشمل الوقف الدائم للأعمال العدائية وقف جميع أشكال الدعاية العدائية والخطاب وخطاب الكراهية.
– سيمهد الوقف الدائم للأعمال العدائية الطريق لاستعادة النظام الدستوري في إقليم تيغراي والحوار السياسي بين الطرفين.
– يتفق الطرفان على استعادة وجود المصادقة الفيدرالية في ميكيلي من أجل خلق بيئة مواتية لاستئناف الخدمات العامة في المنطقة وكذلك لضمان سلامة سكان المدينة. لهذا الغرض، يتفق الطرفان على أن يكون لقوة الدفاع الإثيوبية والمؤسسات الفيدرالية الأخرى ذات الصلة دخولًا سريعًا وسلسًا وسلميًا ومنسقًا إلى ميكيلي، والذي سيتم تسهيله من خلال قناة الاتصال المفتوحة التي سيتم إنشاؤها بين كبار قادة الأطراف.
– الموافقة على نزع الأسلحة الثقيلة لمقاتلي جبهة التحرير الشعبية لتحرير تغراي كمسألة ذات أولوية بناءً على جدول زمني مفصل يتم الاتفاق عليه بين كبار قادة الأطراف. وينبغي أن تكتمل أنشطة نزع السلاح الواردة في الجدول في غضون عشرة أيام من اختتام اجتماع كبار القادة. يمكن تمديد فترة العشرة أيام بناءً على توصية كبار القادة ، لتوافق عليها الأطراف والموافقة على إنهاء نزع السلاح الشامل لمقاتلي جبهة التحرير الشعبية لتحرير تيغري ، بما في ذلك الأسلحة الخفيفة في غضون 30 يومًا من توقيع هذا الاتفاق.
إضافة إلى بنود بناء الثقة وطرق تنفيذ الاتفاقية وضمان حماية المدنيين وترتيبات وخطوات عودة الحياة إلى إقليم التقراي ووصول المساعدات الانسانية وتولي الحكومة الفيدرالية السيطرة الكاملة على الحدود الدولية إلى آخر تفاصيل الاتفاق.
خلاصات
يتضح من قراءة الاتفاقية وتصريحات بعض المسؤولين من الأطراف المتصارعة بأن هناك خفايا وأسرار خلف الوصول السريع لا شك أن حجم الخسائر الكبيرة في الأرواح كان أحدهما، وأن الأطراف قدمت تنازلات كبيرة. ففي جانب التقراي كان التنازل أكبر والخسائر أعلى بسبب كون المعركة أصلا تدور على أرضهم وبالتالي وصول آثار الحرب إلى كل شيء فيه، ولكن ثمة أسئلة كامنة خلف بنود الاتفاق؛ حيث لم تذكر الاتفاقية وضع القوات الإرترية عند الحديث عن سيطرة الحكومة الفيدرالية على الحدود الدولية. وفي حين ذكرت الاتفاقية حل المشكلات وفق الدستور، لكن دون الإشارة إلى تحديده وهل هو دستور 1994.
لم تذكر الاتفاقية وضع المناطق المتنازع عليها في غرب التقراي وهي من أهم نقاط الخلاف في النزاع. كما لم تذكر الاتفاقية وضع المليشيات الإقليمية التي كانت طرفا في النزاع خاصة في إقليمي الأمهرا والعفار.
وفي حين أشارت الاتفاقية إلى تمثيل التقراي في المؤسسات الفيدرالية، ولكنها لم تتطرق إلى جبهة تحرير التقراي ومن سيمثلهم كما لم تتطرق إلى السلطة التي ستدير الإقليم من هي وكيف يتم اختيارهم. أخيراً، لم يتم التطرق إلى الوسطاء الذين كان لهم الدور الرئيس في إيصال الأطراف إلى الاتفاق وعلى رأسهم المبعوث الأمريكي وما دورهم في متابعة تنفيذ الاتفاقية.
خاتمة
قبل عام من هذا التوقيت كانت كل ما تطلبه الحكومة الفيدرالية هو انسحاب التقراي من إقليم الأمهرا وإقليم العفار. واليوم يصرح رئيس الوزراء الإثيوبي بعد الاستيلاء على أغلب المدن في إقليم التقراي وتوقيع اتفاقية بريتوريا أنهم حققوا ما سعوا إليه بنسبة 100% وهو ما يعني تحقيقه للانتصار العسكري والسياسي على خصومه وهو ذات الأمر الذي جعل المتخصصين والمراقبين لإثيوبيا يشككون في امكانية تنفيذ ما اتفق عليه في بريتوريا خاصة وأن الجميع متفق على أن المهمة شاقة وعسيرة.