التصعيد في إقليم التقراي الإثيوبي
جمال محمد آدم
تصاعدت الأحداث في أثيوبيا من سيئ إلى أسوأ مع اندلاع المواجهة المفتوحة بين الحكومة الفيدرالية ومنطقة التقراي التي تتمتع بحكم ذاتي في شمال أثيوبيا. ففي الرابع من نوفمبر 2020م، أعلن رئيس الوزراء آبي أحمد عن هجمات تعرضت لها قواعد الجيش الأثيوبي في إقليم التقراي، بما في ذلك في مقلي عاصمة الإقليم، من قبل قوات جبهة تحرير شعب التقراي، الحزب الذي يحكم منطقة التقراي، وأعلن عن قراره في البدء بعملية عسكرية للجيش الأثيوبي ضد من وصفهم بالأثيوبيين “الخونة”. تأتي هذه التطورات نتيجةً للخلافات المستمرة بين حكومة أبي أحمد في أديس أبابا وقادة منطقة التقراي في مقلي، منذ صعود أبي أحمد إلى السلطة في نيسان/أبريل 2018.
واتهم أبي قادة الجبهة الشعبية لتحرير التقراي بمهاجمة ونهب معسكرات سيمن إيزي (القيادة الشمالية) التابعة لقوات الدفاع الفيدرالية في المنطقة لتعريض البلاد للأعداء الخارجيين، وهو الاتهام الذي نفاه قادة الجبهة. العدو الخارجي في هذا السياق يشير ضمنًا إلى مصر في ضوء الشكوك المتزايدة والخلافات المحتدمة بين البلدين حول مشروع سد النهضة على نهر النيل في إثيوبيا.
فقبل يوم واحد من بدء القتال الفعلي، أعرب رئيس إقليم التقراي، الدكتور ديبراتسيون قبري ميكائيل، رئيس الجبهة الشعبية لتحرير التقراي، الذي تم انتخابه في سبتمبر 2020م في ظل انتخابات خاصة بالإقليم أثارت حفيظة الحكومة الفدرالية، أعرب عن تخوف حكومته حول دلالة الهجمات العسكرية من قبل القوات المشتركة التابعة للحكومة الفيدرالية والأعداء الخارجيين الذين يرغبون في إسقاط حكومة إقليم التقراي وقيادتها. ويشير اصطلاح الخصم الخارجي في السياقات التي كررتها الجبهة الشعبية لتحرير تقراي وقادتها إلى تدخل الرئيس الإريتري أسياس أفورقي في الشؤون الداخلية لإثيوبيا.
وكان رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد قد حصل على جائزة نوبل للسلام لعام 2019م لجهوده في إنهاء عقدين من العداء بين أثيوبيا وإريتريا والتي تُوجت بتوقيع اتفاق سلام بين البلدين في عام 2018م تحت رعاية الملك سلمان بن عبد العزيز. في حين أن اتفاق السلام بين البلدين لم يُظهر أي تغييرات كبيرة عن الظروف التي كانت في فترة انعدام السلم بين البلدين، على سبيل المثال فيما يتعلق بفتح الحدود للسماح بحركة الأفراد والبضائع، والسماح لأثيوبيا باستخدام الموانئ الإريترية (كما تمنى الكثيرون)، وتمكين الناس من التفاعل في المناطق الحدودية. لذا يعتبر الكثيرون أن جهود أبي أحمد للاحتفاظ للسلام مع إريتريا كانت مدفوعة جزئياً بنيته في محاصرة التقراي وقادة جبهة الشعبية لتحرير التقراي بسبب خلافاته الحتمية معهم.
وفي حين كانت التناقضات الإيديولوجية وتقاسم السلطة السببين الرئيسيين للمناوشات بين حكومة آبي أحمد وقادة الجبهة الشعبية لتحرير التقراي، لا يمكن استبعاد اتهامات كل طرف للآخر بالعمل مع جهات خارجية نظراً للطبيعة المعقدة للأوضاع الجيوسياسية للقرن الأفريقي.
وفي يوم الخميس، تشرين الثاني/نوفمبر 2020م، أعلن البرلمان الاتحادي حالة الطوارئ لمدة ستة أشهر في إقليم التقراي، بينما أعرب رئيس إقليم التقراي عبر التلفزيون الإقليمي عن استعداد القوات الإقليمية لردع أي قوات تأتي لمهاجمة التقراي مما يدل على احتمال التصعيد طويل الأمد بين الحكومة الفدرالية وحكومة الإقليم. وقد أرسلت الحكومة الاتحادية وحكومة أمهرة الإقليمية العشرات من القوات العسكرية وشبه العسكرية إلى حدود ولاية التقراي الإقليمية. وبالمثل، اقتربت قوات التقراي شبه العسكرية وجنود القيادة الشمالية من حدود ولاية أمهرة الإقليمية. ولم يتم الإبلاغ عن عدد الضحايا حتى الآن بسبب انقطاع خدمات الاتصالات السلكية واللاسلكية والإنترنت في منطقة التقراي.
وللنظر في خلفية هذا التطور يمكن القول أن أثيوبيا في مرحلة الانتقال السياسي التي كانت مدفوعة بسلسلة من الاحتجاجات العرقية التي قادها الأورومو ، الأمهرة، السيداما والصوماليون، وغيرها من القوى السياسية التي قاومت سوء الإدارة للنظام الذي حكم البلاد منذ عام 1991م. ونتيجة لهذه الانتفاضات الشعبية، اعتمدت الحكومة إصلاحات داخلية توجت بترشيح رئيس الوزراء أبي أحمد في 2 أبريل/نيسان 2018م. وبعد فترة وجيزة من تولي أبي أحمد منصب رئيس الوزراء، بدأ في اتخاذ مواقف معادية للعقود الثلاثة من سيطرة الجبهة الشعبية لتحرير التقراي على الاقتصاد والسياسة والمؤسسات الأمنية بسبب دورها الرائد في الحرب ضد نظام الدرق. علاوة على ذلك استفادت الجبهة الشعبية لتحرير التقراي من سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في دعمها القوي لجهود الأخيرة للإطاحة بالنظام الاشتراكي الإثيوبي في الثمانينات وحربها العالمية على الإرهاب في القرن الأفريقي على مدى العقدين الماضيين.
كانت التحالفات بين مختلف القوى السياسية المعارضة، ذات المظالم العرقية والدينية، والجماعات الأيديولوجية قصيرة الأجل، بسبب قصر اتفاقها على كراهية الحكومة التي تهيمن عليها أقلية من عرقية التقراي. وبعد خروج الجبهة الشعبية لتحرير تقراي من السلطة، انتهت عمليا مرحلة التحالف بين مختلف القوى السياسية المناهضة للجبهة الشعبية. وبدأت مظاهر الصراع تتصاعد بين المكونات العرقية في عموم البلاد. وتتجلى مظاهر هذا الصراع في العنف الطائفي والتشريد الواسع النطاق، والأعداد الهائلة من القتلى، واستهداف كبار المسؤولين الحكوميين والشخصيات العامة في الأقاليم المختلفة، وهدم المؤسسات الدينية في مختلف أنحاء البلاد. وتحمل حكومة آبي أحمد الجبهة الشعبية لتحرير التقراي مسؤولية كل أعمال العنف السياسي والفوضى في عموم البلاد سواء في المركز أوفي أطراف البلاد في سعيها وفقاً لحكومة آبي أحمد لتخريب الإصلاحات، وزعزعة استقرار البلاد. وتأتي هذه الاتهامات على الرغم من عدم وجود تحقيقات مستقلة ومحايدة وإجراءات قانونية سليمة فيما يتعلق بهذه الأحداث.
وقد اشتدت التوترات بين زعيم جبهة الشعبية تحرير التقراي وأبى أحمد حين أعلن عن عدم اعترافه بآبي أحمد رئيساً للوزراء مدعياً أنه أنهى فترة ولايته الدستورية حيث اتخذت الحكومة الفدرالية قراراً بتأجيل جميع الانتخابات في البلاد بسبب انتشار وباء الفيروس الكورونا. الأمر الذي رفضته حكومة إقليم التقراي والجبهة الشعبية وأجرت انتخابات خاصة بها.
وفي حين أن التطورات السياسية الداخلية في أثيوبيا كانت دائماً مرتبطة بالسياقات الإقليمية والجيوسياسية وتدخل جهات خارجية سعيا وراء مصالحها في أكبر بلدان القرن الأفريقي، مما يشير إلا أنه من غير المرجح أن تتراجع الأزمة في وقت قريب، كما أنه من المحتمل أن يتحول الصراع الذي اندلع في شمال أثيوبيا إلى حرب أهلية واسعة النطاق وينتهي بفشل الدولة في ثاني أكبر دولة أفريقية من حيث عدد السكان.
وعلاوة على ذلك، فإن الأزمة الإثيوبية، إن لم تعالج عاجلا، من شأنها أن تتسبب في تدهور السلام والأمن في منطقة القرن الأفريقي الهشة أصلا. وستؤثر على استقرار الممرات المائية الاستراتيجية وخليج عدن والبحر الأحمر وتعيق التجارة الدولية. إن تصاعد التوترات وانفجار الحرب الأهلية من شأنه أن يؤدي إلى خسائر بشرية كارثية، وحالة لجوء هائلة، وعدم استقرار، وأزمة اقتصادية في المنطقة وسط موجة ك كوفيد 19. إن أزمة أثيوبيا، المركز الإقليمي العملاق في القرن الأفريقي، من شأنها أن تمزق منطقة القرن الأفريقي الأوسع، وهي واحدة من أكثر المواقع الجيوستراتيجية في العالم، والواقعة بين ممرين مائيين استراتيجيين هما البحر الأحمر وخليج عدن.
إن التطورات السياسية في بلدان القرن الأفريقي بما فيها أثيوبيا كانت دائماً مرتبطة بتنافس القوة الدولية من أجل النفوذ الجيوسياسي والاقتصادي والعسكري في المنطقة. إن التواجد العسكري المكثف والمتنوع من قبل العديد من الأطراف الدولية الفاعلة كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا واليابان والصين وإسرائيل والعديد من الدول الأوروبية بذريعة حماية المصالح الاقتصادية وتأمين الممرات المائية في منطقة القرن الأفريقي تساهم في عسكرة المنطقة وزيادة حدة التوترات فيها بالرغم من بعض المزايا الاقتصادية التي تحصل عليها دول شرق أفريقيا في شكل استثمارات ومساعدات تنموية وإيجارات الموانئ والقواعد العسكرية.
إن أسوأ السيناريوهات وأفضلها بالنسبة لإثيوبيا تعتمد على مواقف الأطراف المحلية المتنازعة (الحكومة الاتحادية والحكومة الإقليمية في التقراي) والجهود الإيجابية التي يبذلها اللاعبون الخارجيون للحد من زعزعة الاستقرار ودعم عملية التفاوض السياسي بين الفصائل بما يحقق الاستقرار العاجل للمنطقة.
انطلاقاً من أفضل السيناريوهات، فإن أفضل سيناريو لمستقبل البلاد، والذي يبدو غير مرجحاً، وهو تجنب النهج العسكري تجاه حل المشاكل السياسية والتحرك نحو سياسات شاملة متوازنة وديمقراطية. ويمكن القيام بذلك من خلال إشراك أطراف ثالثة محايدة مثل المؤسسات الإقليمية والقارية. فالحلول السياسية للحوار ومساومة النخب هي وحدها التي يمكن أن تُخفف من السياسات العرقية في البلاد. وهكذا ينبغي أن يكون التزام الطرف الثالث في الاتجاه نحو إنشاء أطر مؤسسية يمكن للناس أن يثقوا بها من أجل أمنهم المشترك بدلاً من نزوعهم نحو المجموعات العرقية الذين ينتمون إليها لتأمين مصالهم وأمنهم.
إن الأوضاع الأمنية الراهنة في البلد لا تعزى فقط إلى غياب مؤسسات قوية لحماية الناس من العنف الذي ترتكبه قوات أمن الدولة، وهم خصوم مفترضون، ولكن أيضاً بسبب هشاشة المؤسسات المعنية بحماية الناس وضمان سيادة القانون بشكل عادل ومتوازن. وفي هذا الصدد، لا يوجد أمل كبير على الصعيد الداخلي في تطور عملية تفاوض سياسي حقيقي نظراً للبون الشاسع بين المصالح السياسية للأطراف وقلة الاستعداد لتضييق هامش الخلافات.
ومن المفارقات أنه بدلاً من العمل على إيجاد حلول للأزمة السياسية في البلاد، فإن معظم القوى السياسية تفضل تدخل أطراف خارجية، والبحث عن شركاء خارجيين والمساعدة لكسب الصراع على حساب الأطراف الداخلية. وحتى الآن، فإن مواقف الجهات الخارجية الفاعلة، وخاصة الحكومات الغربية، ليس واضحاً ما إذا كانت ستواصل على دعم الطرف القوي في المعادلة والعمل على دعم النخب الراعية لمصلحتها أو لتسهيل الانتقال الحقيقي نحو الديمقراطية على أساس الحقائق والسياقات الإثيوبية. وقد دأبت الحكومات الغربية على تقديم مساعدات مالية وأمنية واستخباراتية لحكومة أبي أحمد لإجراء إصلاحات سياسية.
وبخصوص أسوأ سيناريو يمكن أن يحدث هو البلقنة، والتفكك الإقليمي الذي تزعم بموجبه القوى السياسية المتنافسة القائمة على العرق إنشاء دولها المستقلة. ولن تكون هذه العملية سهلة لأن الحركات الانفصالية ستحارب من أجل ملكية الأراضي والموارد وتميل إلى استبعاد الآخرين والذين بدوره قد يؤدي إلى عمليات الإبادة الجماعية وسفك الدماء من قبل الأغلبية تجاه الأقليات العرقية الأخرى.
إن الصراعات المحلية المعاصرة، وطريقة اندلاعها، واستمرارها، هي انعكاس للاتجاهات العالمية وتنافس القوة الجيوسياسية وديناميات العلاقات الدولية. وبالتالي، فإن الاتجاهات الجيوسياسية المتدهورة حاليا في القرن الأفريقي والظروف الداخلية لأثيوبيا قد تقود الجهات الخارجية الفاعلة نحو تسوية سلمية للنزاعات بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم التقراي.
ومع ذلك، فإن تضخيم التوقعات للدعم الخارجي قد تضلل أيضاً الحسابات السياسية للأطراف المحلية الفاعلة لبدء مساومات سياسية حقيقية على أساس الحقائق والظروف المحلية. وبالتالي فإن الاتجاهات التي سيميل إليها الصراع الجاري في أثيوبيا تعتمد على التفاعل بين الواقع السياسي المحلي للبلد، والتطلعات الجيوسياسية الخارجية المختلفة وأدوار هذه الأطراف الخارجية التي ستضطلع بها لمعالجة المأزق السياسي في البلاد.