السودان ما بعد اتفاق جوبا
(إرادة بناء السلام الشامل في مواجهة إدارة تعقيد المشهد السياسي)
الأستاذ الدكتور/ كمال محمد جاه الله الخضر
أكاديمي سوداني*
مقدمة
يحاول هذا المقال تسليط الأضواء على اتفاق جوبا، الذي تمّ في عاصمة دولة جنوب السودان في الثالث من أكتوبر 2020 بين الحكومة الانتقالية السودانية، والجبهة الثورية بمكوناتها المختلفة. كما يحاول رصد التداعيات التي ترتبت على هذا الاتفاق، ومن ثم عرض مواقف الأطراف المختلفة منه، إضافة إلى تتبع آفاق ومستقبل هذا الاتفاق.
وقبل ذلك يمهّد المقال بإشارات سريعة لتشكيل الحكومة الانتقالية السودانية، وكيفية تعاملها مع عملية بناء السلام، مع التركيز على اتفاق جوبا، الذي تم في 31 أغسطس 2020-بحسبانه الاتفاق، الذي مثّل النسخة الأولى لاتفاق جوبا، الموقع في 3 أكتوبر 2020.
ملف السلام كأولوية في أجندة الحكومة الانتقالية السودانية
شهد السودان في الفترة من 19 ديسمبر 2018 إلى 11 أبريل 2019، أي لنحو أربعة أشهر حراكا ثوريا-انتظم مدن ومناطق ولايات السودان المختلفة. وشهد الحادي عشر من أبريل 2019 ميلاد صفحة جديدة في تاريخ السودان-حيث استلمت السلطة مجموعة من القوات المسلحة معلنة، انحيازها للجماهير الثائرة، وطويت صفحة حكم الإنقاذ. وكما هو متوقع في مثل هذه الوضع-تشكّل مجلس عسكري انتقالي ترأسه الفريق/ عبد الفتاح البرهان؛ ليقود فترة ما قبل تشكيل حكومة المرحلة الانتقالية، بالشراكة مع قوى إعلان الحرية والتغيير، حاضنة الثورة.
وبعد أن أدّى أعضاء المجلس السيادي اليمين الدستورية برئاسة الفريق/ عبد الفتاح البرهان، يوم الأربعاء 21 أغسطس 2019م، كما أدّى في اليوم نفسه الدكتور/ عبد الله حمدوك القسم كرئيس للوزراء-بدأت الإجراءات الفعلية لتشكيل الحكومة الانتقالية. ومباشرة بعد أداء القسم تعهد حمدوك، في أول مؤتمر له بجعل تحقيق السلام، وحل المشكلة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد-أولوية المرحلة الانتقالية، ولخص الأهداف في أن شعار: “حرية سلام وعدالة”، سيشكل برنامج المرحلة الانتقالية”. وأردف: “الحرية والسلام والعدالة هي برنامجنا، وأولوياتنا بناء السلام المستدام، وعلينا بناء اقتصاد لا يقوم على الهبات .
وبعد تأجيل متكرر دام لأكثر من أسبوعين منذ أداء الدكتور عبد الله حمدوك اليمين الدستورية رئيسا للوزراء في 21 أغسطس 2019م، كما أشرنا -تمّ الإعلان عن تشكيل حكومة جديدة في السودان في 6 سبتمبر 2019م. وقد مثل هذا التشكيل مرحلة جديدة، وانطلاقة حقيقية لفترة انتقالية في السودان، تعد الخامسة التي تشهدها البلاد. وأعقبت تشكيل الحكومة الجديدة في 6 سبتمبر 2019م-فترة انتقالية مهمة في تاريخ السودان، يعول عليها الكثير من الإصلاح، إصلاح ما أفسده النظام السابق في كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إضافة إلى ذلك- فقد ترسم هذه الفترة آفاق ديمقراطية، وتداول سلمي للسلطة، حيث وقع المجلس العسكري، وقوى إعلان الحرية والتغيير على وثيقة الإعلان الدستوري بحضور محلي ودولي كثيف… واتفق الفرقاء السودانيين على جدول زمني للمرحلة الانتقالية في البلاد، منها: حلّ المجلس العسكري الحاكم حاليا، وتشكيل مجلس السيادة لقيادة الدولة، ويترأس أحد العسكريين المجلس لمدة 21 شهرا، بعد التوقيع على الاتفاق مباشرة، وتعقبه رئاسة أحد الأعضاء المدنيين لمدة 18 شهرا المتبقية، وبعد ذلك ينهي عمل المجلس بإجراء انتخابات يحدد بموجبها الشعب قيادته .
ابتداء، يمكن القول إن كل حكومات المراحل الانتقالية، التي مرت على السودان، توصف عادة بالحرجة، لأنها مليئة بتحديات جسام . وسبق القول إن رئيس وزراء المرحلة الانتقالية الحالية أشار إلى ملفين مهمين جعل لها الأولوية لحكومته، وهما ملفا: السلام والاقتصاد، وكأنه هنا يشير إلى أهم تحديين سيواجهان حكومته، وقد كان. الحق أن هناك الكثير من التحديات، التي تواجه حكومة المرحلة الانتقالية، ولكن تأتي في مقدمتها: تحدي السلام.
أعلن رئيس الوزراء، عقب إعلانه لتشكيل حكومته، في السادس من سبتمبر 2019م بأن أحد أولويات حكومته-يتمثل في وقف الحرب وبناء السلام المستدام، وشدد على أن الحركات المسلحة شريكة في الثورة، وأن الفرص مواتية لتحقيق السلام في البلاد، ولتشكيل لجنة مصغرة من جانب المجلس السيادي، ومجلس الوزراء لوضع إطار عام لمفاوضات السلام. وسيكون على الحكومة الجديدة في غضون ستة أشهر إبرام اتفاق سلام مع حركات التمرد في الولايات، التي تشهد نزاعات .
من المؤكد أن عملية بناء السلام في السودان-تعدّ التحدي الأبرز، الذي يواجه الحكومة الانتقالية، لذلك لا بد من استغلال الأجواء، التي صنعتها الثورة لشعب السودان في رفض الصراعات، التي انتظمت لأمد طويل بعض ولايات السودان. وعليه من المتوقع أن تمرّ عملية السلام بمرحلتين :
المرحلة الأولى: مناقشة القضايا السياسية بين المركز والأطراف، أي بين الحكومة المركزية في الخرطوم والأقاليم التي تعاني التهميش، فضلا عن تقاسم السلطة والثورة.
المرحلة الثانية: تتمحور حول القضايا الأمنية ودمج المليشيات المسلحة في الجيش السوداني. (وهي المرحلة التي أعلن في 18 مارس 2020م البدء في مفاوضاتها بجوبا، واستمرت حتى توقيع اتفاق جوبا في 3 أكتوبر 2020).
بمجيء الثورة، والتغيير الذي صحبها، ومن ثم تشكيل الحكومة الانتقالية- بدا للكثير من المراقبين أن هناك إمكانية سريعة للوصول إلى سلام بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة، ولكن ما ظنه المراقبون سهلا في عملية السلام، التي كان من المقرر أن تنتهي مدتها بنهاية فبراير 2020م ، بدا متعسرا، وحتى وقتها ظن البعض أن مجرد وجود الجبهة الثورية في التحالف الكبير لقوى الحرية والتغيير، سيكون سببا ميسرا إلى الوصول إلى حلول، ولكن للأسف بدا التعثر في مسارات السلام بارزا، كما لو أن الأمر اليوم، هو ذلك الذي كان عليه البارحة عبر المفاوضات العبثية بين نظام البشير والحركات المسلحة والمعاهدات الهشة، التي كانت تعقد لتنتهي في الداخل والخارج .
وتواصلت المحادثات بين الفرقاء السودانيين في مدينة جوبا (حتى الثاني من أكتوبر 2020م)، وقد أظهر تحالف قوى الحرية والتغيير ليونة أكثر في التعاطي مع استحقاقات السلام، وطلبات الحركات المسلحة. وكانت قوى الحرية والتغيير تتمسك بتسريع عملية تشكيل مجلس تشريعي، وتعيين ولاة جدد، وعدم رهن هذه المسألة بملف السلام، وهو الأمر الذي رفضته بشدة الحركات المسلحة، التي تطالب أن تكون مساهما رئيسيا في هذين الاستحقاقين . ولكن على الرغم من رفض حركات الكفاح المسلحة-تمّ استبدال الولاة العسكريين بولاة مدنيين، محاصصة بين مكونات قوى الحركة والتغيير، ولم تفلح الحكومة الانتقالية في تشكيل مجلس تشريعي.
وبتاريخ 18 مارس 2020م-أُعلن عن بدء انطلاقة المفاوضات بين الحكومة ومسار دارفور حول الترتيبات الأمنية، ذلك وفقا للجدول المتفق عليه، على أن يستمر لمدة عشرة أيام، أملا في أن يتمكن الطرفان من معالجة القضايا الأمنية، والتي ستشمل كافة القضايا المتعلقة بالجيوش، ودمجها، وجمع السلاح، ووضع حد للمليشيات، وكل القضايا الأمنية .
اتفاق جوبا (31 أغسطس 2020) المكاسب وتعقيد المشهد السياسي والأمني:
وفي الحقيقة أن مفاوضات ماراثونية استمرت بين الأطراف بعد انضمام مسارات أخرى (الشرق، والشمال، والوسط، والنيل الأزرق وجنوب كردفان) إلى مسار دار فور للتفاوض في جوبا-استمرت بصورة جدية من منتصف مارس 2020م، وحتى نهاية أغسطس من العام نفسه. وقد كللت باتفاق جوبا 31 أغسطس 2020م، الاتفاق الممهد لاتفاق جوبا للسلام في 3 أكتوبر 2020م.
وقد كان اتفاق جوبا، الذي وقعته الحكومة السودانية والحركات المسلحة في 31 أغسطس 2020م بالأحرف الأولى- اتفاق إعلان مبادئ، بحضور رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، بالإضافة إلى رئيس دولة جنوب السودان سلفا كير ميارديت.
ولقد حظي هذا الاتفاق بأهمية كبيرة، كونه ينهي نحو 17 عاماً من الحرب الأهلية، التي كانت لها تداعياتها المدمرة على وحدة الدولة الوطنية في السودان، فضلاً عن تأثيراتها السلبية الشديدة في عملية الاستقرار السياسي، وما جلبته من خسائر فادحة لعملية التنمية الاقتصادية في البلاد .
ومن جانب آخر، وفقا لمراقبين، فإن هذا الاتفاق التاريخي للسلام- تضمن حلولاً متكاملة لجذور الحرب الأهلية في السودان، من خلال تضمنه بروتوكولات عدة، هي: الأمن، وقضية الأرض، والحواكير(وتستخدم في المجتمع الريفي حيث يطلقها سكان الريف على قطعة الأرض المتصلة بالسكن وهي أرض صغيرة المساحة يخصصها صاحب السكن لزراعة الخضار اللازمة للاستهلاك المنزلي اليومي( والعدالة الانتقالية، والتعويضات، وجبر الضرر، وبروتوكول تنمية قطاع الرحل والرعاة، وقسمة الثروة، وبروتوكول تقاسم السلطة، وقضية النازحين واللاجئين؛ الأمر الذي يعني أنه يشكل أساساً قوياً لإرساء مرحلة جديدة في تاريخ السودان، يسودها الاستقرار والتعايش المشترك. كما ينص الاتفاق على ضرورة تفكيك الحركات المسلحة، وانضمام مقاتليها إلى الجيش النظامي، الذي سيعاد تنظيمه ليكون ممثلاً لجميع مكونات الشعب السوداني .
وأوردت وسائل إعلام أخرى أن أبرز بنود الاتفاق-تلخصت في وقف الحرب، وجبر الضرر، واحترام التعدد الديني والثقافي، والتمييز الإيجابي لمناطق الحرب، وهي دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان. كما نص الاتفاق، وفقا لتلك الوسائل، على تمديد الفترة الانتقالية إلى 39 شهراً ابتداء من تاريخ توقيع الاتفاق، على أن تشارك الأطراف الموقعة في السلطة الانتقالية بثلاثة مقاعد في مجلس السيادة، ليرتفع عدد أعضاء المجلس إلى 14 عضواً، وسيحصل الموقعون أيضاً على 5 مقاعد في مجلس الوزراء، حيث يتوقع رفع عدد الحقائب الوزارية إلى 25 حقيبة، و75 مقعداً في المجلس التشريعي، الذي يتوقع تشكيله من 300 عضواً. وتضمنت بنود تقاسم السلطة تمكين المناطق المتضررة من الاستفادة الكاملة من نحو 40 في المئة من عوائد الضرائب، والموارد والثروات المحلية في حين تذهب نسبة 60 في المئة المتبقية للخزينة المركزية .
وفي ذات السياق- حدد الاتفاق 39 شهرا لعملية الدمج والتسريح، المتعلقة بمقاتلي الحركات المسلحة مع تشكيل قوات مشتركة من الجيش السوداني والشرطة والدعم السريع، لحفظ الأمن في ولاية دارفور والمنطقتين، تمثل فيها قوات الحركات المسلحة بنسب تصل إلى 30 في المئة. هذا، ونص الاتفاق كذلك على منح منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان- صيغة حكم ذاتي حددت من خلالها اختصاصات السلطات المحلية والفدرالية، بما في ذلك سن القوانين والتشريعات، التي اتفق على أن تستند لدستوري 1973م، إضافة إلى تشكيل مقتضيات أهمها مفوضية للحريات الدينية .
وعلى الرغم أن من هذا الاتفاق-تضمن العديد من الاختراقات، فيما يخص القضايا الجوهرية للمناطق الثلاث المتأثرة بالحرب (دار فور وجبال النوبة والنيل الأزرق)، وما صاحبها من تداعيات، بل وعمل على تلبية كل صغيرة وكبيرة تتعلق بمطالبها، إلا إن بعض الأطراف السودانية، كانت لها ملاحظات جوهرية حول هذا الاتفاق، لدرجة التوقع بأن هذا الاتفاق سوف يعقد المشهد السياسي والأمني في البلاد، على التعقيد الذي يتسم به أصلا. إضافة إلى الخوف من أنه سيفتح أبواب العديد من الأزمات.
مهما يكن من أمر-فقد أبدت بعض القوى السودانية تخوّفها من أن يعقد الاتفاق الجزئي المشهد السياسي والأمني في البلاد، وقال المكتب السياسي للحزب الشيوعي في بيان إن اتفاقية جوبا للسلام، بصورتها الراهنة لن تحقق السلام المنشود، لأنها ليست اتفاقية شاملة أو نهائية، كما تدعي أطرافها، ومهدد لوحدة ومستقبل البلاد، وفقا لتعبير البيان. ورأى بيان الحزب الشيوعي أن ما جرى هو تكرار للتجارب السابقة الثنائية، والحلول الجزئية، التي تنتهي بمحاصصات ومناصب للمفاوضين على حساب القضايا الأساسية. لكن الوساطة والأطراف الموقعة، تقول إن الاتفاق يعالج قضايا شملت الجوانب السياسية، والترتيبات الأمنية، والمسارات السياسية، وتقاسم السلطة والثروة .
وفي ذات السياق-خشي كثيرون أن يفتح التوقيع على اتفاق السلام المزيد من الأزمات، وليس العكس، لأن بعض القضايا التي تم حلها نظريا-يمكن أن تنفجر عند دخولها حيز التنفيذ، فهناك شياطين التفاصيل، الخاصة بالترتيبات الأمنية في الأقاليم، ودمج العناصر المسلحة في المؤسسة العسكرية، ودفع التعويضات، لم تختبر فعليا على الأرض، ويمكن أن تفجر مشكلات يصعب احتواء تداعياتها.
إن ما تم الاتفاق عليه يحتاج إلى ترتيبات خاصة على مستوى الاستعدادات في مجال الموارد المالية، وعلى مستوى الصبر على التنفيذ من منطلق إعطاء زمن كاف لتطبيق ما تم التنظّير له تفصيليا في الاتفاق، فكل بند تم الاتفاق عليه يحتاج إلى سياسة النفس الطويل، التي لا تستعجل النتائج.
اتفاق جوبا أكتوبر 2020م تحديات وآفاق
بعد التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق جوبا في 31 أغسطس 2020م-لم تتوقف عملية التفاوض بين الأطراف، حيث ظلت هذه الأطراف لأسابيع تناقش القضايا المختلفة، وتفاصيلها عبر مائدة التفاوض. في الوقت نفسه-كانت الحكومة الانتقالية وحاضنتها السياسية قوى الحرية والتغيير، تحتفي بهذا الإنجاز المهم في الإعلام، وفي بعض الساحات والميادين. وكان ضمن احتفائها هذا تبشير باتفاق شامل يتم التجهيز له على قدم وساق في جوبا.
شهدت عاصمة جنوب السودان-جوبا توقيع الحكومة السودانية اتفاق سلام مع عدة جماعات سودانية متمردة، بهدف إنهاء سنوات من الصراعات المسلحة في إقليم دارفور، وجنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق. وجرت مراسم التوقيع في جوبا، عاصمة جنوب السودان، بشكل نهائي على اتفاق مبدئي تم التوصل إليه في 31 أغسطس 2020م. وحضر مراسم التوقيع رؤساء كلٍّ من تشاد وجيبوتي والصومال، بجانب رئيسيْ وزراء مصر وإثيوبيا، ووزير الطاقة الإماراتي، والمبعوث الأمريكي الخاص لدولتي السودان وجنوب السودان، وممثلين لعدد من الدول الغربية، بجانب قادة السودان، بمن فيهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، ورئيس المجلس السيادي الانتقالي الفريق عبد الفتاح البرهان، ونائب رئيس المجلس السيادي، اللواء محمد حمدان دقلو.
وقّع على الاتفاق من جانب المعارضة المسلحة الجبهة الثورية السودانية، التي تضم خمس حركات مسلحة، منها حركة جيش تحرير السودان جناح أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة، والحركة الشعبية جناح مالك عقار، وذلك إلى بجانب فصائل أخرى وأربع حركات سياسية أخرى. وتخلفت عن المشاركة في عملية السلام، حركة تحرير السودان، التي يقودها عبد الواحد محمد نور في دارفور، فيما لا تزال المفاوضات مستمرة مع فصيل الحركة الشعبية – شمال، بقيادة عبد العزيز الحلو لإلحاقه بالمفاوضات .
يسعى اتفاق السلام السوداني الموقع في جوبا في 3 أكتوبر 2020م-إلى طي دوامة من الحروب، امتدت لسنوات طويلة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وخلفت آلاف الضحايا، ونحو 3 ملايين لاجئ ونازح داخل وخارج البلاد. ويعمل على إصلاح المؤسسة العسكرية، من خلال عمليات دمج قوات حركات الكفاح المسلح الواردة في بند الترتيبات الأمنية. وتضمن الاتفاق ستة بروتكولات، من بينها تقاسم السلطة، والترتيبات الأمنية وتقاسم الثروة. ومن أهم نصوص الاتفاق: بدء فترة انتقالية في البلاد تستمر ثلاث سنوات بداية من لحظة التوقيع، وضمان ثلاثة مقاعد في مجلس السيادة، وخمس حقائب وزارية في مجلس الوزراء لقادة الفصائل المسلحة، وحكم ذاتي لجنوب كردفان والنيل الأزرق. وفي جانب الترتيبات الأمنية، قرّر الاتفاق دمج قوات فصائل الجبهة الثورية في القوات المسلحة، مع تشكيل قوة مشتركة، قوامها عشرون ألف جندي؛ لحفظ الأمن في إقليم دارفور. وسيدفع صندوق جديد أيضًا سبعة مليارات ونصف المليار دولار، على مدى السنوات العشر القادمة، للمناطق الغربية والجنوبية الفقيرة من السودان .
مواقف الأطراف من الاتفاق
منذ توقيع اتفاق سلام جوبا، فإن العبارة الأكثر ترددا هي جملة “السلام ناقص”، لغياب أبرز حركتين مسلحتين عن الاتفاق، فهما الأكثر تواجدا على الأرض كقوة عسكرية. وهما حركة نور، والتي تقاتل في دارفور، وترفض أي تفاوض مع الحكومة، وحركة الحلو، التي تتمسك بفصل الدين عن الدولة، وتحديد مصير ولايتي النيل الأزرق، وجنوب كردفان في التفاوض . وفيما لا تزال حركة عبد الواحد محمد نور تتمسك بمبدأ عدم التفاوض مع الحكومة الانتقالية-فإن حركة عبد العزيز الحلو-فضلت ركوب قطار التفاوض، وعلى الرغم من أن تفاوضها مع الحكومة قد توقف في 20 سبتمبر 2020م-إلا إنها استأنفته عقب توقيع اتفاق جوبا 3 أكتوبر 2020م.
وفي السياق نفسه-أشارت بعض وسائل الإعلام إلى عقد اجتماع ضم عبد العزيز الحلو وتوت قلواك، مستشار رئيس دولة جنوب السودان، رئيس الوساطة-يوم الأربعاء 7 أكتوبر 2020م. ويأتي هذا التطور بعد أقل من أسبوع على توقيع اتفاق السلام بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية، وعدد من الحركات الأخرى . وبعد نحو ثلاثة أسابيع عقدت في جوبا ورشة ضمت وفدا حكوميا ووفدا من الحركة الشعبية جناح الحلو يومي 31 أكتوبر والأول من نوفمبر 2020م-وكانت تلك الورشة إنفاذا لاتفاق جرى بين الحلو وحمدوك في أديس أبابا في 3 سبتمبر 2020م، وهي تخص علاقة الدولة بالدين. غير أن حركة الحلو بتاريخ 2 نوفمبر 2020م-أعلنت أن الوفد الحكومي رفض توصيات الورشة الخاصة بعلاقة الدولة بالدين ، مما يدل على أن التفاوض بين الحكومة وحركة الحلو إن لم يكن قد فشل، فقد اقترب من الفشل.
وكما هو متوقع فقد رحبت الحكومة الانتقالية بتوقيع سلام جوبا-كما رحبت به الأحزاب والحركات المسلحة والقوى المنضوية تحت لواء الجبهة الثورية-إضافة إلى أحزاب سودانية أخرى، لها وزن في الساحة السياسية السودانية، وإن كان ترحيبها يقل درجة مقدرة مقارنة بالحكومة الانتقالية والجبهة الثورة. وشذ عن الترحيب بهذا الاتفاق الحزب الشيوعي السوداني، وجاهر بالكارثة المترتبة عليه، كما سنشير لاحقا.
بالرغم من ترحيب قطاع عريض من السودانيين بالاتفاق؛ إلا أن ثمة احتجاجات في شرقي السودان ضد اتفاق جوبا، والتي لفتت الأنظار إلى عقبات قد تواجه الاتفاق الموقع بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية، وأدت الاحتجاجات الرافضة للاتفاق المتعلق بمسار الشرق في عملية السلام، إلى إغلاق الطريق السريع وتعطيل العمل في ميناء بورتسودان، بجانب مقتل ضابط شرطة في مدينة “هيا” شرقي السودان، بحسب وزارة الداخلية. ودفعت الاحتجاجات مجلس الدفاع والأمن (أعلى هيئة أمنية برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان)، الاثنين 5 أكتوبر، إلى الإعلان عن تشكيل لجان لمعالجة قضايا شرق السودان. كما قرر تكوين لجنة للإعداد لمؤتمر تشاوري دستوري جامع لمواطني شرق السودان، بشأن اتفاق سلام جوبا .
ومهما يكن الأمر من تقييم احتجاجات الشرق ضد اتفاق جوبا-فإنها لفتت الأنظار إلى عقبات قد تواجه “اتفاق السلام”، الموقع بين الحكومة السودانية و”الجبهة الثورية”. وأبانت عدم العدالة في هذا الاتفاق، الذي يحرز للشرق شيئا يستحق الاحتفاء.
وإذا نظرنا إلى موقف بعض الحركات الدار فورية غير الموقعة على الاتفاق-نجد أن 14 حركة مسلحة ترفض اتفاق جوبا، بل وتحمل الحكومة الانتقالية في الخرطوم المسؤولية الكاملة لأي تداعيات محتملة.
لقد ورد في بعض وسائل الإعلام خبر انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي-ذلك أن قوى الجبهة الوطنية المتحدة (تقاوم) وهو عبارة عن تحالف يتكون من:
1- حركة/ جيش تحرير السودان الإصلاح بقيادة فيصل عبد الرحمن السحيني. (دار فور).
2- تحالف حركات تحرير السودان بقيادة المهندس محمد صالح حربة. (دار فور).
3- تحالف قوي التحرير السودانية بقيادة الأستاذ جار النبي عبد الكريم يونس. (دار فور).
4- حركة وجيش تحرير السودان القيادات التاريخية بقيادة أحمد آدم عزالدين. (دار فور).
5- الجبهة الفدرالية السودانية بقيادة الدكتور إسماعيل عبد الهادي إمام. (جنوب كردفان).
6- حركة البركان الثورية بقيادة محمد آدم كابتين. (دار فور).
7- الحركة الشعبية لرد الحقوق بقيادة الفريق محمد أحمد إبراهيم عرديب (شرق السودان). ويرأس هذا التحالف فيصل عبد الرحمن السحيني. أعلن هذا التحالف رفضه لاتفاق جوبا، حيث أكد القائد الأستاذ/ فيصل عبد الرحمن السحيني، رئيس تحالف قوى الجبهة الوطنية (تقاوم) رفضهم التام للاتفاق الموقع بين حكومة الفترة الانتقالية والجبهة الثورية، الذي تم مؤخرا بالعاصمة جوبا، مبينا أن الحكومة الانتقالية والوسيط اختزلا كل حركات الكفاح المسلح في أربع حركات فقط، الممثلة في الجبهة الثورية، والتي لا تمثل الأغلبية، مشيرا إلى أن الجبهة الثورية تسعى منذ البداية لوضع مصالحها الشخصية، دون اعتبار للمطالب الأساسية والقضايا الحقيقية، وفق مصالح وتقاطعات سياسية لا تمثل إنسان المنطقة بإقليم دار فور، وقال إن إجراءات الوساطة والحكومة بلا معايير في تحديد أوزان أطراف التفاوض بإدخالها تنظيمات بلا وزن سياسي، وبلا مسارات معروفة .
خارجيا رحبت دول الترويكا (الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج) بتوقيع اتفاق جوبا، وذكر بيان صادر عن الترويكا-أن اتفاق السلام يمثل خطوة مهمة نحو تلبية دعوات الشعب السوداني للحرية والسلام والعدالة، خاصة للمتضررين من الصراع في دار فور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وغيرها من أجزاء السودان. وأوضح أن الاتفاق يتضمن وقف إطلاق النار، وزيادة مشاركة حركات المعارضة، والمجتمعات المتضررة من النزاعات في الحكومة الانتقالية. إضافة إلى آليات وتعهدات للمصالحة والعدالة وتقاسم الموارد . وخارجيا أيضا رحبت بالاتفاق دول عديدة إقليمية ودولية، كانت حاضرة لمراسم الاتفاق، عبر ممثليها، مثل: مصر والسعودية والإمارات وتشاد والولايات المتحدة، وغيرها.
وفي سياق عدم الرضا من أداء الحكومة الانتقالية في ملفات عديدة، من بينها: الاقتصاد والتطبيع، شنّ الحزب الشيوعي السوداني حملة عنيفة على أداء الحكومة في مجال ملف السلام، وخص المكون العسكري بهذا الهجوم، حيث وصفه بأنه اختطف ملف السلام، مما يعني فرض رؤيتهم للحل.
لقد أوردت بعض أجهزة الإعلام أن السكرتير السياسي للحزب الشيوعي المهندس محمد مختار الخطيب-حذر من أن يؤدي اتفاق سلام جوبا الموقع بين الحكومة والجبهة الثورية في الثالث من الشهر الجاري من أن يقود الاتفاق إلى حرب ليس بين الحكومة والمركز والأطراف، إنما بين مكونات الاقليم الواحد. وقال إن هذه الاتفاقيات تهدد السلام وتقود للحرب وتضر بالنسيج الاجتماعي، وتؤدي للاضطراب في التعايش السلمي، وتهدد وحدة السودان. ووصف الخطيب اتفاق جوبا بأنه غير دستوري، وكذلك إجازته غير دستورية، وأن المجلس الأعلى للسلام، الذي تم تشكيله غير دستوري، وأضاف إن العسكر اختطفوا ملف السلام واستلموا مهام تنفيذية، وأوضح الخطيب إن تغول العسكر على ملف السلام-يهدف لدعم وتعزيز موقف الهبوط الناعم في الحكومة الانتقالية. وأشار الخطيب إلى أن الهدف من مفاوضات السلام الختامية وحلولها الجزئية الهدف منها تقسيم الكيكة والثروة والسلطة، وانتقد الخطيب الاتفاقية لتمخضها عن مسارات السلام، التي اتبعت في المفاوضات لمناطق لم تشهد حروباً ولا جيوشا، وهذه المسارات تمت مواجهتها برفض شعبي في مناطقها .
في إطار تقييم اتفاق جوبا للسلام-يرى بعض المتابعين لقضية السلام في السودان، وفقا لفرانس برس، أن الاتفاق تطرق إلى جذور القضايا السودانية. وأن الاتفاقية ستوقع عليها أغلب الحركات المسلحة ماعدا اثنتين، يتوقع أن تشجعهما على توقيع اتفاق سلام والانضمام للعملية السلمية في البلاد، لأن هذه الوثيقة نظرت إلى القضايا السودانية بصورة واقعية، وفي حال تم تطبيقها ستحقق سلاما” .
وفي إطار تقييم الاتفاق أيضا-ذكر بيان صادر عن الترويكا أن “اتفاق السلام يمثل خطوة مهمة نحو تلبية دعوات الشعب السوداني للحرية والسلام والعدالة، خاصة للمتضررين من الصراع في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وغيرها من أجزاء السودان” . علاوة على ذلك فقد رأت فيه العديد من الدول، التي كان لها حضور بارز في مراسم الاتفاق-رأت فيه مخرجا لأزمات السودان، ومعالجة للاقتصاد المتدهور فيه، ووقفا للحرب التي دمرت أطرافه، وخلفت الكثير من الضحايا.
التحديات المتوقعة لاتفاق جوبا أكتوبر 2020م
من المتوقع أن تواجه اتفاق جوبا جملة من التحديات أهمها:
أولا : عدم توقيع حركتي عبد الواحد محمد نور وعبد العزيز الحلو، على الاتفاق، وهما حركتان لهما وجود مؤثر في الميدان، مقارنة بالحركات الموقعة على الاتفاق. لذلك ستظل عملية السلام منقوصة بدون هاتين الحركتين.
ثانيا: استمرار انقسام الحركات المسلحة، التي وقعت اتفاق السلام، وغياب الانسجام بين الحركات والكتل الموقعة على اتفاق السلام في الجبهة الثورية، حيث يزداد احتمال تعقيد فرص إحلال سلام حقيقي في دارفور، كما أن احتمالات الانشقاق ستزيد كذلك حال تأخر تنفيذ بند الترتيبات الأمنية، فهذا وحده كفيل بالعودة إلى الحرب من جانب مجموعات مسلحة منشقة عن الحركات التي وقعت اتفاق السلام .
ثالثا: أن بعض قيادات الجبهة الثورية صدرت في حقها مذكرات توقيف إبان النظام السابق، وما يزال أمر القبض عليها ساريا. وهذا الأمر يعقد قضية أمرها حضورها ومزاولتها لأنشطتها في الخرطوم، ما لم يتم تدارك هذا الأمر عاجلا.
رابعا: عدم كفاية الموارد المالية المطلوبة لتنفيذ اتفاق السلام، وهو يمثل أكبر العقبات أمام الاتفاق، في ظل ما يعانيه السودان اقتصاديًّا من ارتفاع معدل التضخم، وانهيار العملة الوطنية، لا سيما في ظل الأوضاع العالمية الصعبة مع تداعيات جائحة فيروس كورونا .
خامسا: جزء كبير من نصوص الاتفاق-سيظل حبرا على ورق، ما لم تتم عملية إعادة ترتيب موازين القوى بين مناطق البلاد المختلفة .
مستقبل عملية بناء السلام على ضوء اتفاق جوبا (أكتوبر 2020م)
ليس من السهولة بمكان وضع سيناريو أو سيناريوهات مستقبلية محددة لما ستؤول إليه عملية بناء السلام في سودان ما بعد اتفاق السلام-لأن ذلك الاتفاق تواجهه تحديات جدية، تحتاج إلى استراتيجية متينة للتعامل مع تلك التحديات الجسام. وذلك أن الاقتصاد السوداني في هذه المرحلة يمر بظروف غاية في التعقيد، وآية ذلك أن التضخم كواحد من مؤشرات تعافي الاقتصاد من عدمه-يتصاعد بمعدل كبير، فقد وصل بحسب بيان صادر من الجهاز المركزي للإحصاء السوداني بتاريخ 9 نوفمبر 2020م-إلى 229.5% في شهر أكتوبر 2020م، وكانت نسبته في الشهر الذي سبقه 212%، مقارنة بحوالي 60%، عندما شهد السودان حراكا ثوريا في ديسمبر 2018م.
وعليه فإن اتفاق جوبا سيؤتي ثماره إذا تم التعاون داخليا وخارجيا في المساعدة في تنفيذ بنوده، وقبل ذلك التغلب على التحديات، التي تواجه، وذلك على النحو التالي:
أولا: تكثيف الجهود الدولية في إقناع حركتي عبد الواحد محمد نور، وعبد العزيز الحلو بالانضمام إلى عملية السلام، وهذه الجهود يتوقع أن تتصدى لها الولايات المتحدة، وفرنسا، التي يقيم فيها عبد الواحد.
ثانيا: الحيلولة دون تفشي داء التشظي وسط الحركات المسلحة، لا سيما في دار فور، التي اشتهرت في السنوات الأخيرة بإصابتها بهذا الداء.
ثالثا: إعلان العفو العام عمن صدرت في حقهم مذكرات توقيف من قيادات الجبهة الثورية وغيرها، والسماح لها بالعودة إلى العاصمة/ الخرطوم لمزاولة أنشطتها السياسية. وبالفعل أصدر الفريق البرهان بتاريخ 12 نوفمبر 2020 هذا العفو الشامل لكل من رفع السلاح ضد الحكومة، مع بعض الاستثناءات.
رابعا: عقد مؤتمرات إقليمية ودولية لمساعدة السودان في مواجهة استحقاقات السلام ذات الطبيعة المالية. بضخ خزينة بنكه المركزي بما يلزم، ومنح الجانب الاقتصادي جرعات كافية لتعافيه.
حينها سوف يحقق اتفاق جوبا للسلام الأهداف، التي سعى للوصول إليها استقرارا، وتنمية متوازنة، وتعويضا للمتضررين، وضمانا لمستقبل أفضل لمتضرري الحرب في مناطق السودان المختلفة، لا سيما في دار فور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق.