إيهاب العاشق | باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ومهتم بالشأن الإفريقي السياسي والاجتماعي
تلخيص
تسعى هذه الورقة البحثية لقراءة مستقبل العلاقات التونسية الأمريكية على ضوء التوترات الأخيرة بين قرطاج والبيت الأبيض. قمنا باستعراض أهم المحطات التاريخية التي مرت بها العلاقات التونسية الأمريكية منذ بدايتها في آواخر القرن 18 وصولا إلى أحداث الثورة التونسية سنة 2011 وما تلاها. ومن ثم تناولنا الأزمة الديبلوماسية الأخيرة بين البلدين بسبب الإجراءات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد والتي اعتبرتها الولايات المتحدة الأمريكية تهدد المسار الديمقراطي والإرادة الشعبية بتونس. وردة الفعل الأمريكي مدفوعة بعوامل عديدة وأطراف مؤثرة على البيت الأبيض الذي يظل موقفه ضبابيا من الاحداث في تونس وهو ما جعل هذه الأطراف الفاعلة تحمل إدارة بايدن مسؤولية نتائج ما يحدث في تونس. وهو ما دفع إدارة بايدن للتحرك عبر إصدار البيانات وإرسال الوفود لمواكبة الأوضاع بتونس. هذه التحركات الأمريكية قابلها احتجاج من قبل قرطاج ورفض لما اعتبرته تدخل أمريكي سافر في شأن تونس الداخلي، مما فاقم الأزمة بين البلدين وجعلها تأخذ منحى تصاعديا.
تمهيد
شهدت العلاقات التونسية الأمريكية توترات كبيرة في الآونة الأخيرة بسبب التغييرات السياسية التي يقوم بها رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد في البلاد منذ سنة تقريبا حيث يعتبره معارضي سعيد انقلاب وعودة بتونس إلى مربع ما قبل 2011 في حين يعتبرها قيس سعيد ومناصريه حملة لتطهير الفساد، ويأتي الموقف الأمريكي في جانب معارضي إجراءات قيس سعيد، مما أفرز حرب تصريحات بين البلدين بدأت منذ عشية إعلان الرئيس التونسي تعليق أعمال البرلمان وتفعيل المرسوم الرئاسي. ومن تلك اللحظة تتالت الزيارات لوفود الأمريكية لمعاينة الأوضاع بتونس على غرار البيانات الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية وتصريحات مسؤولين بالبيت الأبيض، مما ساهم في تصاعد وتيرة التصريحات بين قرطاج والخارجية الأمريكية، حيث أبدت واشنطن مخاوفها من مسار التجربة الديمقراطية في تونس، وجاءت ردة الفعل التونسية عبر تصريحات الرئيس قيس سعيد المنددة بالتدخل الأمريكي في شأن تونسي داخلي واحتجاجات رسمية تونسية لدى سفراء الأمريكيين بتونس.
ونحاول من خلال هذه الورقة البحثية الإجابة عن الأسئلة التالية:
كيف تفاقمت الأزمة بين واشنطن وقرطاج؟ ومن أهم أبرز الفاعلين في هذه الأزمة من فاعلين ومؤثرين في صناعة القرار بالبيت الأبيض؟ وإلى أي مدى يمكن أن تؤثر الأزمة على تونس داخليا وخارجيا وماهي أبرز انعكاساتها على التعاون بين البلدين؟
– المقاربات الموظفة:
– يتبع هذا المقال المنهج التحليلي الوصفي.
– النظرية النقدية والليبرالية.
تاريخ العلاقات بين قرطاج وواشنطن
بداية العلاقات (أواخر القرن 18 والقرن 19)
تعتبر تونس من بين أول الدول التي أنشأت علاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانت أولى المعاهدات بين البلدين تعود إلى 28 أغسطس 1797 حيث تم إبرام أول معاهدة صداقة بين البلدين ومن ثم جاءت معاهدة مارس 1799 لتعزيز الصداقة والتبادل التجاري. ([1])
وكانت مساعي واشنطن حينها تتمثل في إيجاد تحالفات في منطقة جنوبي حوض البحر الأبيض المتوسط وتحديدا دول المغرب العربي حاليا التي كانت تقوم بنشاطات قرصنة كبيرة في المتوسط (تونس، ليبيا، الجزائر، المغرب) في القرن 17 وبدايات القرن 18. وتمكنت الولايات المتحدة الامريكية من بناء علاقات صداقات وتبادل تجاري مع المغرب وتونس لحماية سفنها التجارية المبحرة في المتوسط وخاصة من قراصنة الجزائر وليبيا التي كانت بينهم وبين أساطيل أمريكيا البحرية معارك كبيرة.
وفي 20 جانفي سنة 1800 تم بعث قنصلية أمريكية بالمدينة العتيقة بتونس، وكان القرن 19 بمثابة السنوات التأسيسية للعلاقات التونسية الأمريكية وما تلاها من زيارات ومعاهدات أبرزها زيارة مبعوث تونسي خاص لواشنطن قام باستقباله الرئيس الأمريكي حينها توماس جيفرسون سنة 1805، وفي سنة 1865 تم تعيين سفير تونسي في الولايات المتحدة الأمريكية. ([2])
العلاقات خلال فترة حكم بورقيبة (1957-1987)
وقد أعلن الحبيب بورقيبة منذ اللحظة الأولى عن وقوفه مع المعسكر الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية وليؤكد في مناسبة أخرى سنة 1955 عن تطلعه لإنشاء علاقات متينة مع واشنطن وحتى الرغبة في انضمام تونس لحلف الناتو مؤكدا على عدم حياديته في الحرب الباردة ووقوفه إلى جانب المعسكر الغربي. وهذه الرؤية البورقيبية التي أفرزتها ثلاث خصائص وهي طبيعة شخصية الحبيب بورقيبة المتأثرة بالحضارة الغربية والخاصية الثانية تاريخية حيث التقارب الأمريكي التونسي القديم تاريخيا أما ثالثا فهي الواقعية السياسية التي كان يتمتع بها الحبيب بورقيبة.
واستغلت واشنطن هذه العوامل وبحكم مخاوفها من ارتماء الحركة الوطنية بتونس في حضن المعسكر الشرقي (الاتحاد السوفياتي) وتحديدا الشق القومي الموجود داخل الحركة الوطنية، لذلك كانت أول دولة عظمى تعترف بسيادة تونس على أراضيها في 17 ماي 1956، وفي سنة مارس 1957 تم ابرام اتفاقيات عديدة بين البلدين فيما يعرف بالوكالة الامريكية للتعاون الدولي، وتبلور هذا التعاون سنة 1961 قامت تونس باستقبال متطوعين من هيئة السلام وهي أول بادرة عربية من نوعها. ([3])وفي نفس السنة وبتاريخ 3 ماي قام الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بزيارة رسمية كأول رئيس دولة يدعوه الرئيس جون كينيدي لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية ومن أبرز مواضيع هذه الزيارة كان حول الثورة الجزائرية والتعاون التونسي الأمريكي. ([4])
ولكن في سنة 1985 كانت أولى الأزمات التي تشهدها العلاقات بين البلدين، فبعيد مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية بيروت واستقرارها في تونس، قامت القوات الإسرائيلية بقصف مدينة حمام الشط في الأول من أكتوبر 1985، ([5]) وهنا هدد بورقيبة بقطع العلاقات بين البلدين إذا قامت واشنطن باستعمال حق الفيتو للدفاع عن تل أبيب وفعلا رضخ الجانب الأمريكي للموقف التونسي ولم يستعمل حق الفيتو داخل مجلس الأمن حول إدانة القصف على تونس وهي سابقة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
العلاقات خلال فترة حكم بن علي (1987-2011)
وفي زمن بن علي تمت المحافظة على نفس وتيرة العلاقات السابقة مع واشنطن، بالرغم من موقف تونس في حرب الخليج الأولى سنة (1990-1991)، حيث كان الموقف التونسي ضد الإرادة الأمريكية، ولكن هذا لم يؤثر على العلاقات بين البلدين. وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 أعلن بن علي انضمامه إلى ما عرف بالحرب على الإرهاب ووقوفه مع الجانب الأمريكي، ([6]) واستغل بن علي هذه الظرفية لإحكام قبضته على البلاد أكثر فأكثر. ولكن تقاربه مع واشنطن وانخراطه ضمن الحرب على الإرهاب لم يمنع الأخيرة من مواصلتها في دعوة تونس لمزيد من الانفتاح وتوفير الحقوق والحريات، وخاصة أن واشنطن كانت ترى في تونس بوابة للشرق الأوسط التي سينتشر عبرها نموذج عربي ديمقراطي وهذا النموذج يتجسد في تونس.
هذا التصور الأمريكي لتونس كنموذج ديمقراطي في المنطقة العربية يعزز لدى واشنطن مساعيها في الترويج إليه خاصة بعد أحداث 14 جانفي 2011. هذه التصريحات الأمريكية خلقت نوع من فتور العلاقات بينها وبين نظام بن علي في آخر سنواته، هذا النظام الذي كان يحظى بدعم من فرنسا المتخوفة من تفاقم النفوذ الأمريكي في منطقة شمال إفريقيا وغربها، ويتجلى كل هذا من خلال المواقف الصادرة عن كل من باريس وواشنطن في بدايات التحركات الاحتجاجية بتونس. حيث قامت باريس بالوقوف ضد الاحتجاجات، في حين كان الموقف الأمريكي يصب في صف الثورة التونسية منذ انطلاقتها.
العلاقات خلال الثورة (2011-2019)
قامت واشنطن بدعم الثورة التونسية منذ بدايتها محاولة احتوائها، ويتجلى ذلك في 25 جانفي 2011 عندما قام أعضاء الكونغرس بالوقوف والتصفيق احترام وتحية للشعب التونسي الذي قام بثورة في القرن 21 من أجل الحرية والكرامة. ([7]) وتواصل الدعم الأمريكي لمسار الثورة التونسية والتحول الديمقراطي بها. ولكن تاريخ 12 سبتمبر 2012 الذي تم فيه استهداف مقرات البعثات الديبلوماسية الأمريكية في أربع عواصم ربيع عربي (تونس، القاهرة، صنعاء، بنغازي)، وكانت أشدها في ليبيا حيث تم اغتيال القنصل الأمريكي ببنغازي مهد الثورة الليبية، وحرق جزءً من مبنى السفارة الأمريكية بالعاصمة التونسية. ([8])
وجاءت هذه الأحداث على خلفية عرض الولايات المتحدة لفيلم يسيء للإسلام وتم توجيه التهم خلال هذه الأحداث لتنظيم أنصار الشريعة أحد أفرع تنظيم القاعدة المتواجد في كل من (ليبيا – تونس – اليمن). وإن لم تؤثر هذه الأحداث على العلاقات التونسية الأمريكية، ولكن هذا الحدث غير نظرة واشنطن نحو الربيع العربي والتنظيمات السياسية التي أفرزها، وبالرغم من ذلك واصلت واشنطن دعم تونس ماديا لمحاربة الإرهاب ولتدعيم الاقتصاد. وهذا ما أكد عليه الجانب الأمريكي الذي لطالما يعتبر تونسي شريك رئيسي من خارج حلف الناتو وبارقة أمل للعالم العربي.
العلاقات الأمريكية التونسية بعد 25 جويلية 2022
منذ إعلان الرئيس قيس سعيد عن تجميد البرلمان التونسي في 25 جويلية 2021 ومن ثم قرار حله في 30 مارس 2022 وصولا إلى إلغاء دستور 2014 واستبداله بدستور تم الاستفتاء عليه بتاريخ 25 جويلية 2022. فأول ردة فعل أمريكية تمثلت في بيان أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية ونشر على الصفحة الرسمية للسفارة الأمريكية بتونس بعد ساعات قليلة من اتخاذ رئيس قيس سعيد قرار تعليق أعمال مجلس النواب فيما سمي بالتدابير الاستثنائية، عبرت فيه واشنطن عن مخاوفها من الأحداث الجارية في تونس وبأن الحلول للأزمة الاقتصادية والسياسية تكمن في العودة إلى الديمقراطية. ولم يكتف الجانب الأمريكي بهذا البيان فقط، فقد تم في نفس اليوم إجراء مكالمة هاتفية دامت قرابة ساعة بين مستشار الأمن القومي السيناتور جيك سوليفان وفي نفس اليوم أيضا تمت مكالمة هاتفية أخرى بين وزيرة الخارجية الأمريكية انتوني بلينكن والرئيس قيس سعيد.
كانت أغلب التحركات الأمريكية الأولية تتعامل مع الأحداث بتونس بحذر واكتفت فقط بالإعلان عن دعم واشنطن للديمقراطية في تونس، في حين اكتفى الجانب التونسي بإعطاء تطمينات وبأن ما يحدث في تونس ضمن السياق الديمقراطي وبأنها محاولة إصلاحية فقط.
وإن تعامل الموقف الرسمي بهشاشة وحذر مع الأحداث في تونس، إلا أن الوسط الإعلامي والمجتمع المدني في أمريكا كان أكثر فعالية، حيث كانت جل الصحف الأمريكية تحذر مما يقع في تونس حيث اعتبرته عودة إلى الديكتاتورية ودعت الرئيس جو بايدن إلى تحمل المسؤولية كاملة إزاء ما يحدث. ولم يتوقف الامر داخل الولايات المتحدة عند الإعلام فقط، بل تحركت عديد الأطراف الأخرى للضغط على البيت الأبيض لاتخاذ مواقف أكثر صرامة تجاه ما يحدث في تونس.
فقد أرسلت مجموعة من أعضاء الكونغرس رسالة إلى وزيرة الخارجية الأمريكية تطالبه فيها بإيقاف المساعدات المالية والعسكرية الموجهة إلى تونس. هذه الضغوطات أفرزت في الأخير زيارة مستشار الامن القومي الأمريكي إلى تونس بعد شهر من الاحداث وهي الفترة الزمنية التي أعلن عنها قيس سعيد على نهاية التدابير لاستثنائية والعمل بالمرسوم الرئاسي الذي ألغى بموجبه العمل بالدستور.
وبعدها تتالت حالة من الفوضى السياسية في تونس وموجة كبيرة من الاعتقالات طالت برلمانيين، سياسيين وصحافيين إلى حدود تاريخ 30 مارس 2022 حيث أعلن الرئيس التونسي عن حل البرلمان رسميا، وتزامن هذا القرار مع نهاية مهام السفير الأمريكي دونالد بلوم بتونس الذي أدى زيارة لقصر قرطاج في مطلع شهر أبريل ليعبر خلالها عن مخاوف بلاده فيما يتعلق بأخر التطورات.
خلال هذه المرحلة الأولى اكتفى الجانب التونسي بإعطاء التطمينات فقط حول المسار الديمقراطي وأن هذه الإجراءات تصب فيما يسعى إليه الرئيس من تطهير البلاد من الفساد، ولكن أصوات المعارضة والمجتمع المدني كانت تعتبر هذه الإجراءات انقلابية ومحاولة العودة بتونس إلى مربع ما قبل 11 جانفي.
ومع إعلان الرئيس قيس سعيد نيته في إلغاء دستور 2014 وإجراء استفتاء شعبي على دستور جديد وقيامه بإقالة 57 قاضي مما جعل واشنطن تصدر بيان وتتهم فيه قيس سعيد بتقويض المؤسسات الديمقراطية في بلده، وهنا صدرت أول ردة فعل رسمية تونسية محتجة على تصريحات الأمريكية، حيث تم استدعاء القائمة بأعمال السفارة الامريكية في تونس من قبل وزير الخارجية عثمان الجرندي وعبر لها عن رفض قرطاج لتصريحات بلاده التي تعتبر تدخلا سافراً في الشؤون الداخلية لتونس حيث لم تحترم الولايات المتحدة روابط الصداقة والاحترام بين البلدين ولا القوانين الدولية والمعاهدات بين الدولتين.
ولكن تصريح لويد أوستن وزير الدفاع الأمريكي في مطلع شهر أغسطس يعتبر أول رد فعل أمريكية حادة ومباشرة تجاه الأحداث في تونس، حيث صرح لويد خلال احتفالية تنصيب قادة عسكريين بقاعدة أفريكوم في شتوتغارت بألمانيا عن أخطار الديكتاتورية والأنظمة العسكرية التي تهدد الأمن والسلم في القارة الإفريقية، كما لمح إلى خطورة التغلغل الروسي في المجال الإفريقي وانعكاساته على كامل القارة وأشار إلى ما سماه حرفيا تآكل الديمقراطية في تونس وانعكاسها على المنطقة وأن أمريكا لن نتقف متفرجة وستقوم بدعم الديمقراطية في تونس. ([9]) لم تصدر أية ردة فعل رسمية من قرطاج تجاه خطاب لويد أوستن الذي يعتبر أول تهديد غير مباشر من قبل واشنطن لتونس.
وبعدها بأيام قليلة تم لقاء بين عثمان الجرندي والقائمة بأعمال السفارة الأمريكية بتونس وتمت خلاله توجيه دعوة إلى الرئيس قيس سعيد للمشاركة في قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا التي يستضيفها الرئيس جو بايدن في واشنطن من 13 إلى 15 ديسمبر 2022 والتي ستؤكد على أهمية العلاقات الأمريكية الأفريقية وزيادة التعاون حول الأولويات العالمية المشتركة. ([10])
وبعد أيام قليلة وتحديدا بتاريخ 21 أغسطس 2022 قام وفد من الكونغرس الأمريكي بزيارة الرئيس قيس سعيد في قصر قرطاج حيث طالبوا حسب بيان نشرته السفارة الأمريكية بتونس بالإسراع في اعتماد قانون انتخابي تشاركي في تونس وأكدوا على أهمية استقلالية القضاء، ([11]) أما الجانب التونسي المتمثل في الرئيس قيس سعيد الذي عبر عن استنكاره للتصريحات الصادرة في الآونة الأخيرة من قبل مسؤولين أمريكان فيما يتعلق بالوضع التونسي واعتباره مجانب للحقيقة وتمس استقلالية قرار البلاد. ([12])
التحديات ومستقبل العلاقات
من خلال تتبعنا لمسار بداية التصريحات الأمريكية تجاه تصاعد نسق الاحداث في تونس، نلاحظ أن واشنطن اكتفت في البداية بأخذ التطمينات من الجانب التونسي حول مصير المسار الديمقراطي في البلاد، وبداية التحركات الحذرة الأمريكية في البداية وزيارة مستشار الامن القومي لجو بايدن إلى قرطاج بعد شهر واحد فقط من اتخاذ قيس سعيد للتدابير الاستثنائية تعكس مدى الاهتمام الأمريكي بتونس. ومع مواصلة قيس سعيد في المسار الذي بدأ فيه وبداية تصعيده في القرارات والإقلات والاعتقالات، تزامن مع التغييرات الدولية والحرب الروسية الأوكرانية، مع توسع النفوذ الروسي في منطقة الساحل وشمال إفريقيا، صعّدت واشنطن في نسق التصريحات الموجهة نحو كما استغلت قرطاج هذه التوازنات لتصعيد اللهجة واستنكار التدخلات الأمريكية.
ومع ذلك تبقى الولايات المتحدة الأمريكية حذرة في تعاملها مع تونس خوفا من المحاور العالمية الموجودة حاليا خشية ان تتموقع تونس في أحد المحاور المعادية للواشنطن وهو الأمر الذي لا تقبله. ويعتبر تصريح لويد أوستن وزير الدفاع الأمريكي خلال احتفاليات أفريكوم أهم التصريحات الواردة التي يمكننا ان نبني عليها قراءة قادمة لتطور الأوضاع والكيفية التي سيكون عليها التعاطي الأمريكي مع تونس.
أولا: عندما قام وزير الدفاع بالحديث عن التغلغل الروسي في إفريقيا والذي اعتبره مهددا للديمقراطية فيها ومساهم في تكريس الأنظمة العسكرية وثقافة الانقلابات التي تفرز الديكتاتورية بالمنطقة.
ثانيا: تحدث عن تآكل الديمقراطية في تونس وانعكاساتها على كامل المنطقة، وهو ما يمكننا ملاحظته حول الأحداث الدائرة حاليا في منطقة الساحل الإفريقية وتعثر الانتخابات في ليبيا، فإن تراجع النموذج التونسي يؤثر على كامل المنطقة سلبيا.
ثالثا: تأكيده على دعم الديمقراطية في تونس، والحلم التونسي في انشاء نظام ديمقراطي.
وتكمن الاستراتيجية التي يمكن ان تتبعها أمريكا تجاه تونس في النقاط التالية:
أولا: تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية نفوذا كبيرا على المؤسسة العسكرية حيث تعتبر وزارة الدفاع الممول الأول للجيش في تونس فبين سنة 2011 وسنة 2020 بلغت الميزانية التي خصصتها واشنطن لتونس قرابة 160 مليون دولار، ([13]) على غرار الاتفاقيات والمعاهدات بين البلدين فيما يتعلق بالتعاون العسكري، وتحديدا اتفاقية أكتوبر 2020 ومدتها 10 سنوات، ([14]) وتشمل تدريب القوات التونسية وتسليح الجيش وخدمات صيانة الأسلحة، فضلًا عن التعاون في مجال مكافحة الإرهاب وإجراء المناورات المشتركة.
وإن يبقى الخيار العسكري في تونس مستعبد عبر الانقلاب أو غيرها إلا أنه يمكن للولايات المتحدة الامريكية الضغط على قيس سعيد عبر التهديد بقطع المساعدات.
ثانيا: الوضعية التونسية من الناحية الاقتصادية في غاية التدهور مما تعانيه من أزمة مالية وتضخم كبير وتدهور في ضعف المقدرة الشرائية رفقة المديونة الخارجية الكبيرة لتونس، مما يمكن الولايات المتحدة الامريكية للضغط على قرطاج في هذا السياق، حيث تعتبر واشنطن من أكبر الداعمين لتونس، فقد خصصت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 1.4 مليار دولار لدعم التحول الديمقراطي في تونس منذ سنة 2011، على غرار 500 مليون دولار التي قدمت كمنحة لتونس سنة 2020. ([15])
ثالثا: صنفت واشنطن تونس سنة 2015 على أنها حليفة رئيسية للولايات المتحدة الأمريكية من خارج حلف الناتو، وتتمتع كلا البلدين بعلاقات سياسية طيبة جدا ولأمريكا نفوذ سياسي في تونس على عديد الأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني ويمكنه التحرك من خلال هذا المنطلق فيما يتعلق بتونس.
لكن السؤال المطروح لأي هدف ستوظف واشنطن أوراقها للضغط على قرطاج وأبرزها المساعدات (العسكرية، المالية، السياسية)؟
يوجد ضغط هائل وكبير من داخل الولايات المتحدة الأمريكية وتحديدا على إدارة بايدن للتحرك بفاعلية تجاه ما يحدث في تونس من قبل وسائل إعلامية، صحف، منظمات، وأعضاء من الكونغرس تدفع نحو إعادة المسار الديمقراطي في تونس.
وفي الجهة الثانية توجد جماعات ضغط أخرى تمتلك تأثيراً على صناعة القرار السياسي الأمريكي ترغب بتوجيه واشنطن نحو توظيف وسائل ضغطها على قرطاج لدفعها نحو التطبيع، وهذا ما أعلنه صراحة السفير الأمريكي القادم لتونس في تصريح إعلامي له، أن من بين أولوياته تطبيع العلاقات بين دول شمال إفريقيا وإسرائيل. ([16])
وأما بالنسبة للحلول المتاحة للجانب التونسي تتمثل في ثلاث نقاط، وهي:
الأولى: أن يتم الاستجابة للمطالب الأمريكية وإقامة انتخابات في أسرع وقت ممكن لتفادي الضغوطات وخاصة أن الوضعية الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد في حالة كبيرة من التدهور.
والنقطة الثانية: تمكن في لعب تونس ورقة التوازنات الدولية الحالية واستغلال تقاربها الحالي مع الجزائر لاستعمال هذه الورقة وتفادي أكبر قدر ممكن من الضغوطات التي تسلطها واشنطن.
أما النقطة الثالثة والأخيرة: هي إعادة مجلس النواب والعودة لدستور 2014 لكي تتفادى قرطاج كل الضغوطات الأمريكية والدولية بصفة عامة وهذا مستبعد تماما.
الخاتمة
ما يمكن الخروج به من خلال دراسة العلاقات الراهنة بين البلدين، هو أن الموقف الأمريكي الرسمي غير واضح فيما يتعلق بالمسار الديمقراطي في تونس، حيث يحاول البيت الأبيض توظيف الأزمة لصالح تمرير أجنداته في منطقة الشمال الافريقي وخاصة مشروع تطبيع العلاقات بين الدول الافريقية وتل أبيب. في حين يحاول الجانب التونسي اللعب على التوازنات الحالية في العالم والتواجد الروسي في المنطقة (ليبيا وغرب إفريقيا) الذي يثير مخاوف الأمريكان من تموقع قرطاج في الحلف الروسي، وهذا ما لن تسمح به كل من واشنطن وباريس، وأما بالنسبة لملف التطبيع فالجزائر كفاعل إقليمي مؤثر في تونس لن تقبل بهذا. ومع كل هذه العوامل تشهد تونس تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وحتى على مستوى الحياة السياسية وهو ما يرجح إمكانية تفجر الأوضاع وتحولها إلى احتجاجات شعبية.
[1]– Talcott W. Seelye, Ben Ali Visit Marks Third Stage in 200-Year-Old US-Tunisian Special Relationship, Washington Report on Middle East Affairs, March 1990, Page 7, link: https://www.wrmea.org/1990-march/ben-ali-visit-marks-third-stage-in-200-year-old-us-tunisian-special-relationship.html
[2]– Ibid.
[3]– Ibid.
[4]– Camau, Michel et Geisser, Vincent, Habib Bourguiba, la trace et l’héritage, Karthala centre de recherche politique comparative, IEP Aix en Province, Ed 2004, P256.
[5]– Ibid.
[6]– الجزيرة، بوش يطالب بن علي بتبني إصلاحات سياسية في تونس، الرابط:
[7]– Leaders, Les Etats Unis décidés à soutenir la révolution tunisienne, link :
https://www.leaders.com.tn/article/4245-les-etats-unis-decides-a-soutenir-la-revolution-tunisienne
[8]– Arefi armin, Libye: pourquoi l’ambassadeur américain a été assassiné, Le Point, link : https://www.lepoint.fr/monde/libye-pourquoi-l-ambassadeur-americain-a-ete-assassine-12-09-2012-1505383_24.php
[9]– U.S. Defense Secretary Raises Concerns for Tunisia Democracy, U.S.News, link : https://www.usnews.com/news/world/articles/2022-08-09/u-s-defense-secretary-raises-concerns-for-tunisia-democracy
[10]– Chargée d’Affaires, a.i. Natasha Franceschi Meets With Minister of Foreign Affairs Othman Jerandi, U.S.Embassy in Tunisia : https://tn.usembassy.gov/chargee-daffaires-a-i-natasha-franceschi-meets-with-minister-of-foreign-affairs-othman-jerandi/
[11]– CODEL Coons Visit to Tunisia, U.S. Embassy in Tunisia, link : https://tn.usembassy.gov/codel-coons-visit-to-tunisia/
[12]– Ibid.
[13]– HIJAB SHAH, MELISSA DALTON, The Evolution of Tunisia’s Military and the Role of Foreign Security Sector Assistance, Carnegie Middle East Center, link:
[14]– Ibid.
[15]– Ibid.
[16]– المرشح لمنصب سفير أمريكا بتونس ”سأدعم المزيد من الجهود لتطبيع العلاقات بين تونس وإسرائيل، الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=jdTlWt1KZjQ