إصداراتتحليلات

مستقبل العملية السياسية في تشاد في ضوء مخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي

د. محمد صالح ضوّاي ([1])

ملخص الورقة
عالجت هذه الورقة مستقبل العملية السياسة في تشاد في ضوء مخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي، من خلال مدخل تمهيدي وأربعة محاور رئيسية. تناول المدخل التمهيدي مدى الفراغ السياسي والأمني الذي خلفته وفاة الرئيس إدريس ديبي إتنو، مركزاً على أهم الأحداث السياسية التي وقعت في الفترة ما بين موت الرئيس إدريس ديبي ومخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي التي سمحت بتمديد الفترة الانتقالية وتكوين حكومة وطنية.
أما المحور الأول، فقد تناول مفهوم الحوار في العرف التشادي وسياقاته التاريخية، ابتداء من المؤتمر الوطني المستقل الذي انعقد في عام 1993م إلى زمن انعقاد الحوار الوطني الشامل والسيادي. ثم تطرق المحور الثاني، لمخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي وانعكاساتها على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فقد أوصى المتحاورون بإقرار شكل الدولة المركزية واعتبار دستور عام 1996م مرجعية ينطلق منها الحوار الوطني الشامل، مع الأخذ بعين الاعتبار ببعض الرؤى والنقاشات التي تدور داخل قاعة الحوار، ومن ثم وضعها ضمن الديباجة، كما تطرق المحاورون لمسألة إصلاح المؤسسات، كالمؤسسة الإعلامية، وسيط الجمهورية، هيئة الانتخابات وغير ذلك من المؤسسات المهمة في الدولة. وفيما يتعلق بالسلام الاجتماعي والمصالحة الوطنية، أوصى الحوار بضرورة تهيئة الجو المناسب للعيش المشترك، بنبذ العنف وكل أنواع التطرف، واللجوء للصلح في حالة الصدام بدل استخدام القوة. وعن الحقوق والحريات الأساسية شدد المتحاورون على ضرورة  وضع قوانين رادعة لإيقاف السلوك العدواني الممنهج ضد الأفراد والجماعات.
وأما عن انعكاسات مخرجات الحوار على الحياة العامة، السياسية، الاجتماعية والاقتصادية، أسفرت مخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي، عن مسيرة 20 أكتوبر التي خلفت خسائر بشرية ومادية كادت أن تزج بالبلاد إلى منعطف سياسي خطير، ولولا التناقضات الحزبية لقادة المعارضات السياسية والتي قادتهم إلى  الانشقاقات والاستقالات غير الطبيعية، لتوصلت مسيرة 20 أكتوبر لبعض اهدافها السياسية والتي تطالب بالشرعية الدستورية. كما تناول المحور الثالث، لمواقف أطراف الحوار الوطني الشامل والسيادي من مخرجاته، وقد تطرقت الورقة لموقف مناصرو الحكومة الانتقالية، مواقف الأحزاب السياسية المعارضة ومؤيدو المسيرة، وموقف بعض الشباب.

وأخيراً، جاء المحور الرابع؛ ليسلط الضوء على مستقبل العملية السياسية في تشاد في ضوء مخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي من خلال المعطيات والسلوك السياسي المنتهج من قبل الحكومة الانتقالية والأحزاب السياسية المناهضة للحكومة. ولذا يمكن القول أنّ مستقبل العملية السياسية في تشاد ينذر بحالة تدهور سياسي إذا استمر التصعيد والضغط على الحكومة الانتقالية من قبل حزب المغيرون وبعض الأحزاب الأخرى الضاغطة. وأما إذا استمرت التناقضات الحزبية -كما هو ملاحظ- فإن هذه التناقضات ستدعم حكومة المجلس الانتقالي في تطبيق مسيرتها السياسية، في ظل النفور الشعبي من زعماء الأحزاب السياسية المعارضة، والاستخدام الأمثل للورقة السياسية الكلاسيكية من قبل الحكومة الانتقالية والمتمثلة في اعتبار مسيرة 20 أكتوبر ذات بعد أيديولوجي ديني، قام بها المواطن الجنوبي المسيحي ضد المواطن الشمالي المسلم.

مدخل عام: الفراغ السياسي والأمني الذي أحدثته وفاة ديبي
في 20 أبريل 2021م، تلقى الشعب التشادي خبر وفاة الرئيس إدريس ديبي إتنو، مخلفاً وراءه مجموعة من الأزمات السياسية والأمنية في منطقة الساحل عموماً، وفي تشاد على وجه الخصوص. تفاجأ المجتمع الدولي والإقليمي وكذا الشعب التشادي بهذا الموت الذي حدث في ذروة التقدم السياسي لديبي، على الرغم من الإشارات العديدة لبعض المحللين والباحثين إلى اقتراب موعد هذه النهاية. فقد كتب الصحفي والمحلل السياسي الدكتور محمد أبكر عيسى مقالات متسلسلة في صحيفة الشاهد بعنوان:«عندما يموت الرئيس إدريس ديبي إتنو». كما تناولت كتابات متسلسلة أيضاً لأحد الباحثين منشورة بالصحيفة نفسها تحت عنوان:«مشروع ما بعد ديبي»، وهي محاولة لفهم الفراغ السياسي والوضع الأمني بعد نهاية حكم ديبي من خلال المعطيات السياسية والاجتماعية([2]).
الرؤى المطروحة في هذه المقالات الصحفية-رغم طابعها التهكمي-عبارة عن قراءات لتقييم الأوضاع الأمنية والسياسية بعد وفاة الرئيس ديبي. ولم تمر سوى أشهر قليلة على نشر هذه التحليلات حتى أُعلن عن وفاته، في جو مليء بالتفاؤل؛ إذ كان أنصار حزبه ينتظرون بفارغ الصبر إعلان  فوزه في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 11 أبريل 2021م.
تنص أحكام الدستور الساري، على أنه إذا أصبح منصب رئيس الجمهورية شاغراً، تخطر الحكومة المحكمة العليا لتطلب منها إعلان شغور منصب رئيس الجمهورية الذي يتولاه رئيس الجمعية الوطنية ليقوم بتنظيم انتخابات رئاسية خلال 90 يوماً على الأكثر. تنازل رئيس الجمعية الوطنية آنذاك الدكتور هارون كبادي عن ممارسة صلاحيته الدستورية نظراً لظروفه الصحية. وبعد مشاورات وافق كبادي على فكرة تأسيس مجلس عسكري انتقالي (CMT). وفي 20 أبريل 2021م، أُسس مجلس عسكري انتقالي يتكون من 15 عضواً كلهم من كبار الضباط بقيادة الفريق محمد إدريس ديبي([3]). وبناء عليه؛ حُلت الحكومة والجمعية الوطنية وعُلّق الدستور.
أدت خطورة هذه الخطوة إلى رفع مستوى التصعيد السياسي الذي لامس الوحدة الوطنية وتقويض السلام الهش؛ ولاستدراك تلك الخطورة من الفراغ السياسي والأمني، اتخذ المجلس العسكري الانتقالي مجموعة من القرارات العملية بتاريخ 21 أبريل 2021م، فقد أعلن ميثاق الفترة الانتقالية الذي ينص على تكوين حكومة انتقالية ومجلس وطني انتقالي (CNT) وهو الهيئة التشريعية الجديدة.
وفي 27 أبريل 2021م أُعلن عن تشكيل أول حكومة انتقالية  تهدف لعقد حوار وطني شامل، سيمثل لحظة مفصلية في تاريخ تشاد ما بعد ديبي. وبعد ذلك أطلق المجلس العسكري الانتقالي نداء لكل التشاديين في الداخل والخارج على حد سواء، للعمل من أجل تحقيق المصالحة الوطنية والتلاحم الاجتماعي([4]).
وفاة الرئيس إدريس ديبي المفاجئة كانت صدمة لقوى الأحزاب السياسية المعارضة التي لم يكن ضمن توقعاتها هذا الحدث، فقد أصابتها الحيرة والإرباك في تقدير المواقف السياسية، ومن ثم أعطت هذه الربكة فرصة  لتشكيل المجلس العسكري الانتقالي الذي شُكل بعد الوفاة بساعات قليلة. وعلى الرغم من ذلك، مثّلت وفاة الرئيس ديبي ضربة في عمق الأمن القومي. لقد تصاعدت وتيرة الأحداث السياسية بتنظيم مسيرات رافضة للوجود الفرنسي آنا، ومسيرات منددة برفض الحكومة الانتقالية آناً آخر. ففي 21 أبريل 2021م اجتمعت عدة أحزاب سياسية معارضة عبرت فيه للشعب التشادي والمجتمع الدولي عن عدم رضاها من إنشاء المجلس العسكري الانتقالي بقيادة محمد إدريس ديبي.
وقد عبأ زعيم حزب المغيرون سكسيه ماسرا أنصاره للخروج على المجلس العسكري الانتقالي. وفي 27 أبريل 2021م خرجت مسيرة كبيرة حفلت بالفوضى والشغب راح ضحيتها في العاصمة أنجمينا 11 قتيلا من بينهم امرأة و56 جريحاً، وإيقاف 714، واختفاء شاب. أما في مدينة مندو فبلغت حصيلة القتلى 3 أشخاص، من بينهم امرأة و36 جريحاً، وفي مدينة سار 18 قتيلاً، وجريح([5]).
كما توالت دعوات وتنديدات جمعيات المجتمع المدني بالعودة للشرعية الدستورية، فقد أصدر المنسق الوطني لتجمع جمعيات وحركات الشباب التشادي، هاملاها دوقسي، بياناً دعا فيه جميع الأعضاء والممثلين في الأقاليم للخروج بكثافة في 19 مايو 2021م في المسيرة السلمية التي دعت إليها منسقية (وَكِتْ تَمّ)، التي تعني لقد حان الوقت، من أجل عودة النظام الدستوري والحوار الوطني. ومثله أصدر نائب رئيس اتحاد نقابات تشاديونس مهاجر بياناً دعا فيه أعضاء الاتحاد إلى الخروج بكثافة في هذه المسيرة([6]).
في الوقت الذي تطالب فيه جمعيات المجتمع المدني وبعض زعماء الأحزاب بإنهاء الحكم العسكري بعد ديبي والرجوع إلى الشرعية الدستورية، انفجرت مسيرة شعبية في العاصمة التشادية أنجمينا وبعض المدن كأبشة، وسار، وآتيا، ومنغو، وأم التيمان، يوم السبت 14 مايو 2021م تطالب فرنسا بسحب قواعدها العسكرية وإنهاء فترة الاستعمار التي استمرت أكثر من نصف قرن. هذه المسيرة التي نظمتها منسقية التجمعات المدنية المعروفة بـ “وَكِتْ تَمّ” تحت شعار: “تشاد حرة، فرنسا برا” استجابت لها شرائح وطبقات المجتمع التشادي المختلفة، وتَغَلْغَلَتْ معها في مواقع التواصل الاجتماعي بصورة فريدة بالنسبة لتاريخ تشاد.
وقد طالب المتظاهرون جميع الفرنسيين بالانسحاب الفوري عن الأراضي التشادية التي استنزفوا ثرواتها ومزقوا نسيجها الاجتماعي، كما طالبوا المجلس العسكري الانتقالي بالوقوف إلى صف المسيرة وإعادة النظر في جميع الاتفاقيات مع فرنسا، وطرد المحتل الغاصب. وفي أثناء ذلك، ظهرت أحزابٌ وشخصياتٌ يتهمها رواد مواقع التواصل الاجتماعي بالعمالة لفرنسا؛ حيث كانت تدين الخروج عن طاعة فرنسا باعتبارها دولة صديقة لتشاد، ولها اتفاقيات أمنية مع البلاد منذ فجر الاحتلال. إذْ أعلن زعيم حزب المغيرون، سكسيه مسرا، قبل المسيرة بساعاتٍ مطالباً أتباعه بعدم المشاركة في هذه المسيرة. كما أدان حزب الاتحاد الوطني للتنمية والتجديد، الذي يتزعمه صالح كبزابو، المسيرة الشعبية ووصفها بالهابطة، موضحاً بأن فرنسا ستبقى شريكاً تقليدياً متميزاً يحافظ على أمن تشاد.
كما أدان المسيرة حزب النّصر، الذي يترأسه محمد النضيف يوسف، والذي كان من المتوقع أن يبدي موقفاً محايداً على الأقل، إلا أنه سرعان ما انكشف قناع عمالة حزبه لفرنسا رغم أن كثيرين من أتباع هذا الحزب كانوا سابقاً على أملٍ بخروجه في الشارع مع الشعب ضد فرنسا. وأبدى رئيس تحالف جمعيات المجتمع المدني من أجل خدمة المواطنين، محمود علي سعيد، عشية يوم المسيرة عن استيائه من المسيرة المناهضة للوجود العسكري الفرنسي في تشاد، مصرحاً بأن فرنسا دولة صديقة أزلية لتشاد والخروج عليها خروج على الشرعية الوطنية.
أما عن حكومة الفترة الانتقالية الهشة آنذاك، والتي سمحت بالمسيرة ضد المستعمر الفرنسي الغاصب، فقد أحاطت بها الضغوط الفرنسية وأجبرتها على التراجع، فواجه المجلس مجموعة من المعضلات في كيفية الرد على تصعيد المسيرة وتوسع دوائرها، وحجم الخسائر التي طالت مؤسسات فرنسا الاقتصادية والدبلوماسية في أنجمينا وأبشة. وقد تراوحت عمليات التشديد والضغط الفرنسي على المجلس العسكري الانتقالي ما بين القبض على قادة المسيرة السلمية تارة، ونفيهم تارات أُخر، فأدت هذه الخطوة الأمنية إلى احتواء المسيرة وقمعها.
ومن ناحية أخرى واجه المجلس العسكري الانتقالي ضغط بعض أحزاب المعارضات المسلحة التي تجلس معه على طاولة حوار الدوحة، والتي نادت بالإفراج غير المشروط لقادة مسيرة 14 مايو. كما استنكرت مؤسسات حقوقية وجمعيات مدنية وأحزاب سياسية أخرى، الاعتقالات الهمجية التي قامت بها الحكومة بعد المسيرة السلمية، ومن الشخصيات التي تم اعتقالها ونفيها بعد المسيرة، المستشار السابق لرئيس الجمهورية الدكتور حسين مسار حسين وسفير جمهورية مصر العربية السابق الدكتور الأمين الدودو الخاطري، ورئيس جمعية حرية التعبير للشباب، أنا كوديه مبيسنيم، ورجل الأعمال السيد يوسف كروم أحمد، والأمين العام لاتحاد نقابات تشاد، قونونق فايمان جانفاري.
واعتقل في أبشة عدد كبير منهم الدكتور محمد أحمد أبو سحر رئيس جمعية التضامن للتنمية والشاعر، جبريل آدم جبريل، وقد طالبت جبهة الوفاق من أجل التغيير في تشاد (FACT) بالإفراج الفوري للمتظاهرين الذين نادوا بإنهاء الوجود العسكري الفرنسي في تشاد، كما أدانت الجبهة تلك الاعتقالات ووصفتها بغير القانونية.
وتوالت بعد ذلك مسيرات ومظاهرات من بعض الأحزاب السياسية تنادي بالرجوع إلى الشرعية الدستورية، لكنها لم تكن مؤثرة. وعشية إعلان توصيات الحوار الوطني الشامل والسيادي، انتظرت بعض قوى الحراك الوطني، استلام كعكتها عند تشكيل أول حكومة بعد الحوار في ظل قيادة المجلس العسكري الانتقالي. وكانت التوقعات بالنسبة لبعض الأحزاب السياسية المختلفة حبلى بنيل الحقوق من هذه الحكومة المنتظرة، وبالفعل نالت بعض الأحزاب حظوتها من هذه القسمة.
إن المفاجأة بالنسبة للبعض كانت خطيرة للغاية، فقد عُين السيد صالح كبزابو رئيسا للوزراء، ومن ثم شكل حكومته من معظم الوجوه القديمة التي كانت تقود إدارات الدولة في عهد الرئيس إدريس ديبي. عبر زعيم حزب المغيرون، سكسيه مسرا، عن قلقه إزاء مخرجات الحوار بتولي صالح كبزابو منصب رئيس الوزراء وتمديد مدة الفترة الانتقالية، ودعا جميع أنصاره في ليلية 19 أكتوبر 2022م للخروج إلى الشارع. وانضم إليه أنصار الحزب الاشتراكي بلا حدود؛ لتنظيم مسيرة كبرى في 20 أكتوبر 2022م تعبر عن رفضها التام لمخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي.
وفي فجر الاثنين 20 أكتوبر 2022م انتفض أنصار حزب المغيرون، والحزب الاشتراكي بلا حدود في كل من: أنجمينا، ومندو، وسار، وأبشة، ومنغو، وعبّروا عن غضبهم من مخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي وما ترتب عليه من تشكيل حكومة كبزابو التي أعادت المشهد السياسي في عهد الرئيس إدريس ديبي. مسيرة 20 أكتوبر خلفت دماراً بشرياً، اجتماعيا، اقتصادياً، وسياسيا.
جاءت المسيرة عنيفة وشديدة للغاية، طالت الحقوق العامة والخاصة، قتل فيها أعدادا كبيرة من الأبرياء والمتظاهرين وأعضاء الحكومة ورجال الشرطة، وبحسب المعلومات التي أدلى بها حزب المغيرون صباح الأحد عبر صفحته على الفيس بوك، فقد قُتل ما لا يقل عن 100 قتيل، وجرح أكثر من 468 جريح، واعتقال أكثر من 1000 تم نقلهم إلى سجن كورو تورو في أقصى شمال البلاد([7]). وغيرها من الخسائر البشرية المتمثلة في الجروح والكسر والمرضى. ولم تسجل أي مسيرة سلمية في البلاد، حالة وفاة وجروح مثلما سجلتها مسيرة 20 أكتوبر منذ أكثر من عشرين سنة.
استطاعت الحكومة-بعد عمليات كر وفر استمرت ثلاثة أيام مع متظاهري مسيرة 20 أكتوبر-أن توطد الأمن في العاصمة أنجمينا وتفرض حالة الطوارئ في جميع ربوع البلاد. وبعد خمسة أيام من عمر المسيرة وجه رئيس المرحلة الانتقالية خطاباً للشعب التشادي والرأي العام الدولي والإقليمي في 25 أكتوبر 2022م، أوضح فيه الأسباب الحقيقية الكامنة وراء المسيرة، وقال:«إن ما حدث كان نتيجة انتقامية لرفضنا لطلبات زعيم حزب المغيرون بعد الحوار الوطني الشامل والسيادي والتي طالب فيها بمنصب رئيس الوزراء وإعطائه 30% من مناصب المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية والشركات».
وذكر الرئيس الانتقالي في سياق خطابه، بأنه إذا لبى هذه الطلبات لزعيم حزب المغيرون يعني أنه لم يحترم مخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي، رغم طلبات الحكومة الانتقالية المتكررة لزعيم حزب المغيرون  قبل انعقاد الحوار للمشاركة العلنية وعرض آرائه بصورة واضحة، لكنه رفض جميع الطلبات وجاء من خلف الستار ليطلب هذه المناصب([8]).
هذه مجمل الأحداث السياسية والأمنية التي وقعت ما بين موت الرئيس إدريس ديبي ومخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي.

المحور الأول: مفهوم الحوار السياسي في العرف التشادي وسياقاته
إن الدعوة للحوار والمصالحة، اعتراف حقيقي بوجود حالة نزاعات، انقسامات، فوضى، خصومات، تمييز عنصري، كراهية، محاولة انفصال، وربما حروب. وتتلاشى جل هذه الحالات عند الجلوس على طاولة الحوار المنضبط بمعايير علمية وفنية صادقة، فتبدأ عمليات التشاور والتفاوض مع جميع الأطراف والقوى السياسية المناهضة، للوصول إلى حالة من الرضا العام الذي بدوره سيخفف من حدة الكراهية والاحتقان السياسي والاجتماعي. ومفهوم الحوار في هذه الحالة يتطلب التزاما ببنود الاتفاق وتنفيذا لها ولو على المدى البعيد. كما يشمل هذا المفهوم العدل والعفو وتعويض الضرر.
إن الحوار الوطني الشامل، في العرف التشادي يعني نسيان الماضي الكئيب والتأسيس للمرحلة القادمة، بما تنطوي عليها من مشاركة الجميع، والعفو العام والشامل لكل المعارضين الذين حملوا السلاح أو من كانوا في الشتات، وهذا المفهوم إذا وجد ترحيباً وقبولاً من جميع الأطراف الفاعلة والمشاركة في الحوار، سيهيأ لأرضية سلام دائم، يتبعه وضع أسس لديمقراطية حقيقية يتجاوز بها المواطن التشادي أزمة الحروب والظلم وعدم المساواة.
فمنذ استقلال البلاد عام 1960م عمد أبناء تشاد-خلال تاريخهم السياسي المضطرب-إلى مبادرات حوارية، هدفت إلى المصالحة والسلام، وخلال هذه الفترة وقعت الحكومات المتعاقبة مجموعة من الاتفاقيات مع الحركات المسلحة والمعارضة السياسية، وينتج عنها أحيانا إطلاق سراح السجناء، العفو، الترقيات الإدارية والعسكرية، وتكوين حكومة وطنية بمشاركة المنضمين. هذا إلى جانب المؤتمرات، المنتديات، والحوارات التي نظمتها الدولة التشادية من عام 1993حتى 2022م. وخلال هذه الفترة الطويلة تم إحصاء (30) مبادرة سلام بين الحكومات والحركات المسلحة والمعارضة السياسية([9]).
في عام 1993م نظمت حكومة الإنقاذ بداية حكم إدريس ديبي المؤتمرَ الوطنيّ المستقبل، بهدف التوصل إلى شكل دولة قانونية ومؤسساتية. وفي مارس 2018م انعقد المنتدى الوطني الأول لإصلاح المؤسسات الوطنية، وكان هذا المنتدى برداً على أكباد الشعب التشادي الذي طالته ويلات الحروب والثورات، فقد استجابت قوى الجمعيات والمنظمات المدنية وبعض الأحزاب السياسية لهذا النداء الشامل الذي عولت فيه على تغيير سياسات الدولة التشادية. انتهت نقاشات المؤتمر  بتعديل محتوى الدستور الذي ألغي فيه منصب رئيس الوزراء والتوصل إلى دولة موحدة شديدة اللامركزية، وتشكيل إطار وطني للحوار السياسي، وبهذه الصيغ الدستورية صعدت تشاد بحسب نتائج المنتدى على عتبة الجمهورية الرابعة([10]).
وفي 29 أكتوبر 2020م دعت الحكومة في عهد ديبي أيضاً إلى عقد منتدى ثان باسم “المنتدى الوطني الشامل الثاني” لمناقشة العديد من القضايا والإشكالات الأمنية التي تمر بها البلاد، إلا أن الطرح هذه المرة لم يحظ بالجدية أو المساس بهموم المواطن التشادي.
وعلى الصعيد الخارجي، احتضنت لومي عاصمة توغو من 21-28 يونيو 2021م حواراً تشاورياً جمع بين وزير خارجية توغو روبرت دوسي وستة من فصائل المعارضات العسكرية والسياسية، وهي([11]):
1- الجبهة الشعبية للنهضة الوطنية (FPRN).
2- جبهة الوفاق من أجل التغيير في تشاد (FACT).
3- جبهة الأمة من أجل الديمقراطية والعدالة بتشاد (FNDJT).
4- المجلس الوطني للتنمية والإصلاح (CNDR).
5- المجلس الوطني للإصلاح (CNR).
6- اتحاد القوى من اجل الديمقراطية والتنمية (UFDD).
وقد كان شرط فصائل المعارضات في هذا الحوار أن يوافق المجلس العسكري الانتقالي على الشرعية الدستورية. ولم تسفر أي نتائج عن هذا الحوار، ربما لتزامنه مع تأجج الوضع الأمني أثناء المسيرة السلمية التي دعت إليها جمعيات المجتمع المدني في مدنية أنجمينا.
وفي 13 مارس 2022م انعقد حوار الدوحة للسلام، شاركت فيه أكثر من عشرين معارضة سياسية وعسكرية وانتهت المباحثات بضرورة وقف إطلاق النار خلال مرحلة الحوار والتشاور، والمشاركة في الحوار الوطني الشامل والسيادي المزمع عقده بالعاصمة أنجمينا([12]).
إن فكرة الحوار الوطني الشامل كانت تدور في أذهان الكثير من السياسيين والفاعلين المدنيين بعد موت الرئيس إدريس ديبي، فعلى مستوى الشخصيات، كان أول من دعا إلى عقد حوار وطني، هو رئيس الوزراء الأسبق، جوزيف جمبرينقار داد ناجي، فقد دعا إلى عقد حوار سياسي وطني شامل خارج تشاد تشارك فيه كل القوى الحية المدنية والسياسية التي ستمنح البلاد فرصة الخروج من نفق الأزمات التي تمر بها البلاد، واقترح أن يعقد هذا الحوار في دولة محايدة كسويسرا أو ألمانيا في أوروبا، والرأس الأخضر أو غانا في أفريقيا([13]).
ولهذا، كانت معظم الأنظار السياسية والشعبية متجهة نحو المصالحة عبر حوار وطني شامل، يتسع لجميع القوى الحية في الداخل والخارج، فالشمولية تقتضي مشاركة مختلف الأطراف لمناقشة حاضر البلاد ومستقبل الأجيال بنية صادقة.
وتمهيداً للحوار الوطني الشامل الذي طالبت به بعض الطبقات السياسية، ومالت إليه نفوس التشاديين، أنشئت خلال الفترة العسكرية الانتقالية وزارة باسم (وزارة الحوار والمصالحة الوطنية) دعت جميع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني في يومي 25 و27 يونيو 2021م للتشاور كمرحلة اختبارية لتفادي أي حوار متوتر([14]).
وفي السياق نفسه، أكد رئيس الوزراء الانتقالي بتاريخ 02 مايو 2021م، أن الحكومة الانتقالية ستعمل جاهدة على تنظيم حوار وطني شامل، شمولاً حقيقياً، لتحقيق المصالحة الوطنية، كما قام بإنشاء اللجنة المنظمة للحوار الوطني الشامل (CODNI) والتي تضم مجموعة من اللجان الفنية والعملية والنوعية وكذلك اللجنة الخاصة بالقضايا السياسية والعسكرية (CTS).
وعقب ذلك، التقى رئيس المجلس العسكري الانتقالي في 22 سبتمبر 2021م بقادة الأحزاب السياسية وفاعلي المجتمع المدني، والسلطات الدينية، والسلطات الشعبية العرقية، واتحاد النقابات العمالية، وأفاد  بأنه سيعتزم لإقامة حوار وطني شامل لن يقصي أي موضوع ذو أهمية وطنية([15]). وبهذا مُهد للحوار في الداخل والخارج بتنظيم منتديات وندوات لتهيئة المناخ الملائم للسلام وبناء الثقة المتبادلة بين الحكومة والمواطنين من جهة، والحكومة والجماعات السياسية والعسكرية من جهة أخرى.
وبتاريخ 02 يوليو 2021م وقع رئيس المجلس العسكري الانتقالي على مرسوم ينص على إنشاء اللجنة المنظمة للحوار الوطني الشامل (CODNI) والذي يتضمن في مواده (6، 7، 8، 9) ضرورة إنشاء لجان فنية وأخرى فرعية متخصصة لإنجاز مهامها في الحوار([16]). وبصدور هذا المرسوم، بدأت الخطوة العملية للحوار الوطني الشامل والسيادي،  وهي لحظة تاريخية، بالنسبة لمشروع ما بعد ديبي.
رحبت الدول الصديقة لتشاد وبعض المنظمات الإقليمية بهذا المشروع، وقد أعربت عن تضامنها مع الشعب التشادي وكذلك عن رغبتها لدعم الفترة الانتقالية. ومن المنظمات الإقليمية التي عبرت عن تضامنها ودعمها لهذا الوضع، الاتحاد الأفريقي ومجموعة دول الساحل ولجنة حوض بحيرة تشاد والمجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا والمجموعة الاقتصادية والمالية لدول أفريقيا المركزية، ومنظمة الساحل والصحراء([17]).
وفي 15 سبتمبر 2022م انعقد الحوار الوطني الشامل والسيادي بالعاصمة أنجمينا قُبيل انقضاء فترة  قيادة المجلس العسكري الانتقالي للبلاد المحددة بسنتين. انطلقت فعاليات الحوار بحضور مؤسسات الحكومة العسكرية الانتقالية وزعماء المعارضات وبعض قوى الحراك المدني وممثلين عن الاتحاد الأفريقي. امتنع حزب المغيرون والحزب الاشتراكي بلا حدود عن المشاركة. استفاضت المناقشات وشملت موضوعات حساسة لم تطرق من قبل في المنتديين السابقين، وقد اُعتبر دستور 1996م مرجعية لهذا الحوار، مع الأخذ بعين الاعتبار بعض الرؤى المقترحة لإدراجها في ديباجة الدستور.
وكانت النقاشات مقسمة بحسب اللجان والمواضيع، وأبرز الموضوعات التي ناقشها المحاورون، مفهوم العدالة، المساواة، التسامح. أما عن شكل الدولة، أيدت الغالبية العظمى، شكل الدولة الموحدة اللامركزية إلى جانب ضمان الحكم الرشيد والعدالة الاجتماعية. وبخصوص النظام السياسي اقترح الحضور، انتخاب رئيس مع نائبه أو النظر في أمر رئيس الوزراء، وقد حددت سن الترشح للانتخابات الرئاسية من 35-70 سنة.

المحور الثاني: مخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي وانعكاساتها على الحياة العامة
أولا: مخرجات الحوار
بحسب ما جاء في ملخصات اللجان الفرعية النوعية لصياغة توصيات وقرارات الحوار الوطني الشامل والسيادي، خرج المتحاورون بمجموعة من التوصيات، منها([18]):

أ. شكل الدولة والدستور وإصلاح المؤسسات
انطلقت نقاشات الحوار الوطني الشامل من دستور 1996م كمرجعية مع بعض التعديلات المقترحة، إلى حين اعتماد الدستور الجديد عبر استفتاء عام. ومن خلال مداولات الحديث والنقاشات الخاصة والعامة، خلصت اللجنة المختصة بصياغة التوصيات المتعلقة بشكل الدولة والدستور وإصلاح المؤسسات بالآتي:
اعتماد شكل الدولة الموحدة المركزية.
 يقترح الحوار خفض العمر لأهلية الحكم إلى الحد الأدنى بـ 35 عاماً، وتحديد الحد الأقصى إلى 70 عاماً، للترشح لمنصب رئيس الجمهورية. وأما عن ولاية فترة الحكم، فاقد اعتمد المتحاورون فترتين من سنتين إلى خمس سنوات غير قابلة للتجديد، وجعل تعديل الأحكام المتعلقة بمدة الولاية والحد الأقصى للعمر مصونة.
 وعن أهلية قادة المرحلة الانتقالية للترشح في الانتخابات القادمة، أقر المتحاورون وفقاً لمبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون، وبروح المصالحة الوطنية، أن جميع المواطنين بما فيهم قادة المرحلة الانتقالية من الناخبين والمؤهلين للانتخابات وفق الشروط التي ينص عليها القانون.
 وعن تجديد مرحلة الفترة الانتقالية، حددت بعد الحوار الوطني الشامل ب(24) شهراً كحد أقصى، بعد أن حُل  (المجلس العسكري الانتقالي)، وفتحت مرحلة ثانية منبثقة عن الحوار الوطني الشامل تحمل اسم  (المجلس الانتقالي) وتعيين الجنرال محمد إدريس ديبي رئيساً لهذه المرحلة، ويحق لرئيس الفترة الانتقالية اقالة وتعيين الحكومة وكذلك تشكيل حكومة مصالحة وطنية.
وأما عن إصلاح المؤسسات، فقد أكدّتِ التحليلات بأن الأزمة المؤسساتية التي مرت بها البلاد نابعة عن قوانين عام 2005 و2018م التي ألغت بعض المؤسسات المهمة، فقد لوحظ اختلالات وظيفية مما يستوجب تنشيط المؤسسات التي تم إلغاؤها لتحسين جودة الخدمات العامة. وبعد التحليلات والمداولات، أوصت اللجنة المختصة بضرورة إعادة مجلس الشيوخ لإيجاد نوع من الحيوية التي يفتقدها النظام البرلماني، كما اقترحت اللجنة إعادة المجلس الدستوري كمؤسسة قائمة بذاتها أو محكمة دستورية عليا، وأشادت اللجنة بالتحويل الذي جرى عام 2018م  للمجلس الأعلى للإعلام (HCC) إلى السلطة العليا للإعلام السمعي بصري (HAMA)؛ لأنه إلى تحسين تنظيم المؤسسة الإعلامية من خلال إضفاء الطابع المهني على القطاع الإعلامي.
وأوصت اللجنة  أيضا بإعادة وساطة الجمهورية وتوسيع صلاحيتها، خلافاً لما حدده القانون رقم 031/رج/09، الصادر بتاريخ 11 سبتمبر 2009م. وأما عن الأحزاب السياسية يحث الحوار على التطبيق الكامل للقانون رقم 032/ ر ج/ 2019 بهدف حل مشكلة كثرة الأحزاب السياسية وسوء عملها. ومطالبة أي حزب سياسي بالتواجد في ثلثي ولايات البلاد على الأقل كمعيار للاعتراف به، مع مراعاة أوجه التشابه الأيديولوجي([19]).

ب. السلام الاجتماعي والمصالحة الوطنية
أجمع المؤتمرون على التكاتف من أجل إشاعة قيم السلام والوئام الاجتماعي والمصالحة الوطنية، فقد أكد جميع المشاركين في الحوار هذا المنزع الأصيل في الشعب التشادي الذي كره الحرب، وهو الآن يواجه تحديا أمنيا بسبب وجود عوامل عديدة تؤثر في العيش المشترك والتماسك الاجتماعي والوحدة والوئام الوطني. وعليه؛ أقر المشاركون في الحوار مفهوم الدولة العلمانية والعيش تحت ظل سيادتها متصالحة موحدة في تنوعها، وهي دولة تقوم على العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات.
وحصر المشاركون الأسباب التي تهدد العيش المشترك في البلاد في غياب الوعي الوطني، الحروب، هشاشة القوانين التي تنظم العاقات العامة بين المواطنين، تنامي الشعور بالظلم وعدم المساواة بين المواطنين، عدم احترام كرامة الإنسان، سوء توزيع الثروة بين المواطنين وعدم مشاركة الجميع في الإدارات العامة، انتشار ظواهر الفساد كالوساطة والسطو  والرشوة والمحسوبية مع عدم المساءلة عند تحقق ذلك، وكذلك الممارسات الخاطئة للدية وإهانة الإنسان.
وبناء على ما سبق؛ أوصى المشاركون فيما يخص السلام الاجتماعي والمصالحة الوطنية بالآتي([20]):
– تعزيز الديمقراطية والمداولة السلمية للسلطة.
– تعزيز الحكم الراشد والعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين.
– تعزيز احترام كرامة الإنسان عن طريق وضع حد للإفلات من العقبات والقبلية والمحسوبية والمحاباة بجميع أشكالها.
– القيام بالتوزيع العادل والمنصف للموارد الوطنية.
– إشراك الفنانين والزعماء الدينين والنساء والأشخاص ذوي الإعاقة ورجال الإعلام وقادة الرأي على نطاق واسع في عملية التحول الاجتماعي.
– تعزيز وتقوية المشاعر الوطنية من خلال بث الروح الوطنية وتعزيز التراث الثقافي الوطني.
– تهيئة وتنظيم لقاءات منتظمة للجميع بين الشباب.
– تطوير الرياضة الجماهيرية ونشر فلسفة نبذ العنف.
– محاربة التحريض على الكراهية والعنف والانطواء على الهوية المنتشرة عبر الشبكات الاجتماعية.
– فرض احترام العادات والتقاليد والأماكن المقدسة في كافة التراث الوطني.
– إنشاء وتعزيز آليات منع نشوب النزاعات بين المجتمعات وإدارتها.
– إعادة سيادة تشاد تجاه التدخلات الأجنبية.
– تحرير عقول المواطنين بشكل فعلي من الانقسامات، شمال/جنوب، مسلم/ مسيحي.
– فرض احترام التنوع الاجتماعي والثقافي وتطبيق قانون المساوة على الجميع من حيث العقوبة والحماية.
– التفكير في إنشاء لجنة التسامح والتعويض.
– التعجيل بإصلاح المؤسسة العسكرية لتصبح مؤسسة وطنية.

ج. الحقوق والحريات الأساسية
تهدف الحقوق الأساسية والحريات إلى رفاهية الأفراد وتنميتهم، وتتكفل دولة القانون بضمان حقوق الفرد وصيانة ممتلكاته، ولكن طيلة فترات الأنظمة السابقة التي تعاقبت على حكم البلاد يواجه المواطن انتهاكات جسيمة لحقوقه وحرياته، ولهذا السبب حدد الحوار الوطني الشامل والسيادي مجموعة من المحاور لحماية الحريات، منها([21]):
1- كفالة حقوق الإنسان والحريات الأساسية وحق الدفاع.
2- ضمان الديمقراطية والمواطنة.
3- حرية الصحافة.
4- حقوق المعاقين.
5- الحرية النقابية وتكوين الجمعيات.
6- حماية الطفولة المبكرة والعنف ضد المرأة.
وهناك توصيات أخرى تتعلق بالقضايا الثقافية والمدنية والدينية، وأيضا توصيات تتعلق بمتابعة تنفيذ بنود حوار الدوحة. ولضمان تطبيق هذه التوصيات على أرض الواقع، وقع رئيس الفترة الانتقالية على مرسوم يقضي بإنشاء إطار مستقل لمتابعة وتقييم قرارات وتوصيات الحوار الوطني الشامل والسيادي، وذلك تاريخ 28 أكتوبر 2022م، حتى تنعكس توصيات الحوار على الحياة العامة([22]).

ثانيا: انعكاسات مخرجات الحوار على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية
اسدل المشاركون الستار على جلسات الحوار الوطني الشامل والسيادي في نهاية أكتوبر الماضي 2022م، وعشية إعلان التوصيات، انتظرت بعض قوى الحراك الوطني، استلام كعكتها عند تشكيل أول حكومة بعد الحوار في ظل قيادة المجلس العسكري الانتقالي. وكانت التوقعات بالنسبة لبعض الأحزاب السياسية المعارضة-والتي انضمت إلى مائدة الحوار-حبلى بنيل الحقوق من هذه الحكومة المنتظرة، وبالفعل عُين زعيم حزب الاتحاد الوطني للديمقراطية والتجديد، صالح كبزابو رئيساً للوزراء، كما عُين محمد أحمد الحبو زعيم حزب الحريات والتنمية وزيراً للعدل، في محاولة من المجلس الانتقالي لتهدئة المخاوف الدولية والداخلية. أما حزب المغيرون والذي لم يعترف بالمجلس العسكري الانتقالي، فقد اعتبر مخرجات الحوار الوطني القاضية بتمديد الفترة الانتقالية بالمسرحية المعدة سلفاً من أجل توريث الحكم في عائلة الرئيس الراحل إدريس ديبي.
كانت المفاجأة بالنسبة للأحزاب التي لم تشارك في الحوار خطيرة للغاية، فقد تم تشكيل الحكومة الانتقالية بعد الحوار من معظم الوجوه القديمة التي كانت تقود إدارات الدولة في عهد الرئيس إدريس ديبي، ولهذا عبرت قوى التحالف المعارضة عن قلقها إزاء مخرجات الحوار وتولي صالح كبزابو منصب رئيس الوزراء. ووسط هذا الغبن السياسي دعا كل من حزب المغيرون والحزب الاشتراكي بلا حدود الشعبَ التشادي إلى تنظيم مسيرة كبرى في 20 أكتوبر 2022م تعبر عن رفضه التام لمخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي التي أفضت بتشكيل حكومة كبزابو الانتقالية.
وفي فجر  الاثنين 20 أكتوبر 2022م انتفض أنصار حزب المغيرون وانضم إليه أنصار الحزب الاشتراكي بلا حدود في مسيرة عارمة شملت: أنجمينا، مندو، سار، أبشة، ومنغو، وعبروا عن غضبهم من مخرجات الحوار الوطني، وما ترتب عليها من تشكيل حكومة كبزابو التي أعادت المشهد السياسي في عهد الرئيس إدريس ديبي. مسيرة 20 أكتوبر خلفت دمارا بشرياً اجتماعيا وصحيا وسياسيا.
جاءت المسيرة عنيفة وشديدة للغاية، طالت الحقوق العامة والخاصة، قتل فيها أعدادا كبيرة من الأبرياء والمتظاهرين وأعضاء الحكومة ورجال الشرطة، ففي مدينة مندو وحدها قتل ما لا يقل على 24 شخصاً، وفي مدينة أنجمينا مات أكثر 70 شخصاً، وغيرها من الخسائر البشرية المتمثلة في الجروح والكسر والمرضى. ولم تسجل أي مسيرة سلمية عبر تاريخ تشاد، حالة وفاة وجروح مثلما سجلتها مسيرة 20 أكتوبر منذ استقلال البلاد عام 1960م.
استطاعت الحكومة-بعد عمليات كر وفر استمرت ثلاثة أيام مع متظاهري مسيرة 20 أكتوبر-أن توطد الأمن في جميع مدن البلاد، فقد خيم على الحكومة الانتقالية خوف شديد، إزاء ما حدث، عبر عن هذا الخوف رئيس الحكومة الانتقالية محمد إدريس ديبي في خطاب حزين وجهه للشعب التشادي في 25 أكتوبر الجاري، واصفا هذه المسيرة بالمحاولة الانقلابية الفاشلة، وذكر أن قادة هذه المحاولة اقترحوا له تقاسم السلطة في عدد من الجلسات التي جمعته بهم، ولكنه رفض هذه الاقتراحات التي تتعارض مع مخرجات الحوار الوطني الشامل والسياسي الذي لم يشاركوا فيه([23]).
أما على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، فقد خرجت مدينة أنجمينا لتوها من فصل الخريف الذي غالبا ما ينهك السكان ويعرقل سيرهم الطبيعي، لا سيما سكان القرى النائية أو تلك التي تقع على أطراف المدن الكبرى. ففي الوقت الذي تعافت منه المدينة من سيول الخريف الجارفة، تم الإعلان عن مخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي، وكان سكان المناطق التي جرفتها سيول الخريف ينتظرون فرجا عاجلا لتعويض الخسائر؛ فضلا عن ذلك، تضاعف هذا الألم بانفجار فيضانات عنيفة تجاه تلك المناطق على ضفتي نهر شاري وتسبب في خسائر هائلة، ترك الناس منازلهم تبتلعها الفيضانات وفروا صوب الجهات الناجية، انتشرت الملاريا وحصدت الأرواح.
ومثل ذلك في أحياء أخرى من الناحية الشمالية لمدينة أنجمينا، كحي شدرة تلاتة، دنقيسو، وقجة، التي لم تكن بها مستشفيات حديثة ولا طرق معبدة تؤمن أمن المارة من أصحاب السيارات والدرجات الخاصة أو ناقلات الشحن الغذائي. في هذه الأثناء تم الإعلان عن مخرجات الحوار الوطني الشامل والسياسي. بالطبع، الزمن لم يكن مناسباً لإعلان نتائج حوار كهذا وتشكيل حكومة-في نظر بعض الأحزاب-غير شاملة بل لا تعبر عن أصوات الشعب التشادي. في حين ترى الحكومة أن الهدف من تعجيل إعلان نتائج الحوار وتشكيل حكومة لتسيير البلاد في هذا الوضع الخطير، كان لغرض أمني؛ لأن الأمن  دائما يأتي في الدرجة الأولى من الأولويات التي لا تقتضي التأجيل أو التسويف.

المحور الثالث: مواقف أطراف الحوار الوطني الشامل والسيادي من مخرجاته وأصحاب المصالح المختلفة
أولا: موقف مناصرو الحكومة الانتقالية

عقب مسيرة 20 أكتوبر أدلت الحكومة ومناصريها بموقف مستنكر واصفاً المسيرة بالمحاولة الانقلابية الفاشلة. وبعد سماع خطاب رئيس المرحلة الانتقالية حول أحداث 20 أكتوبر، انهالت الخطابات من الموالين للحكومة الانتقالية من جميع المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، فقد صرّح اللواء إدريس دوكوني الدكير، وزير الأمن العام والهجرة لوسائل الإعلام المختلفة، أن مظاهرات 20 أكتوبر ليست وليدة لحظتها، وإنما تم الإعداد لها مسبقا من بعض الأحزاب السياسية المعارضة وجُندت لها الطاقات الشبابية بإغرائها بالمخدرات والمهلوسات، فكان الاندفاع لمهاجمة الشرطة بصورة لا تقاوم، فاضطرت لتدافع عن نفسها بعد أن فقدت 10 عنصر من عناصرها.
كما نفى مدعي الجمهورية لمحكمة أنجمينا موسى واد جبرين عبر التلفزيون الوطني أن تكون هذه مظاهرات سلمية، وذلك بعد ضبط أكثر من 6000 قطعة سلاح من خفيفة وثقيلة في 27 أكتوبر. وأكد في بيانه فتح تحقيق من قبل الشرطة القضائية حول أحداث 20 أكتوبر لمعاقبة المجرمين والمخربين.
وأدان زعيم حزب الوفاق الوطني الشعبي، محمد عمر آدم، سلوك مظاهرات 20 أكتوبر  ووصفه بالتمرد المخطط له من أجل زعزعة واستقرار أمن البلاد، وأشار بيان الحزب الصادر يوم الخميس 27 أكتوبر إلى نوايا السياسيين الانفصاليين لتهديد مستقبل تشاد.
وقدّم النائب الأول لرئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الشيخ عبد الدائم عبد الله عثمان بيانا صحفيا في 26 أكتوبر 2022م بين فيه موقف المجلس من تلك الأحداث، داعيا إلى الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي ونبذ التطرف والقسوة ضد الآخر. وطالب الحكومة بالقيام بمسؤوليتها التامة لحفظ أمن البلاد.
كما دعا المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية على لسان مفتي البلاد أحمد النور الحلو عبر خطاب صحفي قدمه الخميس 27 أكتوبر لوسائل الإعلام، ودعا جميع المواطنين إلى تقدير نعمة الأمن والاستقرار وعدم الخروج لتخريب ممتلكات الغير، والمساس بوحدة الصف. وناشد جميع الخطباء في تشاد بتوحيد الخطب يوم الجمعة وتخصيصها لأهمية الأمن والسلام والتضامن الاجتماعي. وفي البيان المشترك للقيادات الدينية الثلاثية، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، مؤتمر الأساقفة، ووفاق الكنائس الإنجيلية، الذي قرأه النائب الأول لرئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الشيخ عبد الدائم أحمد عثمان، استنكر البيان مسيرة 20 أكتوبر ودعا إلى الوحدة والسلام والوئام.
وعَبّر التحالفُ الوطني للمنظمات والجمعيات الداعمة للغة العربية في تشاد عَبْرَ صفحته على الفيس بوك عن استنكاره لأعمال العنف والخراب والتدمير التي خلفتها مسيرة 20 أكتوبر 2022م واصفاً إياها بالمسيرة غير القانونية. وقدم رئيس تجمع العمل الشبابي للسلام والتنمية ونهضة تشاد، محمد المهدي عبد الرحمن، حديثا صحفيا لوسائل الإعلام استنكر فيه أعمال الشغب والعنف في مسيرة 20 أكتوبر، داعيا إلى وحدة الصف من أجل تجاوز المرحلة الحرجة.|

ثانيا: مواقف الأحزاب السياسية المعارضة ومؤيدو المسيرة
في فجر الجمعة 28 أكتوبر دعا زعيم حزب الديمقراطيين من أجل التنمية والتقدم، ماكس كميكوي المجتمع الدولي إلى إجراء تحقيقات مستقلة في أحداث 20 أكتوبر التي خلفت ما يقرب عن 50 شخصا وجرح أكثر من 300 آخرين خلال كظاهرات تطالب بتنحي رئيس المرحلة الانتقالية محمد إدريس ديبي وتسليم السلطة للمدنيين.
وعلى مستوى الخلافات الداخلية لقادة مسيرة 20 أكتوبر، فبعد مضي أيام قليلة من تشكيل حكومة الحوار الوطني الشامل والسيادي، وقيام مسيرة 20 أكتوبر، تفاجأ المشهد السياسي التشادي، بانقسام حزب المغيرون، والحزب الاشتراكي بلا حدود، ففي29 أكتوبر 2022م أعلن مجموعة من مناصري الحزب الاشتراكي بلا حدود لوسائل الإعلام المختلفة عن استقالتهم من الحزب. وقد تناول المغردون في مواقع التواصل الاجتماعي سبب هذه الاستقالة الجماعية والمفاجئة من عناصر كانت مصممة على التمسك بمبادئ الحزب، إذ تشير بعض آراء المغردين إلى أن هذه الاستقالة حدثت تحت وطأة الضغوط السياسية من قبل حكومة المرحلة الانتقالية. فيما يرى آخرون أن الاستقالة جاءت في الوقت المناسب لتحقيق المكاسب السياسية التي طال انتظاره لبعض الشباب.
وفي اليوم الثالث للمسيرة أعلن  نائب رئيس حزب المغيرون مصطفى المصري عن انسحابه عن الحزب، وبحسب المصري أن «سبب الاستقالة كان  بدافع انحراف الحزب عن قيمه الأساسية لحماية الروح البشرية والكرامة الإنسانية والعيش المشترك والوحدة». وقد أوضح المصري في مؤتمر استقالته أن زعيم الحزب سكسيه ماسرا أخبرهم في عدد من المناسبات أنه، إن لم يصبح رئيسا للبلاد سيحولها إلى مكان غير قابل للعيش.
بالطبع، أحيانا جرى العرف في السياسية التشادية شيوع ثقافة الانشقاقات في الأحزاب والجمعيات والنقابات وقت الشدة، وبهذه الصورة أصبح حزب المغيرون كالبقرة الحلوب لبعض أعضائه الطامحين إلى تسلق المصالح الشخصية، فمنذ أن ظهر على مسرح المعترك السياسي أواخر 2018م سجل حزب المغيرون انشقاقات مؤلمة من أهم مؤسسيه، ففي خضم المسيرات المنادية بالرجوع إلى الشرعية الدستورية بداية حكم المجلس العسكري الانتقالي، انشقت عنه السيدة مريم سومايلا بذات الحجة التي دفعت المصري إلى الاستقالة.
وأدان اتحاد نقابات تشاد بشدة ما أطلق عليه بأعمال القتل والتعذيب والمعاملات غير الإنسانية التي لحقت بمتظاهري 20 أكتوبر. كما ندد أسقف مدينة مندو يواكيم كوراليو بموقفه الموالي مع المتظاهرين، وأوضح أن ما حدث هو محاولة لتكميم أفواه المتظاهرين الذين حاولوا التعبير عن آرائهم السياسية وعدم رضاهم بما يجري من ظلم.

ثالثا: موقف بعض الشباب
أعربت بعض آراء الشباب المتابعين للحوار الوطني الشامل والسيادي عن رفضها لكل وسائل العنف واستخدام القوة، وتفاعلت مع مشاورات الحوار وخرجاته، وتنصب جميع هذه الآراء في التمني لخروج البلاد من هذه المرحلة الحرجة وانتقال السلطة سلميا عبر صناديق الاقتراع، ويمثل هذه الشريحة الشبابية أصحاب الحرف والمشاريع الصغيرة([24]).
أما عن الشباب المثقف، فقد عبر عن موقفه تجاه مخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي وما تبعه من خراب ودمار بالسلب، حيث تناول بعضهم  في صفحته على الفيس بوك بعض الآراء والتحليلات الناقدة لطبيعة الحوار وآلية عقده. يقول الدكتور محمد علي حسن جمعة: «أن الحوار كسابقاته أنبنى على أسس واهية وقواعد متهالكة، منها التحضير له بأساليب الانتقاء عبر مجاميع سياسية غير ناضجة بعضهم منهم ساهم في صنع مشكلات البلاد»([25]).
ونشر الصحفي موسى حسن شاري عبر صفته الخاصة على الفيس بوك قائلا: «أفشل حكومة في أول اجتماع لمجلس الوزراء، مظاهرات وقتلى وجرحى، ثم حظر التجوال، دولة كبزابو لا تبشر بخير». وقال الصحفي أبو بكر عبد السلام بعد قمع مسيرة 20 أكتوبر في صفحته على الفيس بوك:«تفاصيل كثيرة قادمة ستأخذ تشاد إلى تحولات صعبة، ولسنا بدول الجوار ببعيد».
مواقع التواصل الاجتماعي على اختلاف تنوعها مليئة بالتنديدات والإدانات وعبارات الشجب على السلوك الذي انتهجته سياسة الحكومة الانتقالية مع المتظاهرين في مسيرة 20 أكتوبر، أما التفاعل مع الحكومة وتأييدها على قمع المسيرة، فلم يظهر إلا عند زعماء المؤسسات الموالية للنظام.
وعن عموم الشعب التشادي، أعربت التعابير عن امتعاضها وأسفها من هدر الأموال العامة لصالح جيوب البرجوازيين الذين يحضرون مثل هذه الحوارات، فقد انعقد المنتدى الأول، والثاني، وها هو الحوار الوطني الشامل والسيادي يلقي بظلاله على مستقبل البلاد، ولكن دون جدوى بحسب التعابير الشعبية للمواطن التشادي الذي يئس من المراوغات السياسية طيلة الثلاثين عاماً.

المحور الرابع: مستقبل العملية السياسية في تشاد في ضوء مخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي
بعيد الحوار الوطني الشامل والسيادي، دخل المشهد السياسي والمؤسساتي التشادي طوراً جديداً تبدلت فيه الكثير من المعادلات التي ظهرت منذ موت الرئيس إدريس ديبي، وتكوين حكومة انتقالية. فقد أسفرت مخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي عن ارتفاع وتيرة الخلافات السياسية، وارتفع سقف الخطاب السياسي إلى درجة الغليان الذي لامس نصوص الحوار القاضية بالمصالحة وإنهاء الخلاف، وهو ما ينذر بمشهد سياسي متنافر يصعب في ظله الوصول إلى توافق لتشكيل مجتمع متماسك، في الوقت الذي يقود فيه زعيم حزب المغيرون شريحة معارضة من الجنوب المسيحي، واستغلال الحكومة الانتقالية لهذا السلوك الذي يشير إلى نهج انفصالي أو أيديولوجي متطرف ضد المسلمين، ما أدى إلى مباعد هوة التوافق بين الحكومة الانتقالية والشعب الجنوبي.
وعلى ضوء هذا السلوك السياسي المنتهج من قبل الحكومة الانتقالية وقادة الحراك الوطني، يمكن التوصل إلى النتائج الآتية:
1- أكدت الأحداث السياسية في تشاد منذ وفاة الرئيس إدريس ديبي إتنو وحتى طي صفحة الحوار الوطني الشامل والسيادي، فاعلية المعارضات المسلحة والسياسية ومؤسسات المجتمع المدني على مساهمتها في صنع القرار السياسي وبناء دولة المؤسسات من خلال المسيرات والضغوط والحوارات المختلفة مع قيادة المجلس العسكري الانتقالي.
2- بعد رفع جلسات الحوار الوطني الشامل والسيادي وتمديد الفترة الانتقالية الثانية ومن ثم تشكيل حكومة الحوار الوطني وتنظيم مسيرة 20 أكتوبر 2022م، باتت معظم الأحزاب السياسية المعارضة ومؤسسات المجتمع المدني أسيرة الضغوط والاستقطاب السياسي الحاد، مما سيؤثر سلبا على مسار القوى السياسية ومستقبل البلاد الذي هيمنت عليه أساليب سياسة الاتجاه الواحد.
3- إن أحدث 20 أكتوبر برهنت للرأي العام الدولي والإقليمي، على حجم التحديات الأمنية والسياسية التي ستواجه حكومة المرحلة الانتقالية بقيادة صالح كبزابو، وضمن هذه التحديات، التساؤل حول مدى إمكانية تطبيق بنود الحوار الوطني الشامل التي تنص على الانتقال السلمي، وكيفية التفاعل مع المعارضين والمناهضين السياسيين.
4- سيستفيد المجلس الانتقالي من التناقضات الحزبية التي سادت مرحلة ما بعد مسيرة 20 أكتوبر، ففي الوقت الذي علا فيه صوت الحزبين المغيرون والحزب الاشتراكي بلا حدود وهددا بحدوث ضغوط سياسية قد تؤدي إلى تنحي رئيس المجلس الانتقالي عن منصبه، تفاجأ أنصار هذين الحزبين بالاستقالات والانشقاقات الداخلية التي تجاوزت الحد المألوف في تاريخ مسيرة هذين الحزبين، ولذلك، كلما خيّمت صور التناقض الحزبي بالنسبة للأحزاب الضاغطة والمؤثرة، تتحول هذه التناقضات إلى مكتسبات سياسية بالنسبة للحكومة الانتقالية.
5- يلاحظ أيضا هنالك نفور شعبي عام من بعض نوايا زعيم حزب المغيرون الانفصالية، وزعيم الحزب الاشتراكي بلا حدود الذي ارتوى من كأس النظام السابق، مما يؤثر هذا النفور سلباً على تقدم هذين الحزبين. ومما يزيد الشعب التشادي ريبة في نواياهما، عدم الثبات على مبادئ ورؤى واضحة، فالنسبة لزعيم الحزب الاشتراكي بلا حدود تعود أسباب تمرده إلى الخلافات الشخصية التي اندلعت بينه وبين سيدة البلاد الأولى هندة ديبي مع نهايات حكم الرئيس إدريس ديبي إتنو. وأما عن زعيم حزب المغيرون الذي التقى برئيس المجلس العسكري الانتقالي عدة مرات-بحسب ما صرح به الرئيس الانتقالي-كان أسمى ما يطلب، هو منصب رئيس الوزراء الذي فاز به صالح كبزابو.
6- لقد ملأ الحوار الوطني الشامل والسيادي حالة الفراغ الدستوري الذي أحدثه موت الرئيس إدريس ديبي إتنو، فلكي يتجاوز المجلس العسكري الانتقالي هذه الحالة اضطر إلى عقد حوار يسمح بالتعديلات الدستورية التي تضمن لقادة المجلس العسكري الانتقالي بالترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ومن ثم استخدم المجلس الانتقالي آلية سياسة النظام السابق لكسر شوكة المعارضات السياسية، بصورة مختلفة تراوح بين سلوك الضغط لضرب أحزاب المعارضة من الداخل من خلال الانشقاقات التي طالت معظم تلك الأحزاب، وكذلك جذب النشطاء من ذوي المصالح في مؤسسات المجتمع المدني لعرقلة الحراك التشادي والاستمرار في الحكم من خلال تنظيم انتخابات تكون نتائجها في صالح المجلس الانتقالي الذي سمحت له مخرجات الحوار الوطني الشامل والسيادي بالترشح. وعليه ستواجه الحكومة الانتقالية في حال فوزها في الانتخابات المقبلة، مجموعة من الأزمات الأمنية والسياسية يمكن أن ترجع بالمجتمع التشادي إلى عام 2008م وتشهد البلاد فوضى وتجاذبات سياسية.
7- وأخيراً، سيكون لقتل المتظاهرين في مسيرة 20 أكتوبر المنصرم، ردود أفعال اجتماعية وسياسية، فالجنوب التشادي منذ استقلال البلاد عام 1960م كان شديد الحساسية فيما يتعلق بالانفصال عن الشمال المسلم، فالتوتر كان ولا يزال طوال هذه الفترة بين الشمال والجنوب، وكان قادة مسيرة 20 أكتوبر والذين قتلوا فيها-معظمهم إن لم يكونوا كلهم-من الجنوب المسيحي، وفي الوقت نفسه يتبع زعماء أحزاب سياسية معارضة من أبناء الجنوب لدوائر خارجية غربية، مثل زعيم حزب المغيرون الذي غالبا ما يترك أنصاره أثناء المسيرات ويحتمي بالسفارات الغربية.

المصادر


([1]) باحث وأستاذ جامعي، مؤسس ومدير المنهل للبحوث والدراسات والتدريب بأنجمينا، وسكرتير التحرير بجريدة الشاهد. عضو هيئة التدريس في جامعتي الملك فيصل بتشاد، وسبها-فرع تشاد، و مسجل سابق في كلية إدريس ديبي إتنو للعلوم القانونية والسياسية بجامعة الملك فيصل بتشاد.
([2]) - المقالان منشوران بصحيفة الشاهد، العدد100، 02 يناير 2019م، ص5و8.
([3]) - تقرير اللجنة الخاصة: الحوار الوطني الشامل، أنجمينا-تشاد، 2022، ص4.
([4]) - تقرير اللجنة الفرعية النوعية رقم (01) المختصة بالسلام والتماسك الاجتماعي والمصالحة الوطنية: الحوار الوطني الشامل، أنجمينا-تشاد، 2022، ص8.
([5]) - محمد يوسف محمد "إسهام منظمات المجتمع المدني في تحسين المسار الديمقراطي في تشاد، انتخابات 2021م" متابعات أفريقية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، السعودية-الرياض، العدد (17) محرم 1442هـ/ أغسطس 2021م، ص14.
([6]) - المرجع السابق، ص15.
([7]) - صفحة حزب المغيرون على الفيس بوك: https://www.facebook.com/transtchad
([8]) - خطاب رئيس الفترة الانتقالية محمد إدريس ديبي الموجه للرأم العام الدولي والإقليمي عن تداعيات مسيرة 20 أكتوبر، عبر التلفزيون الوطني (Télé Tchad) شوهد في 25 أكتوبر 2022م عند الساعة العاشرة ليلا.
([9]) - تقرير اللجنة الفرعية النوعية رقم (01) المختصة بالسلام والتماسك الاجتماعي والمصالحة الوطنية: اللجنة المنظمة للحوار الوطني الشامل، أنجمينا-تشاد، 2022، ص17.
([10]) - صحيفة الشاهد، العدد75، 04 يناير 2018م، ص11.
([11]) - آدم يوسف "مستقبل المعارضة التشادية المسلحة ما بعد مقتل الرئيس إدريس ديبي: الواقع والمآل" متابعات أفريقية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، السعودية-الرياض، العدد (17) محرم 1442هـ/ أغسطس 2021م،ص25.
([12]) - مذكرة اتفاقية الدوحة للسلام ومشاركة الحركات السياسية العسكرية في الحوار الوطني الشامل والسيادي.
([13]) - صحيفة الشاهد، العدد136، 11 سبتمبر 2019م، ص2.
([14]) - صحيفة الشاهد، العدد211، 30 يوليو 2021م، ص2.
([15])- تقرير اللجنة الخاصة، مرجع سابق، 2022، ص14.
([16]) - تقرير اللجنة الفرعية رقم (02) المختصة بشكل الدولة، الدستور، إصلاح المؤسسات، والعملية الانتخابية: اللجنة المنظمة للحوار الوطني الشامل، أنجمينا-تشاد، 2022، ص1.
([17]) - المرجع السابق، ص5.
([18]) - المرجع السابق، ص6.
([19]) - المرجع السابق، ص8-10.
([20]) - اللجنة المنظمة للحوار الوطني الشامل، تقرير اللجنة الفرعية النوعية رقم (01) المختصة بالسلام والتماسك الاجتماعي والمصالحة الوطنية: أنجمينا، 2022، ص13-16.
([21]) - اللجنة المنظمة للحوار الوطني الشامل، تقرير اللجنة الفرعية النوعية رقم (03) المختصة بالحقوق والحريات: أنجمينا، 2022، ص2.
([22]) - مرسوم 0021/ رأ/ 2022، القاضي بإنشاء إطار مستقل لتوصيات الحوار الوطني الشامل والسيادي.
([23]) - خطاب رئيس الفترة الانتقالية محمد إدريس ديبي، مرجع سابق.
([24]) - برنامج"ما ينتظره المواطنون من الحوار الوطني الشامل" إعداد التلفزيون الوطني (Télé Tchad) شوهد 3 نوفمبر 2022م عبر اليوتوب برابط
 : https://m.youtube.com/watch?v=M4pv0TGxepA&t=470s#bottom-sheet 
([25]) - صفحة جريدة الأنباء على الفيس بوك: https://www.facebook.com/100206264764391/posts/pfbid0D28RTgyYsWmAxnSn7STgAtbsATCPHNsdRpeTFVVkwpJEiYGwRvN8oXeYoGxtDJmQl/

 

أفروبوليسي

المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) مؤسسة مستقلة تقدم دراسات وأبحاثاً حول القضايا الأفريقية لدعم صناع القرار بمعرفة دقيقة وموثوقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى