إصداراتتحليلات

القمة الفرنكوفونية 18 في جربة التونسية: ماهي توقعات إفريقيا من آخر الأدوات الناعمة للإمبريالية الفرنسية

إعداد فريق المركز

مقدمة
احتضنت جزيرة جربة الواقعة في جنوب شرقي البلاد التونسية أيام 19/20 نوفمبر 2022 فعاليات قمة المنظمة الفرنكوفونية 18 تحت عنوان ” التواصل في إطار التنوع: التكنولوجيا الرقمية كرافد للتنمية والتضامن في الفضاء الفرنكوفونية”، وتعتبر الدول الإفريقية (تونس، السنغال، الغابون) دول مؤسسة للمنظمة رفقة كمبوديا، وتضم المنظمة 88 دولة عضو، ومن بينهم 29 دولة إفريقية. وتهتم المنظمة بالحفاظ على اللغة والثقافة الفرنسية كما أنها تشمل مجالات تعاونية أخرى كالديمقراطية وحقوق الإنسان، والتعليم، والبحث العلمي، والاقتصادية، والتنموية. ويترأس المنظمة الواقع مقرها الرئيسي بالعاصمة باريس حاليا وزيرة الخارجية الروندية  (2009-2018) لويز موشيكيوابو، وتأتي هذه القمة في أجواء تشهد فيها فرنسا تراجعا كبيرا في نفوذها وهيمنتها على القارة وتخلي عديد من الدول الإفريقية عن اللغة الفرنسية وتعويضها بالعربية أو حتى الإنجليزية (مثال روندا) ولكن تونس البلد المضيف للقمة يعلق آمالا كبيرة على هذه القمة للخروج منها بمكاسب في ظل الازمة الاقتصادية والسياسية التي تعيشها البلاد.

ما هي أهداف فرنسا من وراء القمة الفرنكوفونية رقم 18؟
منذ تأسيسها في مطلع سبعينات القرن الماضي، تعتبر المنظمة الفرنكوفونية وسيلة لمواصلة فرنسا هيمنتها على مستعمراتها السابقة ثقافيا وخاصة منها الإفريقية.
وعبر هذه المنظمة نجحت فرنسا نسبيا في الحفاظ على تواجدها ثقافيا وحتى سياسيا في القارة وضمن مستعمراتها السابقة وذلك عبر دعم اللغة الفرنسية من خلال عدة مشاريع للحفاظ عليها كلغة رئيسية ورسمية في عدد من الدول الإفريقية وخاصة  دول غرب إفريقيا التي تشهد حاليا تراجعا كبيرا للنفوذ الفرنسي فيها وخاصة ما يتعلق بالنفوذ السياسي.
ونجحت في الحفاظ عليها كلغة معاملات إدارية في دول شمال إفريقيا، وإن نجحت نسبيا في الحفاظ على هيمنتها الثقافية ومنع عديد المشاريع التي كانت تنوي التخلي عن اللغة الفرنسية وتعويضها بلغات أخرى (العربية، او الإنجليزية)، مما مكنها من مواصلة هيمنتها على القارة والحفاظ على مصالحها فيها.
ولكن مؤخرا ومع تراجع نفوذها السياسي والثقافي في إفريقيا عبر دخول عديد الفاعلين الدوليين والإقليمين في المشهد الإفريقي سياسيا، وما سبقها من موجة العولمة الرقمية التي فتحت أبواب القارة أمام لغات أخرى وأبرزها اللغة الإنجليزية، بدأت فرنسا تستشعر تقلص نفوذها وهو ما يجعل توقيت هذه القمة في غاية الأهمية بالنسبة لباريس.
فلو قمنا بقراءة سريعة في عنوان القمة الفرنكوفونية 18 “التواصل في إطار التنوع: التكنولوجيا الرقمية كرافد للتنمية والتضامن في فضاء الفرنكوفونية”، ومع أحد أهم مخرجات القمة الذي تمثل في رصد المنظمة ل 10 ملايين يورو لدعم صناع المحتوى باللغة الفرنسية، كما أن الرئيسي الفرنسي اجتمع على هامش القمة مع مجموعة من الشباب وحثهم على ضرورة استرداد اللغة الفرنسية مكانتها في بعض الدول الفرنكوفونية التي تشهد فيها تراجعا كبيرا لحساب لغات أخرى (الإنجليزية، والعربية).
يبرز التوجه الفرنسي الحالي لإيجاد موطئ قدم داخل فضاء التواصل الاجتماعي الذي يعتبر من ضمن النطاقات الخارجة عن سيطرتها والذي تنتشر فيه أساسا اللغة العولمية المتمثلة في اللغة الإنجليزية.
وان تمكنت فرنسا من فرض اللغة الفرنسية في (الإدارات والجامعات، والمدارس، …. الخ) في مستعمراتها السابقة وهذا ما أكدت عليه خلال فعاليات القمة عبر توقيعها مع تونس “خطة تهدف إلى تعزيز مهارات اللغة الفرنسية لدى المعلمين والطلاب”، فهي تسعى إلى التواجد داخل الفضاءات الأخرى، وخاصة الفضاء الافتراضي الذي تؤثثه اللغة الإنجليزية.
كما أن الدول الغنية داخل المنظمة ستسعى لتقديم قروض واستثمارات للدول الأعضاء فيها وخاصة الإفريقية في ظل الازمة العالمية الحالية وهو ما تم في أول يوم في فعاليات القمة حيث منح الرئيس الفرنسي ماكرون تونس البلد المستضيف للقمة قرضا قيمته 200 مليون يورو لمساعداتها في الخروج من الأزمة الاقتصادية.
وفي ظل الأزمة الحالية التي يشهدها العالم بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وخاصة في مجال الطاقة، تسعى فرنسا رفقة باقي الدول الأوروبية داخل المنظمة عبر هذه القمة الحصول على امدادات الطاقة من إفريقيا لتعويض الغاز الروسي.

ما الذي تسعى إليه تونس من خلال استضافة القمة الفرنكوفونية؟ 
كان من المزمع ان تدور فعاليات قمة المنظمة الفرنكوفونية 18 في سنة 2021 بتونس، ولكن بسبب أزمة فيروس كورونا ورفض كندا لانعقاد القمة بتونس بسبب الأزمة السياسية التي تعيشها، تم تأجيل هذه القمة إلى التاريخ الحالي. وتعول الجمهورية التونسية من وراء انعقاد القمة إلى جلب مكاسب اقتصادية بالأساس وأخرى سياسية:
فعلى الجانب الاقتصادي تكمن مساعي تونس في محاولة الحصول على (قروض، استثمارات) من قبل الدول الغنية داخل المنظمة الفرنكوفونية ما يعرف بالدول الأورو- متوسطية، كما انها أي تونس حصلت مؤخرا على قرض بقيمة 400 مليار دولار من بنك النقد الدولي، ولكن لم تتحصل عليه إلى اللحظة وتواجد دول أعضاء في منظمة كفرنسا، كندا، بلجيكا، سويسرا، وهي دول تمتلك نفوذا كبيرا داخل بنك النقد الدولي يمكن من عملية تسريع تمتع تونس بهذا القرض.
أما سياسيا فإن المنظومة السياسية الحالية في تونس تحاول فك العزلة الخارجية التي تعيشها، وأن تفند كل الانتقادات التي توجهها الدول الغربية ومن بينها كندا فيما يتعلق بتحويل المسار الديمقراطي والانتهاكات التي تحدث في البلاد منذ إعلان الرئيس الحالي في تاريخ 25 جويلية 2021 عن الإجراءات الاستثنائية التي تم بموجبها حل البرلمان ومن ثم تغيير الدستور التونسي، وهذا ما شدد عليه المسؤولين الكنديين أنهم سيقومون بطرح هذه النقطة خلال فعاليات القمة، وأكد رئيس الوزراء الكندي ترودوا أنه تحدث مع الرئيس قيس سعيد حول هذه النقطة.

لماذا غابت كل من الجزائر والمغرب عن القمة؟
تغيبت كل من الجزائر والمغرب عن القمة الفرنكوفونية بجربة وتعود أسباب هذا الغياب بالنسبة للجزائر إلى عدة عوامل:
أولا الجزائر ليست عضو في المنظمة وحتى تواجدها في القمم الماضية كان بصفة مراقب أو ملاحظ.
ثانيا بالرغم من العلاقات الجيدة في الآونة الأخيرة بينها وبين باريس، إلا أن الجزائر تسعى وراء نيل الاعتراف من فرنسا بالجرائم المرتكبة خلال الحقبة الاستعمارية في حق الشعب الجزائري.
بعد عودة العلاقات بين باريس والجزائر وزيارة الرئيس الفرنسي ماكرون إلى الجزائر في شهر أغسطس 2022 والإعلان عن شراكة متجددة بين البلدين وتلاها زيارة رسمية بين وفود وزارية عديدة، إلا هنالك أزمة صامتة بين البلدين، فقد أبلغت الجزائر فرنسا في الآونة الأخيرة بتأجيل المباحثات حول صفقة الغاز حتى نهاية سنة 2022، بتذرع الجزائر بأن الطلب الفرنسي على الغاز بحاجة إلى دراسة عميقة خاصة في جوانبه الفنية، إلا أن الحقيقة تتعلق بما يعرف بقضية الذاكرة المرتبكة بالإرث الاستعماري من جرائم، وتصريحات ماكرون السابقة التي تسببت في قطع العلاقات بين البلدين في السابق، وأيضا ما يعرف بمسألة خفض التأشيرات بالنسبة للجزائريين إلى النصف بسبب تنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية،  وهو ما يجعل هذا القرار الجزائري سياسي بامتياز و تقف ورائه ضغوطات كبيرة من الشارع الجزائري الرافض تزويد فرنسا بالغاز الطبيعي.
أما بالنسبة للمغرب فعدم حضورها القمة فهو عائد أساسا لتوتر العلاقات بينها وبين تونس، فبعد مقاطعة المغرب لمؤتمر طوكيو الدولي للتنمية في إفريقيا (تيكاد 8) في تونس خلال شهر أغسطس 2022 على خلفية استقبال رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد لزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي، وهو ما تسبب بقطع العلاقات بين البلدين وبالرغم من إعلان الأمين العام لجامعة الدول العربية احمد أبو الغيط خلال انعقاد أعمال وزراء الخارجية العرب في القاهرة عن تسوية الخلافات بين البلدين عبر اجتماع أقيم على هامش أشغال القمة جمعه مع كل من وزير الخارجية التونسية عثمان الجرندي ونظيره المغربي ناصر بوريطة.
ولم يصدر أي تعليق رسمي من كلا الطرفين حول تصريحات أبو الغيط، إلا ان غياب تونس عن مدينة إيفران المغربية في 20 أكتوبر 2022 على إثر اجتماع مكتب وزراء العدل العرب بالرغم من حضور الجانب الجزائري في هذه القمة، وتواصل الغياب التونسي عن تظاهرة أخرى في المغرب وهي انعقاد قمة مبادرة 5+5 في الرباط بتاريخ 27 أكتوبر، وهو ما أكد على عمق الازمة بين تونس والرباط.
وبالرغم من أن الأزمة صامته بين الطرفين، ولكنها عميقة جدا وفي غاية التوتر، وهو ما يتبلور أكثر في التشدد المغربي مع تونس وليست المسألة فيما يتعلق بعملية استقبال إبراهيم غالي فقط، إنما ضمنيات الخلاف أبعد من ذلك بكثير وهي تندرج ضمن صراع المحاور داخل القارة الإفريقية وبسبب تموقع تونس ضمن المحور الجزائري والرخاء الكبير الذي تشهده العلاقات بين البلدين.
وحتى أن علاقة الرباط مع باريس تعيش أسوء فترتها التاريخية بسبب التقارب الجزائري الفرنسي الأخير وبسبب قضية تخفيض عدد التأشيرات للمغاربة ورفض اسنادها لعديد الشخصيات المغربية (فنانين، جامعيين..)، وهو ما صرحت به السلطات المغربية عن استيائها من جراء هذه الإجراءات وتحرك على إثره المجتمع المدني المغربي الذي نظم حملة توقيعات كبيرة للتخلي عن اللغة الفرنسية في التعليم والمعاملات الإدارية.

آفاق الفرنكوفونية في إفريقيا
لم تجني إفريقيا من الفرنكوفونية أو الفرنسية إلا التخلف والخراب، وهذا ما يمكن ان نلمسه بلغة الأرقام فإفريقيا الفرنسية أكثر تخلفا من البلدان الإفريقية الأخرى التي تعرضت لاستعمار دول أخرى، فمن بين أقل المعدلات نموا في مؤشر التنمية البشرية إفريقيا ودوليا نجد كل من التشاد والنيجر وإفريقيا الوسطى.
كما أن عديد الدول بدأت في التخلي عن اللغة الفرنسية ومن بينها التجربة الرواندية التي بسبب عدم قبول فرنسا الاعتراف بجرائمها خلال الحقبة الاستعمارية متمثلة في ارتكاب مجازر في حق الشعب الروندي سنة 2006 دفع رواندا لقطع العلاقات مع باريس واعتماد اللغة الإنجليزية لغة رسمية عوضا عن الفرنسية، وانطلقت رواندا في رحلتها نحو النهضة من المجاعة والفقر إلى أعلى معدلات نمو في القارة الإفريقية.
أما في منطقة غرب ووسط إفريقيا نلاحظ التراجع الكبير للهيمنة الفرنسية، ففي بوركينافاسو أعرب قائد الانقلاب العسكري إبراهيم تراوري عن استعداده الانفتاح على الشركاء الدوليين باستثناء فرنسا، وفي مالي قامت فرنسا بسحب قواتها منها بعد عملية عسكرية استمرت لمدة 9 سنوات، كما أنها تواجه رفض شعبيا كبير في تشاد بسبب منعها تحديث البلاد وساهمت في ان تكون تشاد ضمن أقل الدول نموا والأكثر فسادا في العالم.
وفي شمال إفريقيا خسرت فرنسا نفوذها الثقافي كثيرا لصالح اللغة العربية والانجليزية، حتى أن الأجيال الجديدة في المنطقة صارت تتكلم بلغة فرنسية مكسرة وأغلبها لا يتقن الكتابة ولا القراءة بالفرنسية، كما أن التوجه الثقافي الحالي لصالح الثقافة الأمريكية أكثر في ظل النظام العالمي المعولم، ويتجلى هذا في مطالبات عدد من المنظمات في هذه المنطقة بالتخلي عن اللغة الفرنسية والتحول إلى اللغة الإنجليزية كلغة ثانية، فاللغة الفرنسية أصبحت حاجز اما شباب شمال إفريقيا في إيجاد فرص تعليمية أو وظيفية في الخارج أو حتى مواكبة البحوث العلمية  والتطورات العلمية والتكنولوجيا التي تصدر كلها باللغة الإنجليزية.
وإن ساهمت هذه المنظمة في مواصلة الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية هيمنتها على مستعمراتها السابقة والتمدد أكثر إلا أنها حاليا تسعى للحفاظ على ما تبقى لها من نفوذ داخل القارة الإفريقية.
في السنوات الأخيرة لم يكن للمنظمة أي دور وازن دوليا أو حتى إقليميا من الرغم من تسويق المسؤولين داخلها عن أهمية المنظمة في حل المشاكل الدولية والصراعات العالمية، وفي ظل المتغيرات الدولية والإقليمية الحالية لن يكون للمنظمة الفرنكوفونية أي مستقبل ولا أهمية وإنما سيتحول إلى مجرد صالون ثقافي فرنكفوني يتجمع فيه الأدباء والشعراء وهو الهدف الذي كان يسعى إليه كل من الرئيس السنغالي ليو بولد سنغور والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة عند تأسيس هذه المنظمة لتجمع أصدقاء أو أحباء الثقافة الفرنسية ولتتحول فيما بعد إلى سلاح امبريالي تواصل به فرنسا الهيمنة على مستعمراتها السابقة.

أفروبوليسي

المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) مؤسسة مستقلة تقدم دراسات وأبحاثاً حول القضايا الأفريقية لدعم صناع القرار بمعرفة دقيقة وموثوقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى