محمد صالح عمر
مدير الأبحاث والدراسات
مقدمة
كانت مدغشقر تعرف تاريخيا بجمهورية ملاقاسي وتطل على الساحل الجنوبي الشرقي لقارة إفريقيا، لم يرتبط تاريخها بإفريقيا إلا في الفترات المتأخرة (في القرن الثامن عشر الميلادي) ذلك أن أغلب الذين عمروها كانوا من الآسيويين، وتعتبر مدغشقر رابع أكير جزيرة في العالم، وهي وطن الفانيليا والتي تعتبر أكبر منتجيها على مستوى العالم، كان يسميها الكثيرون من المؤرخين بموطن القراصنة إذا أنها اصبحت ملاذا لهم في بعض مراحل التاريخ وبها ما يزيد على 11 ألف نوع من النباتات، ويعتبر سكانها من أفقر سكان الكرة الأرضية، حيث يعيش سكانها بأقل من دولار واحد في اليوم.
يعتبر سكان ملقاسي الأوائل هم الفازيمباــ الذين انتقلوا إلى وسط الجزيرة مع وصل مهاجرين جدد قادمين من آسيا (إندونيسيون وماليزيون) أو ممن قدموا من القارة الإفريقية (أفارقة وعرب) وقدمت مجموعات أخرى من المهاجرين في مرحلة لاحقة،(الهنود والصينيون والأوروبيون). ينحدر سكان مدغشقر من عدد كبير من الجماعات الإثنية لكنها توحدها لغة رسمية واحدة وهي اللغة الملقاشية، مع وجود تشكيلة متنوعة من اللهجات تتحدث بها 18 مجموعة إثنية هي مجموع مكونات جزيرة مدغشقر.
الصراعات الممتدة في مدغشقر
صبغ تاريخ مدغشقر منذ ان بدأت تتشكل سياسيا عدم الاستقرار وحالة من الصراعات التي لا نهاية لها، من أجل السيطرة السياسية، فمنذ القرون الوسطى ظل الصراع محتدما بين الممالك العديدة التي نشأت في جزيرة مدغشقر. وفي نهاية القرن السابع عشر أقامت فرنسا حكما استعماريا في الجزيرة.
وبحكم أن أغلبية الملقاسيين ليسوا أفارقة لم يكن لديهم ميل إلى إفريقيا، حيث كانت تتنازعهم انتماءاتهم الى القارة الآسيوية والقارة الإفريقية، وقد جرت محاولات لإبعاد مدغشقر من إفريقيا لكن لم يكتب لها النجاح بسبب العلاقات التي ربطت الجزيرة بإفريقيا بعد الحرب العالمية الثانية ونشأت علاقات قوية بين النخب الناطقة بالفرنسية في غرب إفريقيا ونخب من مدغشقر في فرنسا إضافة إلى تواجد القوات البريطانية التي كان جلها من الأفارقة، وتزامن نضالات المدغشقريين مع نضالات الأفارقة أكثر من تزامنه مع الأسيويين.
في 1946 أنشئ أول حزب سياسي في مدغشقر والذي أصبح المقدمة الضرورية للنضال والمنصة المعبرة عن الثوار، من أجل التحرر والاستقلال، وكان ممهدا لانتقال مدغشقر من الحكم الاستعماري إلى الحكم الذاتي ومن ثم إلى الاستقلال التام.
نالت مدغشقر استقلالها من فرنسا في يونيو 1960 ووقع الطرفات اتفاقية بقيت فرنسا بموجبها في الجزيرة بقاعدة عسكرية فيها 2500 جندي فرنسي. أجريت انتخابات في سبتمبر 1960 فاز فيها الحزب الاشتراكي الديمقراطي بعدد 76 مقاعد من مجموع 107 هي عدد مقاعد الجمعية الوطنية وفاز بالرئاسة فليبيرت تسيرانانا واعيد انتخابه في 1965.
ومنذ مطلع سبعينيات القرن العشرين لم تشهد مدغشقر استقرارا، فقد شهدت البلاد اضطرابات وتمردات واحتجاجات وانقلابات واغتيالات وإعلانات حالة الطوارئ التي أسهمت بشكل كبير في بقاء الجزيرة ضمن افقر بقاع الأرض، بسبب عدم الاستقرار فما تشكلت حكومة إلا وتم حلها في اقل من سنة من عمرها، وما اخمدت احتجاجات في مكان إلا وقامت في مكان آخر ولسبب مشابه او مختلف.
تنافس الأحلاف
ففي العشرية الأولى وهي التي حكم فيها الرئيس فلبيرت تسيرانانا شهدت البلاد استقرارا نسبيا ولكن في بداية 1972 بدأت الاضطرابات تشكل الحية السياسية في مدغشقر حيث اعلتن الأحكام العرفية بعد فترة طويلة من التظاهرات والاحتجاجات وفي 1974 حدث تمرد جديد من قبل مجموعة تنتمي إلى اليسار واعلنت مدغشقر “الجمهورية الديمقراطية” لتنسحب فرنسا على إثرها من مدغشقر وتحل محلها القوى الاشتراكية مثل الصين والاتحاد السوفيتي وكوريا الشمالية وبالتالي انتقال مدغشقر إلى المعسكر الاشتراكي، استمر الحكم الشيوعي الى 1980وبعد عدد من الانقلابات الفاشلة استقر الحكم لصالح اللبراليين ولنه كان أيضا حكما استبداديا الى منتصف التسعينيات ولكن استمرار حالة التمرد والتمرد المضاد أدخل مدغشقر في حالة مزمنة من عدم الاستقرار والفوضى والسيولة السياسية، وفي العقد الأول من القرن الجديد شهدت مدغشقر ما يزيد على 7 محاولات انقلابية نجح منها القليل ولكن تسبب أغلبها في شلل للحياة العامة وتعطيل مصالح الشعب وتدخلت مرات عديدة المؤسسات الإقليمية والدولية مثل الجماعة الاقتصادية للجنوب الإفريقي والاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة نجحت بعض الوساطات وفشل البعض وتم فرض عقوبات عليها من باب ممارسة الضغوط وإيصال المتنافسين إلى حلول وسط وتراوح مشكلات مدغشقر مكانها، وتتمدد معاناة المدغشقريين بلا نهاية.
المحاولة الانقلابية في يوليو 2021
المتتبع للأوضاع في مدغشقر لا تعتريه أية دهشة عند سماع خبر انقلاب في مدغشقر لأنه أصبح هو الثابت والاستقرار هو الاستثناء، فبين الفينة والأخرى ثمة محاولة لانقلاب أو تدبير لزعزعة الأوضاع أو تنظيم تظاهرات واحتجاجات لدرجة ان يتوقع المدغشقريون حدوث أي شيء في كل لحظة، فقد أصبح المواطنون على وقع أخبار الانقلاب على الحكم القائم عبر اغتيال الرئيس وتمت اعتقالات على ذمة المحاولة.
في 22 يوليو 2021 ألقت السلطات القبض على ستة أشخاص من بينهم مواطن فرنسي للاشتباه في التآمر لقتل الرئيس، وفي وقت لاحق اعتقلت 21 شخصا بينهم 12 عسكريا منهم 6 ضباط من الجيش وعدد 4 متقاعدين من الشرطة لصلتهم بمؤامرة لقتل الرئيس راجولينا والإطاحة بالحكومة وقال النائب العام إن هؤلاء الأفراد وضعوا خطة لتصفية وتحييد عدد من الأشخاص ، وأضاف ان التحقيقات ما تزال جارية ويذكر ان الرئيس الحالي أندريه راجولينا استولى على السلطة عبر انقلاب عسكري عام 2009، وبعد جهود ووساطات من عدد من القوى الدولية والإقليمية عادت الحياة ت السياسية الى طبيعتها في 2014.
المتهم الأول في هذه المحاولة هو بول رافا نهارانا وهو مواطن مزدوج الجنسية مدغشقري فرنسي وقبطان درك فرنسي سابق ويعمل مستشارا لمجموعة بنش مارك(Benchmark advantage) وهي شركة سنغافورية تعمل على تطوير حقل للبترول قرب العاصمة انتاناناريفو، وتقول السلطات أنها عثرت في بريد رسائل المتهم الأول على رسالة يطلب فيها مبلغ 10 مليون يورو لتمويل الانقلاب حيث كتب في بعض رسائله أن الرئيس الحالي اندريه راجولينا أدخل مدغشقر إلى دوامة الجحيم ووعد الشركة في حال التعاون معه ان الحكومة التي ستأتي بعد الانقلاب ستزيل كل العقبات البيروقراطية التي واجهت الشركة في الحصول على امتياز العمل.
رد فعل الحكومة
بعد اعتقال العناصر المشتبه فيها في المحاولة الانقلابية أصدر الرئيس راجولينا قرارا بإقالة جميع الوزراء بحجة القصور في أدائهم دون إبداء أي أسباب أخرى حيث صرح مكتبه ان أداء بعض الوزراء كان دون المستوى، ولكن يتضح من سياق الأحداث ان الإقالات لها علاقة بالاضطرابات السياسية والمحاولة الانقلابية وحالة عدم الاستقرار الذي لازم مدغشقر منذ استقلالها.
خاتمة
من دراسة تقلبات الأوضاع في مدغشقر وعدم استقرارها وتأثير ذلك على مجمل الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية نخلص إلى أهم أسباب عدم الاستقرار والتي لو تمت معالجتها لتغيرت الأوضاع كثيرا.
ـــ أحد أهم الأسباب هو تركز السلطات في يد رئيس الجمهورية، فقد أدخل الرئيس الأسبق تسيرانا تعديلات على الدستور كانت سببا في خلق الاضطرابات التي لا نهاية لها:
ـــ الانقسام الكبير بين المدغشقريين والارتباك في التعامل مع المفهوم الملكي الموروث للسلطة والتطلعات الديمقراطية للشعب.
ـــ ضعف السلطة التشريعية وعدم قدرتها على كبح جماح الرئيس إزاء تغول الجهاز الرئاسي
ـــ الصلاحيات الكبيرة للرئيس مثل حل البرلمان وتعيين ثلث أعضاء البرلمان وإلغاء المساءلة على انتهاكات الدستور وان يسمح بجكم الرئيس ثلاث دورات وليس دورتين كما هو معروف في أغلب دساتير الدول الإفريقية.
ـــ تحايل الرئيس على المجلس التشريعي من خلال إصدار المراسيم وإعادة رسم الحدود الانتخابية او عن طريق تعطيل القوانين للنواب الذين ينتقدون الرئيس أو حل المجلس ذاته.
في ظل غياب الحوار حول القضايا الأساسية وتقليص فجوات الخلاف بين أطراف الصراع سيستمر النزيف وهدر قدرات البلاد على الدوام وسيدفع المواطنون ثمن ذلك مزيدا من الصراعات على السلطة التي يعتقد الجميع ان حل مشاكلهم يكمن في الاستيلاء عليها، وبالتالي لن تشهد مدغشقر ارض الغرائب والمتناقضات أي تطور او نهضة. وتظل الساحة السياسية مفتوحة على كل الاحتمالات ولكن ابرز ما سيعانيه المدغشقريون هو استمرار النزاعات وفشل النخبة السياسية من الوصول إلى حلول لمشكلات البلاد بإرساء نظام يتوافق عليه الجميع.