محمد بوبوش، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الأول، بوجدة، المملكة المغربية
الموقف الأمريكي من انقلاب النيجر
يعود تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة والنيجر إلى عام 1960 عندما حصلت النيجر على استقلالها من فرنسا. منذ ذلك الحين، تمتلك الولايات المتحدة علاقات دبلوماسية واقتصادية وثقافية مع النيجر. تركز هذه العلاقات على مجموعة متنوعة من المجالات بما في ذلك التعاون الأمني، والتنمية، والتعليم، والصحة. تقدم الولايات المتحدة دعمًا للنيجر في مجالات مثل مكافحة الإرهاب، وتعزيز الديمقراطية، وتحسين جودة التعليم والرعاية الصحية. تظهر هذه العلاقات أهمية التعاون الدولي في تحقيق التقدم والاستقرار في المنطقة.
كان لافتاً الاهتمام الأمريكي بما يحدث في النيجر، ويرجع ذلك بالأساس إلى الوجود الأمريكي بالدولة الغرب إفريقية، والذي يرجع إلى أكثر من عشرين عاماً. ففي عام 2002، وقبل انتشار الجماعات الجهادية أو العصابات المسلحة بمنطقة الساحل الإفريقي، كانت الولايات المتحدة قد بدأت في تقديم مساعدات عسكرية للنيجر هدفها مكافحة “الإرهاب”.
وتسعى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى انخراط أكبر في إفريقيا ونهج دبلوماسي مكثف بهدف التصدي للتأثيرات المتزايدة، وملء الفراغ الفرنسي الذي أصبح محل تنافس من القوى الخارجية خصوصا الروسية.
أولا: ما قبل الأزمة…النيجر في الإدراك الاستراتيجي والعسكري الأمريكي
نقاط الارتكاز العسكري في النيجر هي محل تساؤل حالياً، حيث أنشأ البنتاغون عام 2014 قاعدة طائرات مسيرة في مدينة أجاديز بشمال النيجر، كما أن واشنطن وعدت بمساعدة الرئيس المنقلب عليه محمد بازوم في محاربة الإرهاب، سواء من حيث التسلح أو التدريب، وربما تكون صفقة الأسلحة التي حصلت عليها النيجر أخيراً من مصر في إطار هذا الاتفاق، وهي الصفقة التي تضمن أسلحة ثقيلة، وأعلنتها وزارة الدفاع في النيجر مفصلة هذه الأسلحة في 30 مركبة (استطلاع) مصفحة من طراز “بي آر دي أم-2″، ونحو عشرين قذيفة هاون ومدفع عيار 122 ملم، وأكثر من ألفي مسدس آلي وبندقية هجومية من طراز “أي كاي 47″، فضلاً عن ذخيرة متنوعة.
إن النهج الأمريكي تمحور تجاه الأمن الإقليمي ومن خلال إرسال الكوماندوز الأمريكيين لتدريب قوات النخبة المحلية لمواجهة تنظيمي القاعدة وداعش، التي انتشرت أيديولوجيتها بسرعة من الشرق الأوسط وجنوب آسيا إلى منطقة الساحل، وهي المنطقة شبه القاحلة الواقعة جنوب الصحراء، على مدى السنوات الست الماضية. لقد أغرقت واشنطن الدولة الإفريقية بالعتاد العسكري من العربات المدرعة إلى طائرات المراقبة، ومنذ 2012 تم إنفاق 500 مليون دولار من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين في النيجر، ما يجعلها أكبر برنامج مساعدات أمريكية لدولة في منطقة الصحراء الكبرى الإفريقية.
على الرغم من أن النيجر أصبحت قاعدة رئيسية للجيوش الغربية وأجهزة مخابراتها بعد التحولات التي شهدتها المنطقة بخروج فرنسا التاريخي من معاقلها في مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، فإن التلويح بالبعبع الروسي ظل حاضرا، فضلا عن هشاشة الأوضاع الأمنية بسبب الانقلابات المتكررة وانتشار الحركات المسلحة، لذلك هرعت دول الجوار والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس”، ابتداء برفض الانقلاب ثم محاولة التوسط لتدارك ما يمكن تداركه في حماية أول تجربة انتقال ديمقراطي للسلطة في النيجر.
ثانيا: الموقف من الأزمة…من التشدد إلى المنظور الواقعي
جاء الموقف الأمريكي من أحداث النيجر مرتكزا على العناصر التالية:
1-الإدانة الرسمية بتحفظ على “لفظ مصطلح الانقلاب”
أدانت أمريكا انقلاب النيجر منذ اللحظة الأولى، وأجرت اتصالات مباشرة مع الرئيس محمد بازوم، وقد رفضت واشنطن حتى الآن تصنيف الأحداث في النيجر على أنها انقلاب، وبدلاً من ذلك صنفتها على أنها محاولة “للاستيلاء على السلطة”، بحسب القانون الأميركي، يجبر هذا التوصيف “الانقلاب” الولايات المتحدة على وقف كل أشكال التعاون الاقتصادي والعسكري، باستثناء ما يتعلّق بمكافحة الجهاديين.
ويؤدي بند في القانون الأميركي يعرف باسم القسم 7008 إلى إنهاء المساعدات إلى البلدان التي أطاح فيها انقلاب عسكري حكومة ديمقراطية، على رغم أن إدارة بايدن لديها سلطة تقديرية في شأن رزمة الإنفاذ .
القانون الأميركي يشترط قطع المساعدات عن البلدان المتلقية عند وقوع انقلاب عسكري فيها، ولكن هناك استثناءات في الحالات التي يعتبر فيها الأمن القومي الأميركي على المحك، كما هو الحال مع مصر وتايلند.
وقالت إن النيجر لا ينبغي أن تحصل على استثناء من تطبيق هذا القانون عليها، لأن الاستثناء من المرجح أن يؤدي إلى تشجيع مدبري الانقلاب المحتملين في أماكن أخرى.
لايزال الغموض والتردد يطبع السلوك الأمريكي في وصف ما جرى في النيجر بأنه انقلاب لأن قرارا من هذا النوع سيجرد الجيش الأمريكي من بعض المهام والتمويل في المنطقة، إنه واقع رمادي-كما يقول الضابط المتقاعد في القوات الأمريكية الخاصة “آلان فان سوان” يفرض نفسه ويمثل مأزقا للسياسة الخارجية الأمريكية.
وأشار بلينكن بوضوح إلى أن مواصلة تقديم المساعدات الأميركية للنيجر تتوقف على تطور الأوضاع ميدانيا واستعادة النظام الديموقراطي، وشدد على أن واشنطن يمكن أن تتخذ قرارا بهذا الشأن في الوقت المناسب من دون تحديد أي جدول زمني لذلك.
لكن أبعد من التوصيف القانوني واللغوي، ينطوي الأمر بالنسبة للولايات المتحدة على الحفاظ على هامش للمناورة في حال فشل الانقلاب، بحسب دبلوماسيين، قامت وكيلة وزير الخارجية الأمريكية بالإنابة، “فيكتوريا نولاند” ، بزيارة خاطفة إلى النيجر وأكدت لها بما لا يدع مجالاً للشك أن ما حدث هو الإطاحة الكاملة بالرئيس محمد بازوم ، الذي لم يتمكن من التواصل معه من منزله وأرسلت مبعوثة إلى نيامي للتفاوض مع قادة الانقلاب، فلماذا لا تدعم التدخل العسكري، عكس فرنسا؟
2-عودة النظام الدستوري للبلاد
ناشد وزير الخارجية الأمريكي بلينكن إلى “الإفراج الفوري” عن رئيس النيجر معربا عن دعم الولايات المتحدة له بقوة بصفته رئيساً للنيجر منتخباً بشكل ديمقراطي”، ومطالباً بـ”إطلاق سراحه فوراً”. وأعلن بلينكن أن استمرار المساعدات التي تُقدمها بلاده للنيجر مرهون بـ”الحفاظ على الديمقراطية” في الدولة الإفريقية.
لازالت الإدارة الامريكية تستخدم سياسة الضوء الأصفر، وهو وضع هدف محدد دون الاهتمام بوسائل التدخل وبالتالي فالموقف الأمريكي يبدو منصباً على هدف رئيسي وهو ضمان استمرار تعاون النيجر فيما تصفه واشنطن بمكافحة “الإرهاب”، حتى يستمر الوجود العسكري الأمريكي في غرب إفريقيا ولا تضطر واشنطن إلى سحب قواتها وترك الساحة شاغرة لتشغلها ميليشيات فاغنر الروسية، خصوصا بعدما دعا المجلس العسكري النيجري قوات فاجنر إلى التدخل في النيجر وفق تقارير غربية بعدما ألغى الاتفاقات العسكرية مع باريس من طرف واحد، بما يهدد النفوذين الفرنسي والأمريكي اللذين يعتمدان على النيجر باعتبارها إحدى المحطات المهمة للوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، خاصة أنها تستضيف قاعدة عسكرية أمريكية للطائرات بدون طيار في أغاديز جنوب البلاد.
أيضا في أكتوبر 2022، اتهمت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس جرينفيلد مجموعة فاجنر الروسية باستغلال الموارد الطبيعية في أفريقيا واستخدامها المكاسب غري المشروعة من الموارد لتمويل آلة الحرب. الروسية في أفريقيا والشرق الأوسط وأوكرانيا وربما يتحقق هذا الهدف بغض النظر عن عودة بازوم إلى السلطة من عدمه.
3-تأكيد واشنطن على الدبلوماسية بخصوص التعامل مع الأزمة
يبدو أن هناك تباينا في المواقف بين واشنطن وباريس ورؤيتهما للأزمة، فإذا كانت فرنسا تطالب بإعادة الرئيس المعزول محمد بازوم إلى منصبه وتدعم الايكواس في فرض عقوبات على المجلس العسكري وخيار التدخل العسكري، فإن اللهجة الأمريكية بدت هادئة تمام مطالبة بعودة النظام الدستوري.
واشنطن تتخذ “خطاً أخف حدة من باريس” بشأن قادة المجلس العسكري في النيجر، ولا سيما في ما يتعلق بمسألة التدخل العسكري المحتمل من جانب دول غرب أفريقيا. فهي تحاول العمل على “التعاون مع المجلس العسكري”، إذ أرسلت الإدارة الأميركية نائبة وزير الخارجية الأميركي بالوكالة، فيكتوريا نولاند، إلى نيامي، في 7 أغسطس 2023، بينما تعد باريس التعامل المباشر مع المجلس العسكري أمراً مرفوضاً ومستحيلا أركان الاستراتيجية الأميركية في القارة تبني على نقطتين: الأولى الحضور وإبراز الردع الموسع ضد الصين وروسيا كمنافس على المدى الطويل، والأخرى الالتزام بحماية جنوب أوروبا من الاختراق الصيني والروسي وحفظ الأمن على شواطئ أوروبا الجنوبية.
وقد عينت واشنطن كاثلين فيتزجيبون، سفيرة فوق العادة ومفوضة للولايات المتحدة لدى جمهورية النيجر. وتم اقتراح اسم الدبلوماسية الأمريكية في مارس 2023 ووافق الكونغرس في بيان نشر على موقعه على تعيينها يوم 27 يوليو 2023، أي بعد يوم واحد من الانقلاب العسكري في النيجر الذي أطاح بالرئيس محمد بازوم ، هذا التعيين حسب وسائل إعلامية فرنسية يجعل العلاقة بين واشنطن وباريس تسوء حول الوضع في النيجر. ففي الوقت الذي تشجع فيه فرنسا تدخلا عسكريا في البلد من طرف المجموعة الإقتصادية لدول غرب إفريقيا “إكواس”، يأتي هذا التعيين الأمريكي للدبلوماسية الجديدة ليؤكد على ليونة الموقف الأمريكي واختياره الدبلوماسية كخيار لحل الأزمة عكس ما تتصوره فرنسا.
ثالثا: النيجر بين الرحيل المر لفرنسا والركوب المجاني للولايات المتحدة
1-مكاسب حققتها واشنطن: على خلاف المستعمر القديم المنبوذ فإن الولايات المتحدة استطاعت مسك العصا من الوسط وتحقيق مكاسب جيوسياسية واقتصادية بفضل موقفها المتوازن، حيث تمكنت من تقليل الكراهية الشعبية تجاهها، وبذلك نقلت المشكلة للجانب الفرنسي الذي يسعى جاهدًا للإطاحة بقادة الانقلاب.
كما حافظت على قناة اتصال نشطة مع قادة الانقلاب، وعينت كاثلين فيتزجيبون سفيرة في نيامي؛ منهية عامين من الغياب الدبلوماسي هناك.
و تراهن واشنطن في تقوية علاقاتها مستقبلا مع النيجر على موسى سالاو بارمو (أحد قادة الانقلاب) الذي تلقى تدريبا في فورت مور وجامعة الدفاع الوطني بالولايات المتحدة.
حافظت على وجودها العسكري لتتمكن من احتواء توسع الجماعات الجهادية المسلحة في منطقة الساحل والصحراء، ولدعم قدراتها الاستخباراتية هناك.
هذا الوجود الدبلوماسي والعسكري يمكنها من منع موسكو من ملء الفراغ، عبر مراقبة نشاط “فاغنر” المتواجدة في دول بجوار النيجر.ملء الفراغ الفرنسي في الساحل والصحراء
2-تكريس الحضور القوي وملء الفراغ الفرنسي: الهدف الاستراتيجي في السلوك الأمريكي، هو تقوية نفوذ واشنطن في منطقة الساحل جنوب الصحراء، والحلول محل فرنسا التي فقدت هيمنتها في مالي وبوركينا فاسو ثم النيجر، وفي الآن ذاته، استثمار الملف الأمني للي ذراع الجزائر، ومنعها من تحويل أراضيها إلى منصة لوجستية لتوسيع النفوذ الروسي في المنطقة.
أضف إلى ذلك أن الاهتمام الأميركي ينصب على المنافسة الاقتصادية والاستراتيجية في القارة، ويتجسد هذا الاهتمام بالتواجد والردع الموسع في إفريقيا لمنع التوسع الصيني في موانئ دول الساحل، ومنع حركة فاغنر العسكرية الروسية من التمدد هناك.
إن تداعيات الانقلاب في النيجر ستمتد إلى خارج الحيز الجغرافي الأفريقي، ففي أحد التداعيات، ووفق محددات الخطاب المعلن ومبررات الانقلاب، فإن قطعة دومينو أخرى سقطت من الطاولة الأوروبية الأميركية. وقد تلحق بالنيجر قطع جديدة من الدومينو في القارة الأفريقية، إذ إن انتقال العدوى بين الدول الأفريقية ممكن ومتاح وممتد ومتدحرج من مالي وبوركينا فاسو والسودان والنيجر.
ويشعر القادة العسكريون الأمريكيون بالقلق من أن الانقلاب سيشجع المسلحين، لا سيما من القاعدة، الذين شنوا آلاف الهجمات في مالي والنيجر وبوركينا فاسو منذ عام 2017، ويضغطون الآن جنوبا في المناطق الشمالية من ساحل العاج وتوغو وبنين. وهناك قلق بين المسؤولين الأمريكيين والغانيين من أن المسلحين يضعون أعينهم على غانا، وهي قوة اقتصادية وسياسية إقليمية تضم عددا كبيرا من المسلمين في شمالها الفقير نسبيا.
لقد أحدثت الأزمة شرخا بين الاتحاد الأوربي وواشنطن وبينت بوضوح أن كل طرف يدافع عن موقفه من زاوية مصالحه الخاصة.
بينما يعني انقلاب النيجر خروجاً مبدئياً لباريس وواشنطن، فإنه في المقابل يعني تقدما لموسكو التي يتمدد حضورها في القارة الأفريقية، من ليبيا شرقاً إلى غربي السودان وأفريقيا الوسطى ومالي والنيجر وبوركينا فاسو، وصولاً إلى غينيا. وبتكلفة أقل مما دفعته واشنطن وأوروبا، فإن سيناريو حدوث توافق وتعاون بين روسيا والصين، وتقاسم الأدوار بينهما في القارة الأفريقية، يبدو ممكناً ومتوقعاً.
قد تبدو التداعيات الدولية في انقلاب النيجر ناضجة لجهة النتيجة واحد في مقابل صفر، فهل تقبل واشنطن والاتحاد الأوروبي تلك النتيجة، أم أن استدارة ما والتفافاً قد يحدثان يضمنان لهما بقاء النيجر تحت الوصاية الغربية والأميركية، ولا سيما في بلد يمتلك 69 منجماً للذهب، ويمتلك احتياطياً من النفط يبلغ قدره 320 مليون برميل لا تنتج منه أكثر من 20 ألف برميل يومياً.
إذا لم تعد أميركا وفرنسا تقييم نهجيهما ومشاركتيهما في إفريقيا، فإنهما تخاطران بصورة متزايدة بالتخلي عن النفوذ في القارة لصالح الصين وروسيا، ويشمل هذا فقدان الحصول على المعادن الاستراتيجية، ومن بينها أكثر من 7 بالمائة من يورانيوم العالم الذي تملكه النيجر، إلى جانب خسائر جغرافية وأمنية وتجارية.
بشكل عام، يمكن القول إن تحركات واشنطن تحمل وزنًا كبيرًا، وعلى عكس فرنسا المنبوذة، لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بسمعة طيبة وحسن نية في جميع أنحاء منطقة الساحل.
تحليلات المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات