النفوذ الفرنسي في إفريقيا: إرث الاستعمار في مواجهة التنافس الدولي
محمد سالم
باحث مختص في الشأن الإفريقي
برحيل الرئيس التشادي السابق الماريشال إدريس ديبي إتنو، تفقد فرنسا ركيزة أساسية من ركائز قوتها ونفوذها ليس في منطقة الساحل فحسب بل في إفريقيا، لكن هذا الرحيل المفاجئ والمؤلم، لا يعني أن فرنسا فقدت كل أوراقها ورجالها ونفوذها في المنطقة، فلا يزال نفوذها راسخا ومنغرسا في أعماق القارة الإفريقية، وإن بدا خلال العقود الأخيرة مؤلما أكثر من طاقة الاحتمال.
ويتأسس هذا النفوذ على تاريخ استعماري طويل ومباشر، ضربت فيه فرنسا ظلالها على الزمن الإفريقي ماضيا ومستقبلا، ودخلت في صميم الأنسجة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فبيدها في الغالب مفاتيح الحل والعقد في قصور الرؤساء، وبيدها مراكز النفوذ الثقافي، وعلى عينها صنعت أغلب النخب الفرنكفونية المؤثرة في غرب وشمال إفريقيا، ومن شرايين الاقتصاديات الإفريقية، تقتات فرنسا منذ أكثر من قرن.
غير أن هذا النفوذ الممتد عموديا في آفاق الزمان، وأفقيا في أعماق الحياة الإفريقية، يواجه صعوبات متعددة، وانحسارا في جوانب من فعالياته، ودخول منافسين وشركاء مشاكسين، يسعى كل منهم إلى أن يأخذ بنصيب قوة من القارة السمراء التي طالما نظر إليها العالم، باعتبارها طبق خيرات قابل للنهب في كل حين.
ولمساءلة النفوذ الفرنسي في غرب إفريقيا، وتحديد مرتكزاته، وتحيين واقعه، واستشراف مستقبله، تقدم هذه الورقة قراءة تفصيلية عبر المحاور التالية.
فرنسا وإفريقيا …علاقة تحت سقف الاستعمار
بدأ النفوذ الفرنسي في إفريقيا مع ما يعرف بالحقبة الاستعمارية الفرنسية الثانية وخصوصا منذ العام م1524، والتي جاءت عقب إخفاق فرنسا في امتلاك مستعمرات في أمريكا اللاتينية والشرق الآسيوي.
فقد كان للهزائم التي مني بها الامبراطور الفرنسي نابليون بونابرت في نهاية القرن السابع عشر، دور أساسي في توجيه البوصلة الفرنسية نحو إفريقيا.
وهكذا توجه الجيوش الفرنسية، التي قاد طليعتها الاستكشافيون إلى القارة، قبل أن تعود الكتائب الغازية، حاملة معها سطوة العنف والتفوق العسكري، الذي تصاحبه وتقوده كتائب أخرى من المنصرين والرهبان الذين غرسوا للمسيحية وجودا غير مسبوق في منطقة، كانت موزعة غالبا بين الوثنية والإسلام.
ومع منتصف القرن التاسع عشر كانت فرنسا قد أقامت قواعدها في مختلف الدول الإفريقي، وخصوصا في غرب ووسط القارة السمراء، بينما كان التبادل التجاري وتجارة العبيد والصمغ العربي والعاج ومختلف المواد الأولية قد بدأت قبل ذلك بقرنين على الأقل.
ولم تبدأ العشرية الأولى من القرن العشرين، حتى كانت فرنسا قد أصبحت الحاكم الفعلي والمسيطر في أغلب القارة الإفريقية، وذلك في خارطة استعمارية تضم في شمال إفريقيا.
المغرب – تونس – الجزائر – موريتانيا.
وفي جنوبها دول بنين – السنغال – غينيا كوناكري –- بوركينافاسو – ساحل العاج – مالي – النيجر – التوغو – الكاميرون – جزيرة ألبيريدا في غامبيا.
وفي منطقة جنوب الصحراء الكبرى، وضعت فرنسا اليد سريعا على دول إفريقيا الاستوائية، والتشاد، والكونغو، والغابون.
لقد تمكنت فرنسا من السيطرة بقوة على أكثر من 35% من مساحة القارة، واستمر حكمها لها أكثر من ثلاثة قرون، في حوالي عشرين دولة إفريقية.
وإذا كان الاستعمار الفرنسي ثقافي الهوية، حريصا على تحوير الهويات الخاصة للشعوب، وصبغها بألوان المسيحية والفرنكفونية، فقد كان أيضا استعمارا دمويا وحشيا، خلد لفرنسا في ذاكرتها التاريخية فواصل سوداء في تجارة الرقيق، والمجازر البشرية التي راح ضحيتها عشرات الآلاف، زيادة على نهب الثروات، وتدمير المدن، وحرق المكتبات والمساجد.
ومع النصف الأخير من القرن الماضي بدأت رياح التحرر تعصف بالوجود الفرنسي في القارة، لتنحني باريس قليلا للعاصفة، وتمنح استقلالات شكلية لأغلب الدول التي كانت تحتلها، حيث يمكن اعتبار الفترة ما بين 1958-1962 سنوات الاستقلال الإفريقي.
وقد توزعت القارة بعد ذلك بين أنظمة فرنسية الصنعة والهوى، وأخرى ثورية أو وطنية، سرعان ما تخلصت منها فرنسا، وأقامت وكلاءها المحليين للحفاظ على مصالحها الخالدة.
حجم النفوذ ومرتكزات الاستعمار الخفي
رغم كل المخاطر وروح النقمة التي تثور في المجتمعات الإفريقية ضد فرنسا، إلا أن نفوذ باريس لا يزال قويا ومستمرا، ومتحكما، وقابلا للاستمرار والتركيز في أكثر من بلد ومجال، وتصاغ التوجهات الفرنسية تجاه إفريقيا عبر ما يعرف بمجموعة فرانس آفريك وهي المجموعة السياسية التي تصوغ وتنفذ مختلف الاستيراتيجيات الإفريقية تجاه القارة
ويمكن قياس حجم هذا النفوذ، بمستوى العلاقات الدبلوماسية بين دول القارة وفرنسا، وحجم وجودها الأمني، وتوزع قواعدها العسكرية في أطراف القارة، زيادة على الدور الاقتصادي والأمني المتداخل في عمل شركاتها، وخصوصا الشركات الطاقوية، كما أن حجم السيطرة الثقافية لفرنسا من خلال صياغة الهويات الثقافية، وأنظمة التعليم، والتكوين المستمر للنخب الإفريقية في الجامعات الفرنسية، والهجرة المتواصلة للأفارقة تجاه فرنسا ودول الاتحاد الأوربي، كل ذلك يرسم ملامح متعددة للنفوذ والعلاقات، ومؤشرات البقاء، وجوالب الاستمرار.
فرنسا وإفريقيا …ذاكرة الانقلابات
لم تسمح فرنسا – ولن تسمح قريبا – لمستعمراتها السابقة بالخروج من عباءة الزمن الباريسي، وفي سبيل ذلك، دأبت فرنسا على القتل السريع لأي طموح للانشقاق أو اكتساب استقلال ثابت، أو التعامل الندي مع الأفارقة.
وقد شهدت القارة الإفريقية منذ العام 1950 حوالي 200 محاولة انقلابية، كان نصفها على الأقل ناجحا، ومكن منفذيه من التحكم في مفاصل السلطة
وقد كبلت فرنسا سنة 1960 الدول الإفريقية عند منحها الاستقلالات الصورية بمعاهدات خاصة، فرضت تحكم باريس في الأمن والاقتصاد، وأحاطت الدول المستقلة حديثا بجدار مالي اسمه الفرنك الإفريقي الذي لا يزال مسيطرا وبقوة على حوالي 13 دولة إفريقية، تتبع بشكل عملي للخزانة الفرنسية، وتربط سياستها النقدية باليورو، بعد أن ظلت لعقود طويلة مرتبطة بالفرنك الإفريقي.
وقد كانت فرنسا بالمرصاد دائما لكل من يحاول الخروج عن سيطرتها، حيث تعامل الفرنسيون بعنف شديد مع الرئيس الغيني الثائر أحمد شيخو توري، الذي اختار لوحده من بين الزعماء الأفارقة، الخروج من الكونفدرالية الفرنسية أثناء الاستفتاء الديكولي سنة 1958.
وكان عقاب فرنسا لتوري عنيفا وهجميا، حيث ثلاثة آلاف فرنسي أرض غينيا، بعد أن حطموا كل ما أقامته فرنسا هنالك من مبان ومؤسسات عامة ومدارس وطرق، بل وقتل للمواشي وتجريف للأرض ، قبل أن تبدأ حربا سياسية واستخباراتية متواصلة ضد توري، استمرت حتى وفاته سنة 1984.
وإذا كانت فرنسا قد عجزت عن الإطاحة بتوري، رغم حربها السياسية والاستخباراتية التي وجهت ضده، فإنها نجحت في أماكن متعددة في تنفيذ انقلابات متعددة، أسقطت بها أنظمة مارقة، ورفعت وكلاءها وحمت مصالحها.
لقد تخلصت فرنسا خلال ستينيات القرن المنصرم، من عدد من الرموز الثورية في إفريقيا، ففي 1963 أطاح النقيب السابق في الفيلق الفرنسي الأجنبي إيتيان جياسنبي بالرئيس التوغولي سيلفانوس أوليمبيو، فيما تولى العقيد السابق موسى اتراوري، الإطاحة بالرئيس المالي موديبكيتا، بعد أن حاول هذا الأخير الخروج من منظمة الفرنك الإفريقي، وإقامة عملة وطنية مالية.
ومن بين الانقلابات العسكرية التي نفذتها فرنسا في إفريقيا الوسطى سنة 1966، انقلاب العقيد جان بيدل بوكاسا الذي تحول بعد ذلك إلى إمبراطور غريب الأطوار، نسجت حول ثروته ووحشيته عشرات القصص المروعة والمثيرة.
وفي بوركينافاسو تولى النقيب السابق في الكتيبة الفرنسية الأجنبية سانجو لاميزانا الإطاحة بالرئيس المنتخب مويس باماجو، وفي بنين أطاح ماثيو كيركو وهو ضابط أيضا في نفس الكتيبة الفرنسية بالرئيس هوبرت ماجا، وتعتبر التشاد ومالي والنيجر، على سبيل المثال ميادين اختبار دائمة للانقلابات العسكرية الفرنسية.
وفي موريتانيا لم تكن فرنسا بعيدة عن الانقلابات العسكرية عن انقلابات 1978-1984-2005-2008، بل كانت الراعي الرسمي لأغلبها، إما لإنهاء وضع لا يخدم مصالحها كما حصل في انقلابي 1978-2005 أو لإيصال رجالها إلى السلطة، كما حصل في انقلابي 1984-2008.
وتبقى الانقلابات العسكرية جزء أساسيا من الأسلوب الفرنسي في التغيير في إفريقيا، والأقل تكلفة في الغالب، رغم العراقيل التي يضعها الاتحاد الإفريقي بين الحين والآخر في وجه الانقلابيين، والتي تنتهي بإقامة انتخابات رئاسية تمكن الانقلابي من حيازة شرعية مدنية.
وإلى جانب الانقلابات العسكرية، فقد تحولت فرنسا منذ عقد على الأقل إلى نظام العمليات العسكرية الموسعة، وقد نفذت فرنسا سبع عمليات عسكرية خلال العشرية المنصرمة، من أبرزها عملية برخان المستمرة منذ 2014 إلى اليوم في منطقة الساحل، إضافة إلى عملية سيرفال وإيبرفييه في التشاد ومالي، وعملية سانغاريس في إفريقيا الوسطى إضافة إلى عمليات أخرى في ليبيا وساحل العاج والتشاد. وينتظم في هذه العمليات آلاف الجنود الفرنسيين، والمعسكرات الثابتة التي تملك حق التحرك واستغلال المجالات الإفريقية دون رقيب.
وقد مكنت هذه العمليات فرنسا من إقامة جيوش مستقرة وعابرة للحدود في مختلف مناطق القارة، لتعزز حضورها العسكري القديم الذي يستند على قواعد ثابتة في دول إفريقية متعددة من بينها جيبوتي والغابون، وساحل العاج، وجزر المارتنيك.
وما من شك أن النفوذ السياسي لفرنسا في إفريقيا لا يتأسس فقط على الانقلابات العسكرية، بقدر ما تتداخل فيه أبعاد متعددة من أبرزها:
– حاجة الأنظمة السياسية الضعيفة أو الديكتاتورية إلى إسناد خارجي.
– ضمان مستويات من التوازن بين القوى المتصارعة سياسيا واجتماعيا.
– منع الانهيار الشامل للدولة، وخصوصا في مناطق التوتر العرقي، أو المناطق التي تنشط فيها الجماعات الإسلامية المسلحة، كما هو الحال في منطقة الساحل، أو في وسط إفريقيا .
الشركات العملاقة …استعمار اقتصادي للقارة
يمثل الاقتصاد أبرز أهداف النفوذ الفرنسي في إفريقيا، وبدون ما تدره القارة من مصادر الطاقة ومتعدد الثروات، فإن إفريقيا لن تكون ذات قيمة مهمة بالنسبة لباريس.
وقد استنزفت فرنسا ثروات القارة عبر عدة مراحل أبرزها:
– الاستنزاف المباشر: خلال الحقبة الاستعمارية، حيث كانت مختلف الثروات الإفريقية تنقل وبدون رادع أو احتياط إلى باريس لتأخذ دورها في الاقتصاد الفرنسي، وهكذا كانت موارد الطاقة في النيجر، والمعادن والسمك في موريتانيا على سبيل المثال مجال نهب مستمر طيلة فترة الاستعمار، فيما كان الأفارقة في مختلف المستعمرات الفرنسية يدفعون ضريبة “الرؤوس” أو ضريبة الحياة، وهو إتاوة كانت فرنسا تفرضها على كل إنسان إفريقي، إضافة إلى ضرائب أخرى على مختلف الأموال والأنشطة.
– التكبيل بالاتفاقيات الاقتصادية: المجحفة التي كانت جزء من الشروط غير المعلنة لمنح الاستقلال الشكلي، وتضمن تلك الاتفاقيات ربط اقتصاديات المستعمرات السابقة باقتصاد فرنسا عبر منظمة الفرنك الإفريقي: التي تمثل الذراع الاقتصادية الأساسية لفرنسا في المنطقة، من خلال العملة الموحدة CFA، والتي تأسست سنة 1948، لتسهل حركة التجارة والتحكم الاقتصادي في المنطقة، وتتوزع منظمة الفرنك الإفريقي حاليا إلى مركزيتين نقديتين، هما الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا والجماعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا .
وبالجملة فإن 14 دولة إفريقية تنضوي تحت لواء المنظمة الاقتصادية للفرنك الإفريقي، تخضع لتحكم فرنسي صارم، لا يكتفي فقط بالمشاركة في مجالس إدارة بنوكها المركزية، بل يمنح فرنسا حق النقض في القرار الاقتصادي لتلك الدول، إلى حد إمكانية اتخاذ قرار بتخفيض قيمة العملة كما حصل سنة 1994، زيادة على إلزامها بإيداع حوالي 50% من احتياطياتها من العملات الأجنبية في البنك المركزي الفرنسي، وبسعر فائدة أقل من المتداول في السوق، وهو ما يعني أن هذه الدول الإفريقية، تدفع لفرنسا إتاوة، مقابل احتفاظها باحتياطهم النقدي في بنوكها، ولا يمكن لهذه الدول تجاوز سقف 15% من الأصول الاحتياطية سنويا، وهو ما يمنح فرنسا هوامش ربح هائلة تصل إلى 500 مليار دولار سنويا من خلال الاحتياطات الإفريقية، وذلك وفق ما تؤكده تقارير اقتصادية متعددة.
وإذا كان ربط العملة المشتركة باليورو الأوربي، وارتباط البنوك المركزية المذكورة، بالمركزي الفرنسي، قد جنبها هزات متعددة، رغم ضعف اقتصادياتها واستقرارها السياسي، فإنه لا يزال أحد أهم وأقوى أسلحة التحكم الفرنسي في القارة.
– الشركات العملاقة: تمثل الشركات الفرنسية العملاقة ثاني أبرز سلاح لباريس في المنطقة، وتستفيد هذه الشركات من اتفاقيات تفضيلية، تمنحها حق التحكم في الثروات الإفريقية غير المتجددة، وتحويلها بشكل حصري إلى السوق الفرنسية، ويمكن اعتبار شركتي توتال وإريفا أبرز الأذرعة الناهبة للثروات الإفريقية، حيث تسيطر توتال على أبرز مصادر النفط في القارة، فيما تسيطر آريفا على أهم مناجم اليورانيوم في إفريقيا، متقاسمتان بذلك الثورات الهائلة التي تعتبر أبرز مغذ للاقتصاد والتنافسية الفرنسية في أسواق العالم.
ولأهمية هذه الشركات ودورها المحوري في اقتصاد فرنسا، فإنها تحولت مع الزمن إلى دول داخل الدول الإفريقية، تتحكم في تفاصيل القرار السياسي والأمني زيادة على التحكم الاقتصادي، بل يمكن القول إن عددا كبيرا من الانقلابات الإفريقية، كانت بسبب سعي رؤساء أو حكومات إلى الخروج من عباءة توتال، كما أن حماية مناجم اليورانيوم في النيجر على سبيل المثال، كان أول الأهداف الفرنسية في نشر قواتها في منطقة الساحل، وللارتباط التام بين السياسة والاقتصاد في تعامل فرنسا مع إفريقيا، يشرح وزير الطاقة الفرنسي السابق بيير فوما رؤية فرنسا للاستقرار في إفريقيا” “تستغرق الدورة بين اكتشاف النفط في منطقة ما وبداية إنتاجه نحو ثماني سنوات، والسماح بحدوث تغيرات في السلطة كل عام يضر بمصالح الطاقة الخاصة بنا، لذا فإننا نبحث دوما عن الاستقرار”.
ولتحقيق هذا الاستقرار لا تتوانى باريس في دعم وتوطيد أركان أنظمة ديكتاتورية في القارة، والوقوف الصارم في وجه الديمقراطيات الناشئة، ولا في تحويل الشركات العملاقة إلى أذرعة أمنية تسير جيوشا من الجواسيس والعملاء وتحرسها كتائب من الجيش الفرنسي، في اعتداء صريح على السيادة والاقتصاد والثروة الإفريقية الفرنكفونية أو الاستعمار الثقافي.
يعرف عن الاستعمار الفرنسي أنه احتلال ثقافي، لا يكتفي فقط بامتصاص خيرات الثروة، أو إشعال فتائل الأزمات الاجتماعية، بقدر ما يحرص بشكل كبير على توجيه أجيال المستقبل والتحكم في الهوية الثقافية للشعوب المستعمرة، وخصوصا في إفريقيا.
ولقد كان من أهم أهداف الاستعمار الفرنسي” تحديث الشعوب البدائية”، في إفريقيا، وكانت اللغة والثقافة الفرنسية هي الإطار الأساسي لصناعة هذا التحديث، وذلك عبر مراحل متعددة أبرزها:
– صناعة نخب الاستقلال: الذين درست غالبيتهم العظمى في المدارس الفرنسية، وتشربوا اللغة والثقافة الفرنسية، وانخرطوا بقوة في الإيديلوجيا الفرنسية، ورغم ما واجهه التعليم الفرنسي من رفض شعبي عارم، وخصوصا في المناطق الإسلامية من القارة الإفريقية، فإنه استطاع وبقوة السيطرة على الأجيال الأولى، وتحولت اللغة الفرنسية من لغة غريبة مرفوضة، إلى لغة وحيدة غالبا للإدارة والتعليم، وهكذا أصبح لقب إفريقيا الناطقة بالفرنسية علما على جزء أساسي وكبير من القارة.
– إيديلودجيا الفرنكفونية: تحولت الفرنكفونية من لغة إلى إيدلوجية قوية التأثير، حيث تعتبر بالنسبة لفرنسا مع اللائكية إطارا أساسيا للتعاطي مع الهوية الثقافية لإفريقيا، وخصوصا في مناطق الأغلبيات المسلمة، حيث تقدمها فرنسا على أنها إطار شامل للتعاون ” وفّر الفرنكوفونية التي تمثّل حيّزًا للتعاون في المجال الثقافي والسياسي والاقتصادي، دعمًا قيّما للحفاظ على اللغة الفرنسية كلغة دولية. وتتبوّأ فرنسا المرتبة الأولى في قائمة المساهمين في المنظمة الدولية للفرنكوفونية والجهات التنفيذية للفرنكوفونية، فهذا دليل على طبع الأولوية الذي يتميز به محور العمل هذا”.
وإذا كان بعض الكتاب الأفارقة قد اعتبر الفرنسية غنيمة حرب وفق تعبير الروائي الجزائري كاتب ياسين، فإنها كانت بالنسبة فرنسا أقوى سلاح حقق لها أهم مما حققته الجيوش في أصعدة متعددة من أبرزها:
– التحكم في الهوية الثقافية، وتحويل الفرنسية إلى أداة وحيدة للثقافة والتعليم والإعلام.
– ربط النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية الإفريقية بفرنسا بشكل كامل.
– الربط التعسفي بين الفرنكفونية واللائكية، وتحويلها إلى سلاح قوي لمحاربة الهويات الثقافية، وخصوصيات الشعوب الإفريقية.
ورغم ذلك فإن الفرنكفونية تواجه أزمات متعددة في القارة أبرزها:
– انهيار المخرج التعليمي في إفريقيا الفرنكفونية، التي تعتبر من أسوء بلدان العالم في مجال التعليم
– الاستلاب وغياب الهوية الوطنية عند غالبية النخب الفرنكفونية.
– تنامي ظاهرة الاستعراب، ومنافسة الثقافة الأنكلوساكسونية، في إفريقيا.
ومع ذلك تبقى الفرنكفونية جزء أساسيا من الهوية الإفريقية، ولا يتوقع في المدى المتوسط أن تتراجع إلى الصف الثاني والثالث في سلم محددات الهوية ومسارات التعليم في إفريقيا، وهو ما سيضمن لفرنسا مواطئ أقدام متعددة في القارة، وخصوصا فيما البلدان ذات القوميات المتعددة، حيث تقدم الفرنسية باعتبارها الضامن لحقوق ومصالح الأقليات.
بين التحالف والتنافس …إفريقيا وصراع النفوذ الدولي
دخلت إفريقيا بعمق إلى الأجندات العالمية، وأصبحت مع الزمن ساحة تنافس وصراع متفاقم بين أطراف دولية متعددة، تحاول كل منهما اقتطاع جزء من الدائرة التقليدية للنفوذ الفرنسي، وتبدو الصين والولايات المتحدة وتركيا وروسيا أبرز المنافسين للنفوذ الفرنسي في القارة.
الصين القوة الناعمة في مواجهة النفوذ الفرنسي
تعتبر الصين منافسا اقتصاديا وسياسيا رئيسا لفرنسا في إفريقيا، ومع إنشاء التحالف الصيني الإفريقي وتنظيم عدة قمم إفريقية صينية، في ظل استيراتجيية صينية تجاه القارة، تتشابك فيها الأبعاد الدبلوماسية والاقتصادية، حيث تعتبر الصين الآن شريكا اقتصاديا مهما لإفريقيا.
وإذا كان حجم التبادل الاقتصادي بين إفريقيا والصين، قد هبط خلال النصف الأول من العام 2020 بسبب جائحة كورونا، حيث وصل إلى 82.4 مليار دولار في النصف الأول من العام، بانخفاض19.1% ، نازلا بذلك من حجم تبادل وصل إلى 204 مليار دولار خلال العام 2019، فإن الصين قد مهدت للعودة الفعالة إلى السوق الإفريقية بجملة كبيرة من الاستثمارات منها على سبيل المثال”استثمار1.72مليار دولار في مختلف القطاعات في أفريقيا في الفترة من “يناير – يونيو”، بزيادة 1.7% على أساس سنوي، حيث شملت الاستثمارات الصينية الجديدة 46 دولة أفريقية، وازدادت الاستثمارات الصينية بأكثر من 10% في 24 دولة منها، وأصبحت زامبيا ونيجيريا وأنجولا وأوغندا وغيرها من المقاصد الرئيسية للاستثمارات الصينية كما وقعت الشركات الصينية خلال الفترة المذكورة عقود مقاولة مشاريع جديدة تبلغ قيمتها 29.1 مليار دولار في أفريقيا، بزيادة 33.1% على أساس سنوي.”
ولا شك أن البعد الاقتصادي يعتبر أبرز ميدان للتنافس بين فرنسا والغرب بشكل عام، والصين في إفريقيا، وتعمل في إفريقيا أكثر من 2500 شركة صينية، أغلبها من القطاع الخاص، فيما تتوقع دراسات غربية أن يصل حجم الأرباح الصينية من إفريقيا حوالي 440 مليار دولار بنهاية 2025، وتمثل القطاعات النفطية والغازية، والزراعة والسمك أهم واردات إفريقيا تجاه الصين، فيما تتدفق الواردات الصينية بشكل كبير، تجاه أسواق القارة الإفريقية، ومنها إلى السوق الأوربية أيضا .
ومع بروز “القوة الصينية الناعمة” عبر ما يعرف بطريق الحرير، فإن الصين أيضا لا تغفل الجانب العسكري، فقد أصبحت شريكا أساسيا في مجال التسليح لعدد من دول إفريقيا، كما أن الشركات العسكرية الصينية، تتجه منذ فترة إلى الاستثمار الاقتصادي في الصين، وزيادة على ذلك أقامت بكين قاعدة عسكرية صغيرة في جيبوتي، التي تعتبر من أهم معابر التجارة العالمية، وإحدى مراكز النفوذ الأمريكي في الشرق الإفريقي عموما.
الدب الروسي …وآفاق الصحراء الإفريقية
مثلت العقد المنصرم عشرية التمدد الروسي في أنحاء مختلفة من العالم، وخصوصا في إفريقيا التي تدخلها روسيا من بوابات متعددة، أبرزها بوابتا الأمن والتجارة.
وتمثل قمة روسيا وإفريقيا المنعقدة في 23-24 أكتوبر 2019 سعيا روسيا إلى مأسسة تكاملية للعلاقة مع القارة، وذلك بعد سنوات من اختبار العلاقات الثنائية مع عدد من الأنظمة الإفريقية.
ولا تخفي فرنسا حساسيتها من التمدد الفرنسي لروسيا تجاه إفريقيا، وترى فيه تأجيجا للمشاعر العدائية تجاه باريس وفق تعبير الرئيس الفرنسي ماكرون.
ولا يزال الملف العسكري بشكل خاص مسيطرا على النفوذ الروسي في إفريقيا، رغم محاولات موسكو المتعددة، الاستفادة من الإرث السوفيتي الذي كان ذا حضور قوي في عدد من الدول الإفريقية ذات التوجه الاشتراكي.
وقد سعت روسيا إلى إقامة قواعد عسكرية في دول إفريقية متعددة، من بينها مصر والسودان وإريتريا وموزمبيق ومدغشقر وأفريقيا الوسطى إضافة إلى سعي لحضور نوعي وفعال في منطقة الساحل .
ويبرز التنافس السياسي بين فرنسا وروسيا بقوة في مناطق التوتر في القارة، حيث تتهم موسكو بأنها ذات ضلع في الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المالي أبو بكر إبراهيما كيتا نهاية 2020، كما تدعم بشكل واضح لرئيس إفريقيا الوسطى فوستان توديرا في مواجهة معارضته التي تدعمها فرنسا.
وفي المجال العسكري تعمل قوة فانجر الروسية في مناطق متعددة من القارة الإفريقية، وأصبحت حليفا لعدد من الجيوش الإفريقية في مهام التدريب والتسليح، حيث وقعت فانجر أكثر من 30 اتفاقية عسكرية مع جيوش إفريقية متعددة.
كما يشكل الدور الروسي محورا أساسيا مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، وخصوصا لإحداث توازن في علاقة أنظمة المنطقة بفرنسا التي تعتبر نفسها الفاعل الأساسي في المنطقة، وتمثل دعوة الرئيس البوريكينابي لروسيا من أجل الانضمام إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب سعيا حثيثا لتنويع شركاء الساحل.
كما أن روسيا تستحوذ على39% من سوق التسليح في إفريقيا، وهو ما يفاقم المخاوف الفرنسية من التمدد الروسي.
ولا يظهر في الأفق قريب تكامل مستمر للعلاقة بين روسيا وفرنسا في إفريقيا، حتى وإن التقت المصالح الظرفية في ليبيا على سبيل المثال، ففرنسا ترى في حضور مجموعة فانجر الروسية، سببا أساسيا في التوتر وتشجيع النزاعات في إفريقيا.
واشنطن وباريس …تكامل تحت سقف التنافس
يأخذ التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا على القارة الإفريقية أبعادا مختلفة، من أبرزها:
– البعد الاقتصادي: حيث تعمل الولايات المتحدة بشكل دائب للاستفادة من السوق الإفريقية، والمعابر الإفريقية نحو العالم، وإذا كانت العلاقة السياسية والتجارية بين الولايات المتحدة وإفريقيا قد تعثرت خلال حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، وإلغائه لعدد كبير من البرامج التعاونية والاقتصادية الموجهة إلى إفريقيا، فمن المتوقع أن تشهد العلاقة في عهد خلفه بايدن، والتي يمكن أن تكون تحديثا وتطويرا لسياسة الرئيس الأسبق باراك أوباما تجاه القارة السمراء.
وتتجه واشنطن إلى إفريقيا في المجال الاقتصادي والاجتماعي، عبر عدة برامج من بينها برنامج التمويل الصحي، الذي توقف نشاطه خلال حكم ترامب، ومن أهمها أيضا قانون النمو والفرص في إفريقيا والذي يعد اتفاقية عمل مستمرة حتى العام 2025، وبسعي بادين إلى تعزيز وتطوير هذا القانون الإطاري للتعاو، ستنتقل واشنطن من التعامل الأحادي مع القارة، إلى تعاون تكاملي من شأنه أن يغذي وينعش مناطق التجارة الحرة في إفريقيا.
ولا شك أن التوجهات الاقتصادية والتجارية لواشنطن في أمريكا تمثل تحديا قويا للحضور الفرنسي، في القارة، الذي لم يراع أبسط مقتضيات الشراكة في هذا المجال، كما أنه سيوفر لإفريقيا بديلا اقتصاديا، قد يمكنه من وضعية اقتصادية أكثر تنافسية، خصوصا فيما يتعلق باستثمار ثرواتها الطبيعية، أو توجيه سياساتها الاقتصادية بشكل عام.
البعد العسكري والأمني: يمكن القول إن مستويات التكامل بين الولايات المتحدة والأمريكية تجاه الحرب على الإرهاب في إفريقيا، لا تلغي مستويات أخرى من التنافس، أبرزها:
– استقلالية الرؤية الأمريكية: تجاه القارة، وسعيها الحثيث إلى أن تكون الفاعل الأساسي فيها عسكريا وأمنيا وليس مجرد شريك لفرنسا، وتعتبر قاعدة آفريكوم الأمريكية الذراع العسكري المباشر للتدخل في القارة، وربطها عمليا بالولايات المتحدة الأمريكية، ومع الزمن تتحول آفريكوم إلى بديل تنافسي أكثر قدرة وفعالية مقارنة مع الأسلوب الفرنسي القديم مع التعاطي مع جيوش القارة.
وتسعى آفريكوم للعمل في إطار متعدد الأوجه يشمل:
– تعزيز القدرات المحلية لمواجهة الإرهاب.
– التعاون المؤسسي بين مختلف القوى الأمنية في المنطقة.
– تعزيز المسارات الديمقراطية في المنطقة.
– تقويض دعائم الفكر المتطرف.
وتوفر آفريكوم للدول وجيوشها المحلية، حزمة من البدائل النوعية على مستوى التسليح والتدريب، والمناورات المستمرة، إضافة إلى التمركز العسكري على أرض الواقع.
وقد تمكنت الولايات المتحدة بفعالية من تعزيز موقعها في شمال وغرب إفريقيا، واستطاعت أن تكون الحليف الأول عسكريا وأمنيا لدول المغرب العربي، مزيحة بذلك فرنسا عن الرتبة الأولى في منطقة كانت تعتبرها محضنا أساسيا لنفوذها السياسي والعسكري والثقافي، وهكذا وجدت دول مثل المغرب وتونس وموريتانيا، بديلا أكثر تنافسية في المجال العسكري، فيما فقدت فرنسا بشكل شبه كامل حضورها وفعاليتها في القرار السياسي والعسكري في الجزائر.
ويضاف إلى التنافس على مستويات التأثير في القرار السياسي والعسكري للأنظمة والجيوش في المنطقة، تباين آخر في رؤى التعاطي مع الإرهاب تجاه المنطقة، خصوصا أن حاجة فرنسا إلى الدعم الأمريكي في منطقة الساحل، ووسط إفريقيا باتت قوية جدا، بعد أن تحولت المنطقة إلى مستنقع عميق يستنزف الخزينة والهيبة الفرنسية بشكل كبير.
وتتعزز لدى الأمريكين بناء على تجربتهم المؤلمة في أفغانستان ضرورة التعاطي مع ملف الإرهاب بوسائل متعددة، لا تقتصر على الجانب العسكري فقط، حيث يدعم الأمريكيون في بعض الأحيان مبادرات الحوار مع الجماعات المتطرفة، وهو ما يناقض الرؤية الفرنسية التي لا تزال مؤمنة بأن الحل العسكري هو السبيل الأوحد للتعاطي مع تلك التنظيمات التي يتعزز حضورها وقوتها مع الزمن في أنحاء متعددة من القارة.
ومهما يكن فإن الحضور الأمريكي في إفريقيا يسير نحو التعزز، وسيبقى الحضور العسكري المنصة الأساسية التي تحمي بقية مجالات الحضور والتأثير في القارة، وذلك سعيا إلى مزيد من:
– تأمين الممرات البحرية: خصوصا أن إفريقيا تمثل معبرا أساسيا لجزء كبير من الحركة التجارية العالمية، سواء تعلق بالأمر بالقرن الإفريقي أو حركة الموانئ على المحيط الأطلسي.
– التصدي للتهديدات العسكرية وانتشار الإرهاب: والذي تمدد بشكل كبير في منطقة غرب وشمال وشرق إفريقيا، وبدأ ينتشر بشكل كثيف في وسطها.
– ضمان تدفق التجارة الدولية: بما في ذلك ضمان وصول المواد الأولية من الأسواق الإفريقية إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وإضافة إلى البعدين الاقتصادي والعسكري والسياسي، فإن التحولات الثقافية في القارة، وتوجه عدد من بلدانها إلى سياسية لغوية جديدة تعزز حضور الإنكليزية، سيمكن مع الزمن من استنبات جيوب ولاء متعددة لواشنطن في عمق القارة السمراء.
تركيا وإفريقيا ساحة صراع جديد مع فرنسا
تولي تركيا اهتماما خاصا لإفريقيا، وتعمل في عدة جبهات متعددة، تتناقض بشكل كامل مع مختلف السياسات الفرنسية تجاه المنطقة، وغير خاف أن إفريقيا ماهي إلا ساحة من ساحات الصراع التركي الفرنسي الذي يلتهب في مناطق متعددة.
ويبرز التنافس الفرنسي التركي في مجالات متعددة منها على سبيل المثال:
– تناقض الرهانات: تعمل تركيا على استثمار المشتركات القيمية مع عدد من الدول الإفريقية، وخصوصا الدول الإسلامية والعربية، مركزة على ملف الهوية والتعاون الإسلامي، وهو ما يناقض تماما السياسة الفرنسية تجاه إفريقيا والتي ترى في مختلف مظاهر النشاط الإسلامي خطرا على وجودها، وتعمل بشكل فعال على تشجيع العلمانية والقيم المناهضة للإسلام السياسي حيث يرى ماكرون ” لحد الساعة لا يوجد حزب مؤثر محسوب على الإخوان المسلمين في افريقيا جنوب الصحراء، لكن الأمور بإمكانها ان تتطور، وذلك وفق ما ورد في كتاب Le piège africain de Macron ،ويبشر الكتاب نفسه بضرورة تبني و تطوير الاجيال الجديدة من الشباب العلماني المحب لفرنسا في منطقة غرب افريقيا. والتي يتم رصدها عن طريق الرئاسة الفرنسية والسفارات ومركز التحليل والتوقع الاستراتيجي التابع لوزارة الخارجية، إذا أخفقنا في هذا فإن الأئمة من أمثال محمود ديكو سيحتكرون المشهد السياسي”
وتحظى التوجهات الإسلامية لتركيا بكثير من الاحتفاء والتقدير لدى النخب السياسية والثقافية، وقطاعات واسعة من المجتمعات الإفريقية، وتعمل تركيا بشكل متزايد على الدخول في النسيج الاجتماعي الإفريقي عبر المؤسسات التعليمية، والخيرية، وعلى المنح الطلابية حيث يدرس آلاف الطلاب الأفارقة في الجامعات التركية المتنوعة.
– التنافس على منطقة المعابر البحرية: حيث تعمل تركيا بشكل حثيث على تسوير مصالحها في منطقة المتوسط، ومنطقة البحر الأحمر، ويبرز الدور التركي في الصومال وفي ليبيا مستوى الاهتمام العالي الذي توليه أنقره للقارة الإفريقية، والذي مكنها من أن تتحول في سنوات قليلة إلى فاعل أساسي بإمكانه تعديل المسارات وفرض الأمر الواقع في أكثر مناطق الصراع التهابا، كما هو الحال في ليبيا، وكذا الصومال.
وقد مكن هذا الحضور أنقرة من وضع اليد على مصادر هائلة للنفط والغاز، والتحول إلى شريك فعال وثابت للأنظمة المتناغمة معها.
كما أن توجه تركيا نحو النيجر، سيمثل هو الآخر تحديثا لفرنسا، خصوصا في ظل الآفاق التي تعد بها تركيا لإحداث نهضة اقتصادية وتطوير نوعي في مجالات الطاقة والزراعة في المنطقة.
– الحضور التجاري الفعال: حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا والدول الإفريقية خلال العام 2020 186حوالي مليار دولار، وفق بيان صادر عن هيئة الإحصاء التركية، حيث بلغتي صادرات تركيا إلى بلدان القارة، بلغت 126.7 مليار دولار، مقابل استيراد ما قيمته 59.8 مليار دولار.
خلاصات
يتأسس النفوذ الفرنسي في إفريقيا على:
– الإرث الاستعماري العميق والمؤثر والفعال في صياغة المسارات السياسية والثقافية والاقتصادية لما بعد حقبة الاستقلال
-تمثل إفريقيا جزء أساسيا ومهما من السياسة الفرنسية الخارجية، وبدون إفريقيا فإن فرنسا ستبقى دولة ضعيفة النفوذ ومعرضة لارتباك شديد في المصادر الأولوية لاقتصادها.
– تمثل اللغة والإيديولوجية الفرنكفونية بشكل خاص ذراعا لا يستهان به بالنسبة لفرنسا، وستظل لفترة طويلة إحدى وسائط التأثير في النخب والسياسات الإفريقية.
– لا تزال فرنسا شريكا أساسيا لمختلف الدول الإفريقية، ولا يتوقع في القريب العاجل أن تفقد مواقعها بشكل كامل في القارة
ورغم ذلك فإن فرنسا تواجه وضعا متأزما في إفريقيا ومن أبرز ملامحه.
– تعثر السياسات الاستعمارية المغلفة بشراكات غير متوازنة مع الأفارقة.
– تزايد مشاعر العداء في صفوف النخب الإفريقية تجاه التاريخ الاستعماري وحاضر العلاقة مع فرنسا.
– تعزز الحملة الفرنسية تجاه المسلمين والمقدسات الإسلامية بشكل خاص مشاعر الغضب والحنق في إفريقيا تجاه القارة.
– تسعى الأنظمة السياسية في إفريقيا إلى إيجاد بدائل دولية وإقليمية تعزز موقعها التنافسي وتضمن لها شركاء أكثر إنصافا من فرنسا.
– تعتبر السياسة الفرنسية تجاه إفريقيا أبرز أسباب التوتر العرقي والأمني في المنطقة، وأحد أبرز الشماعات التي تستخدمها الجماعات المتطرفة في حربها على الأنظمة الإفريقية.
– تواجه فرنسا شركاء دوليين متعددين، وتضيق مع الزمن بشكل كبير مستويات التكامل والتحالف لصالح الصراع المتفاقم.
– يتجه النفوذ الفرنسي إلى التآكل، بفعل الأسباب الذاتية، وتسارع وتيرة التنافس والتغيير في إفريقيا، كما أن متغيرات الحراك السياسي والتوجهات الديمقراطية في إفريقيا لن تكون في صالح باريس.