انقلاب مالي …الخلفيات والآفاق …والرهانات الدولية
تقدير موقف
أخيرا حصل ما لم يكن منه بد في مالي، حيث سقط الرئيس إبراهيما أبو بكر كيتا بعد عدة أشهر من تصاعد الأزمة السياسية في بلاده، وعقب استنفاد كل طرق الحل السياسي بين الرئيس وحلفه الذي تآكل خلال الأشهر الماضية، وبين القوى السياسية المعارضة التي يتزعم جزء أساسيا منها الإمام محمود ديكو، والتي لا يجمع بينها أكثر من السعي للإطاحة بكيتا، وبناء نظام ديمقراطي يختلفون في تفاصيل مضامينه وفي رموز مستقبله.
جاء الانقلاب من نفس القاعدة العسكرية، التي خرج منه انقلاب 2012، بقيادة النقيب سونكو، الذي أطاح بالرئيس آمادو توماني توري، وبين توري وكيتا تشابه كبير، فكلا الرجلين جاء للإصلاح والتغيير وإحلال السلام، قبل أن يخفق في المهمة ويمكن لثلة من مقربيه في التحكم في مفاصل الحكم وشرايين المال والنفوذ.
أبعاد الأزمة المالية
تتأسس الأزمة المالية التي أنتجت الانقلاب العسكري على أبعاد مختلفة أبرزها:
– سؤال الدولة المنشودة: التي تأسست على متناقضات متعددة، وأدى مع الزمن إلى تفاقم المطالب العرقية بدء من صراع الشمال المكون من القبائل الطارقية والعربية، قبل أن يمتد بعد ذلك إلى مختلف القوميات حيث برز سؤال الهوية العرقية في مواجهة دولة ضعيفة متهمة بالعنصرية في أكثر من موقف ومن أكثر من جهة.
– نمط الحكامة الإدارية والسياسية: الذي فاقم من تراجع دور الدولة وانحسار إنجازاتها في مناطق الجنوب بشكل خاص.
– انتشار الفساد بشكل غير طبيعي الفترة الأخيرة، وخصوصا من خلال ممارسات أفراد من عائلة الرئيس.
– الملف السياسي الذي فجرته الانتخابات المزورة، واختطاف زعيم المعارضة سوميلا سيسي منذ أكثر من ستة أشهر، مما جعل سقوط الرئيس كيتا المطلب الذي يوحد القوى السياسية المختلفة.
– الانهيار الأمني المتواصل: والذي جعل سلطة الدولة محصورة في العاصمة ومناطق محدودة من الجنوب، وفاقم من الأزمة الأمنية الوجود الفرنسي الذي زاد من التوتر السياسي والاضطراب الأمني.
من هم الانقلابيون
تملك مالي تاريخا طويلا مع الانقلابات العسكرية الناجحة والفاشلة، ومن التقاليد الإفريقية الراسخة أن يكون الانقلاب الفرصة الأخيرة لنزع فتيل الأزمة السياسية، عند تفاقمهما، وانتزاع السلطة السياسية المختلف عليها من بين الأطراف السياسية المتصارعة، ليبرز طرف ثالث أكثر قوة وتحكما وهو المؤسسة العسكرية. ولم يخرج انقلاب مالي الأخير عن هذا المنحى إلا فيما تعلق بقادته الذين كانوا مجهولين لأغلب القوى السياسية والمنصات الإعلامية، وإضافة إلى هذا البعد، فقد تميز هذا الانقلاب الأخير.
– ظهور قادة الانقلاب من الصف الثاني: داخل المؤسسة العسكرية، فلم يكن من بينهم القادة الكبار ولا وزير الدفاع ولا الشخصيات المحورية المعروفة في المؤسسة العسكرية المالية
– التسلسل والتدرج: من خلال القبض بشكل متواصل على وزراء ونواب وشخصيات متعددة من القوتين العسكرية والمدنية الحاكمة في مالي.
– سلمية التعاطي مع السلطة القائمة: حيث خلا هذا الانقلاب من إطلاق النيران أو سقوط قتلى وجرحى عكس الأحداث السياسية الأخيرة التي وجه فيها جنود كيتا النار إلى صدور المتظاهرين المطالبين برحيله.
– السعي لشرعية اسمية: من خلال إرغام الرئيس كيتا على تقديم استقالته، مما يعني شغور السلطة، رغم أن رئيس البرلمان هو المؤهل تلقائيا لسد هذا الشغور، ضمن توافقات سياسية يمكن الوصول إليها لاحقا مع تطور الأحداث.
– التنوع العرقي في قيادة المجموعة الانقلابية، حيث ينتمي قائد الانقلاب إلى أٌقلية مينكا، كما يضم أيضا قادة عسكريين من قومية البمبارا، وآخرين من قبيلة البرابيش العربية، إضافة إلى وجود ضباط من قومية الفولان.
مسوغات الانقلاب
حدد قائد الانقلاب كاسيمي كويتا جملة من الأسباب التي دفعت بمجموعته العسكرية إلى الإطاحة بنظام كيتا، ولا تخرج هذه الأسباب عن المطالب والشعارات التي رفعتها المعارضة طيلة الأشهر المنصرمة ومن أبرزها:
– تفاقم الأزمة السياسية في البلاد واستمرارها لعدة شهور.
– التسيير الكارثي للدولة الدولة في المستويات الاقتصادية والإدارية.
– الإدارة العائلية وتحكم لوبيات الفساد المرتبطة بالرئيس كيتا في مفاصل السلطة. تفشي الفساد والرشوة والمحسوبية في الحكامة السائدة في مالي.
– تدهور قطاع الصحة، وانهيار التعليم وإهمال مستقبل الأجيال.
– تصاعد الأزمة العرقية، والصراع الاثني، مما فاقم من عمليات حرق القرى وقتل المدنيين.
– تدهور الملف الأمني وتصاعد العمليات الإرهابية ضد الجنود والوحدات العسكرية المالية.
أهم المبادرات والوعود
أطلق الحاكم العسكري الجديد لمالي رفقة مساعديه جملة من الوعود والمبادرات التي تميزت في مجملها بالعمومية والضبابية ومن أهمها
– الدعوة إلى تجاوز الخلافات السياسية والحزبية والعمل على إدارة فترة انتقالية تشاركية.
– التأكيد على أن الوحدة الوطنية والمصالح المالية العليا فوق كل اعتبار.
– دعوة إلى حوار وطني وتشاور عام تشارك فيه كل الأطراف السياسية والنقابية –
التقيد والاحترام التام لمختلف الاتفاقيات والمعاهدات الدولية بين مالي والعالم .
– التأكيد على احترام وإقرار اتفاقية الجزائر 2015 بين النظام المالي والحركات المتمردة في الشمال.
– دعوة المجتمع الدولي، وخصوصا المنظمة الاقتصادية لدول إفريقيا/ الإيكواس، والاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة إلى مساندة مالي في هذه المرحلة.
– الاستنجاد بالقوات الأممية والأوربية والفرنسية من أجل استمرار عملياتها العسكرية على الأراضي المالية. وإلى جانب هذه الدعوات والمبادرات المتعددة، فقد اتخذ الانقلابيون جملة من الإجراءات من بينها:
- تشكيل اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب باعتبارها المجلس العسكري الحاكم مؤقتا في البلاد.
- الإعلان عن مرحلة انتقالية مدتها تسعة أشهر، تنتهي بانتقال الحكم إلى نظام مدني منتخب.
- إغلاق الحدود البرية والجوية منذ إعلان الانقلاب قبل العودة إلى فتحها صباح الجمعة.
المجتمع الدولي … ترقب ومواكبة
تباينت ردود ومواقف المجتمع الدولي من أزمة انقلاب مالي، ومن أبرز القوى الإقليمية التي عبرت عن موقف متشدد تجاه ما يجري في مالي.
– المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا التي كانت الوسيط الساعي لمحاولات المصالحة في مالي، رغم رفض المعارضة لمختلف المقترحات التي قدمتها المنظمة، وقد تمخضت عنى القمة الافتراضية لقادة الإيكواس أمس الخميس 20/8/2020 جملة من العقوبات تجاه النظام الانقلابي في مالي ومن أبرزها:
1- تجميد عضوية مالي في المنظمة.
2- المطالبة بإعادة النظام المدني إلى السلطة من خلال الإفراج عن كيتا وإعادته للسلطة.
3- إغلاق حدود بلدان الإيكواس مع مالي ومنع التبادل التجاري معها.
4- فرض عقوبات متعددة على قادة الانقلاب.
وتأتي هذه العقوبات انسجاما مع الرؤية الإفريقية المتشددة والصارمة، ضد الانقلابات العسكرية التي عانت منها القارة خلال العقود المنصرمة، إلا أنها تواجه أيضا مستوى من التحفظ ودعوات للتريث والمواكبة، من بعض الدول المشكلة للإيكواس، ومن أبرزها غينيا والسنغال الداعيتان إلى مواكبة التحولات الجديدة في مالي، بما يضمن الانتقال إلى نظام ديمقراطي.
ويتناغم مع موقف الإيكواس مع موقف الاتحاد الإفريقي، الذي تحمل نصوصه المنظمة مواد ضد الانقلاب، غير أنها ظلت مواقف نصية تفتقد إلى روح تطبيقية كما ينسجم هذا الموقف مع مواقف منظمة دول الساحل الخمس، إضافة إلى موقف فرنسا التي تعتبر الطرف الدولي الأهم والأكثر تفاعلا مع مالي، وقد عبرت فرنسا عن موقفين متكاملين من أزمة مالي، وهما إدانة الانقلاب ودعوة مجلس الأمني إلى الاجتماع، أما الموقف الثاني فهو استمرار العمليات العسكرية، وهو ما يمكن للانقلابيين اعتباره استجابة نظرية لموقفهم، رغم أن فرنسا هي صاحبة المبادرة في وجودها العسكري بقاء واستمرارا، حماية لمصالحها وتحكما في مفاصل السلطة الأمنية والعسكرية المالية.
وإلى جانب فرنسا عبرت الجزائر – وهي جار مؤثر في مالي – عن رفضها للانقلاب العسكري تاركة الباب مفتوحا لتفاهمات أخرى قد تجدر إليها قابل الأيام. ويمكن القول إن المواقف الدولية تجاه الانقلاب لم تكن بتلك القوة والصرامة المتوقعة، كما لم تكن أيضا مستبشرة ومساندة ولذلك لعاملين أساسيين هما – عمق الأزمة السياسية في مالي مما جعل الانقلاب حدثا متوقعا في أي لحظة – عدم وضوح الهوية السياسية والفكرية للانقلابيين مما جعل الجميع يتريث في انتظار استجلاء الصورة أكثر.
نقاط قوة متعددة
رغم الموقف الدولي الرافض لحد الآن للاعتراف بالانقلاب، إلى أن الحكام العسكريين في مالي، يملكون لحد الآن نقطة قوة، تتمثل في احتضان قوى المعارضة لهم، واستعدادها للتعاطي الإيجابي معهم وقد أخذ هذا التعاطي مستويات متعددة من بينها.
– ترحيب قوى المعارضة المناوئة للرئيس السابق كيتا بالوعود والمبادرات التي أعلن عنها الانقلابيون.
– إعلان الزعيم الروحي للانقلابيين محمود كيتا عن خروجه من المشهد السياسي وعودته إلى وظيفته الروحية إماما ومرشدا دينيا.
– تحييد الزعيم الروحي محمدو ولد الشيخ حماه، الذي كان من أبرز خصوم الرئيس المطاح به كيتا.
– انهيار المعسكر السياسي التابع للرئيس المالي كيتا، والذي كان متأسسا على مصالح متناقضة، تنتج عن استمرار الانقلاب.
– التعاطي الإيجابي على المستوى العسكري على الأقل، وهو ما قد يستصحب مع الأيام تعاطيا سياسيا إيجابيا تجاه الانقلاب. ورغم ذلك فإن الانقلابيين يواجهون أسئلة متعددة من أبرزها:
- عدم وضوح الهوية الاجتماعية أو الفكرية أو السياسية للانقلابيين، مما يذكر بانقلاب 2012، وهو ما يجعل جانب التمرد أقوى من جانب الثورة والتخطيط النوعي.
- غياب القيادات العسكرية الوازنة في الجيش والمؤسسة العسكرية.
– ارتباك التنوع الاجتماعي داخل الانقلاب، حيث كان العقيد إسماعيل واغي الذي ينتمي إلى قومية الفولان ذات العلاقات المضطربة مع فرنسا أول الوجوه العسكرية الظاهرة في الانقلاب الوجه الأول للانقلاب، قبل أن يحال إلى منصب نائب رئيس اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب والناطق الرسمي باسمها.
– وجود مستوى من العلاقة بين زعيم الانقلاب كويتا والشيخ محمود ديكو الذي سبق أن أنقذ كويتا من أسر الحركة الوطنية لتحرير أزواد MNALA سنة 2013، إضافة إلى علاقته المفترضة بروسيا التي تلقى فيها تكوينا عسكريا خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يجعله عرضة لتحفظ فرنسا التي تتسع خارطة صراعها مع تنظيمات وقوى سياسية محسوبة على قومية الفولان.
خلاصات ومواقف
– يمكن القول إن الانقلاب العسكري في مالي هو تطور طبيعي للأزمة السياسية في هذا البلد، كما أنه وفاء تقليدي لوسائل التغيير العسكرية التي دأب عليها القادة العسكريون في مالي.
– من المستبعد جدا اعتبار الانقلاب ثورة شعبية أو انتصارا لثورة الإمام ديكو وأنصاره، بل من غير المستبعد أن يتحول إلى سرقة للجهود الشعبية التي زلزلت الأرض تحت أقدام ديكو، وتلك عادة عسكرية وإفريقية تقليدية.
– ينبغي الحذر والترقب في إصدار الموقف سلبا وإيجابا تجاه ما يجري في مالي إلى حين اتضاح صورة التشكيلة العسكرية وشكل الشراكة التي يتوقع أن يقيمها الانقلابيون مع الأجنحة المدنية المختلفة.
– لا يمكن استبعاد دور فرنسا في صناعة الانقلاب المذكور، وذلك سعيا إلى الخروج من الأزمة السياسية التي تهدد مصالحها، وقطعا للطريق على القوى السياسية المعارضة التي تجمع بينها مواقف سلبية تجاه باريس.
– يدفع هذا الانقلاب إلى مخاوف متعددة من عدوى انقلابات مماثلة في دول مثل ساحل العاج وغينيا التي تواجه سعيا من رؤسائها للحصول على مأموريات ثالثة، مما فاقم من الأزمات السياسية والأمنية في تلك البلدان.