إعداد: فريق المركز
نظم المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات، في اسطنبول ندوة سياسية حول “الأزمة السياسية الراهنة في تونس” وهي الندوة الخامسة ضمن الندوات الشهرية التي ينظمها المركز. وقد تمت أشغال هذه الندوة عبر تطبيق ” زووم” بتاريخ 2 ديسمبر 2022 ودامت قرابة ساعتين ونصف، شارك فيها عدد من الأكاديميين وثلة من النشطاء السياسيين المختصين في الشأن التونسي.
استهلت أشغال هذه الندوة بكلمة ترحيبية من الأستاذ محمد صالح عمر مدير المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات، والذي بدأ بشكره للمشاركين والشخصيات المتدخلة وحضور الندوة وقام بتقديم أهم المحاور التي طرحت في الندوة، وأهم الأسباب التي تقف وراء تعثر الانتقال الديمقراطي في تونس التي ولدت أزمة سياسية حالية بالبلاد.
التقاء الرغبة السياسية مع المطالب الاجتماعية
افتتحت فقرات الندوة بمداخلة الأستاذ عبد الحميد الجلاصي المثقف السياسي ورئيس منتدى آفاق جديدة للاستشارات والتدريب بتونس التي تناولت المحور الأول من الندوة حول أسباب تعثر الانتقال الديمقراطي في تونس، حيث أكد على أن السياق الذي جاءت فيه ثورات الربيع العربي وخاصة الثورة التونسية سياق فاجأ الجميع من الأطراف الدولية والداخلية، وكانت نتيجة لالتقاء الطلب الشعبي الاجتماعي مع الطلب السياسي (معارضين لأنظمة الحكم) الذي تجلى في شعار الثورة التونسية حرية (مطلب سياسي) وكرامة (مطلب اجتماعي). ولكن في سنة 2013 حاولت الأطراف الدولية احتواء هذه الموجة الثورية واجهاضها كما حدث في عدد من دول الربيع العربي، أما في تونس فقد تم السماح لهذه التجربة بأن تتواصل لعدة حسابات ومعادلات إقليمية فرضتها الخصوصية التونسية خاصة من ناحية الجغرافيا في بعدها عن مناطق الصراع الدولي ومن خصوصية التونسية المجتمعية والثقافية.
كما أشار إلى نجاح تونس نسبيا في تأسيس لمنظومة ديمقراطية عبر صياغة دستور وتأسيس منظومة قانونية (مؤسسات دستورية، قوانين) لإنجاح هذه التجربة ومع أهمية التوافق الذي حدث بين حركة النهضة الإسلامية وحركة نداء تونس ذات التوجه الليبرالي التي تحسب على منظومة الحكم القديمة حيث اعتبارها الأستاذ الجلاصي حدث إيجابي وفريد من نوعه، بالرغم من تعثر عديد الملفات وخاصة فيما يتعلق بموضوع العدالة الانتقالية والمصالحة مع المنظومة السابقة والتنمية.
وأشار الأستاذ الجلاصي بالرغم من أهمية تجربة التحالف بين حركتي النهضة والنداء خلال فترة 2014-2019 إلا أن هذا التحالف لم يتحول إلى مشروع سياسي وهو مثل بداية الأزمة السياسية خاصة مع إقالة حكومة الحبيب الصيد في صائفة 2016 وما تلاها من ارتباط أسماء شخصيات سياسية خلال تلك المرحلة بملفات فساد أو حتى تهم بالصمت عن الفساد، وهو ما أفقد ثقة الطبقة الشعبية في النخبة السياسية وولد النفور من الأحزاب السياسية والعملية السياسية بصفة عامة، وهو ما تجلى في انتخابات ماي 2018 البلدية ومن ثم في الانتخابات الرئاسية سنة 2019 التي اعتبارها تتويج لفشل الطبقة السياسية الحزبية عند وصول مرشحين خارج المنظومة الحزبية.
الأزمة الراهنة والفرص الضائعة
كما أكد على أن الرئيس الحالي لطالما أشار إلى عدم إيمانه بالحوار أو التعددية الحزبية وموازين القوى السياسية في البلاد حيث ساهم مساهمة كبرى في مفاقمة الأزمة السياسية التي تعيشها تونس حاليا.
واستخلص الأستاذ الجلاصي أن التجربة التونسية وبالرغم من تأثرها بعوامل إقليمية ودولية إل أن السبب الرئيسي الذي يقف وراء حدث 25 جويلية كان نتيجة العوامل الداخلية وبأن النخبة السياسية والمجتمع المدني ضيعوا الفرصة التي أتيحت لهم واستثمرها الرئيس الحالي لكي ينفذ مخططه في الانقلاب مستغلا الأخطاء السابقة التي وقعت فيها هذه النخب، وهو ما ساهم في الوضعية الحالية التي تعيشها البلاد.
ولكن المنظمات والأحزاب الحالية كحركة النهضة ومنظمة مواطنون ضد الانقلاب ساهموا مساهمة كبرى في الوقوف أمام مشروع الرئيس الحالي الذي يقود البلاد نحو الديكتاتورية، وذهب إلى أن البرلمان القادم الذي سيتم تشكيله على ضوء انتخابات القادمة هم من سيقفون في وجه رئيس الجمهورية على حد تعبيره أن المنظومة الانقلابية في حد ذاته ستتصادم مع قيس سعيد، كما راهن على أن مبادرة الحركة ستأتي من الشارع الاجتماعي الذي سيتحرك ضد المنظومة الحالية وهو ما سيجعل القوى الدولية والإقليمية ستتحرك ووقتها وحتى القوى الصلبة في تونس ستتحرك ضد رئيس الجمهورية حينها.
طريق العودة إلى النظام التسلطي
وجاءت المداخلة الثانية للدكتور شاكر الحوكي أستاذ مساعد في القانون العام والعلوم السياسية بجامعة المنار بتونس تتعلق بالخلفية الدستورية والقانونية للأزمة السياسية الحالية في تونس، أكد الأستاذ الحوكي أن ما يحدث في تونس حاليا شبيه بما حدث في البيرو سنة 1992 نفس الخطوات التي يتبعها الرئيس قيس سعيد قام بها رئيس البيرو ألبرتو فوجيموري وقام عبرها بتأسيس نظام ديكتاتوري تسلطي، واعتبر الأستاذ الحوكي أن الأزمة الدستورية الحالية يمكنها تعريفها عبر قسمين، قسم أول يتعلق بطريقة وضع الدستور وصياغته وأما القسم الثاني فهو محتوى الدستور في حد ذاته الذي وضعه رئيس الجمهورية قيس سعيد وتم اقراره في سبتمبر 2022.
أولا فقد تزامن مع صياغة هذا الدستور اتخاذ ما يعرف بالتدابير الاستثنائية التي بموجبها تم حل البرلمان ومن ثم تعليق العمل بالدستور وتغيير تركيبة الهيئة الانتخابية، حيث تم صياغة نسخة أولى من قبل رئيس الجمهورية ومع تفطنه لاحتواء هذه النسخة لعدد كبير من الأخطاء تراجع عنها وأصدر نسخة ثانية وهو ما يعكس غياب الأمانة القانونية والعبث بالقواعد الدستورية وهو ما يحدث لأول المرة في العالم، حيث تحولت تونس إلى دولة استثنائية في العالم وهذا ما يعكس الازمة التي تعيشها البلاد على المستوى الدستوري، فإن قمنا بمقارنة بين دستور 2014 الذي حظي بإجماع داخلي ودولي من قبل الأحزاب السياسية والنخب الوطنية ومن الأمم المتحدة ولجنة البندقية، في الجهة المقابلة لا يحظى دستور 2022 بأية اجماع داخلي ولا خارجي حتى أن المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب (CADHP) أصدرت حكم يقر ببطلان دستور 2022.
أزمات في الحاضر والمستقبل
ثانيا فيما يتعلق بمحتوى الدستور فهو يشير إلى أزمات في الحاضر والمستقبل فعلى مستوى الفصل بين السلط الدستور الحالي لا يطرح سلط وإنما يطرح وظائف، وأما على المستوى النظام السياسي فلا أحد إلى حد اللحظة يعلم ما هي طبيعة هذا النظام، فقد أشار الدكتور الحوكي أن المختصين في القانون الدستوري في تونس يذهب بعضهم لتوصيف النظام الحالي بالنظام السياسي التسلطي أو نظام رئاسوي بسبب تسلط مؤسسة الرئاسة على كل السلطات في البلاد، حتى أن أحد الأستاذة وهو الزكراوي من بين أحد أكبر المناصرين لحركة 25 جويلية في بدايتها تحول فيما بعد إلى معارضتها حيث أكد على أن الدستور الحالي يؤسس للنظام الإمامة بسبب غياب أي سلطة مراقبة أو محاسبة لرئيس الجمهورية وتموضع منصب الرئيس عبر هذا الدستور فوق كل السلط في البلاد.
في الأخير استخلص الدكتور الحوكي أن النظام السياسي التونسي الحالي نظام غير ديمقراطي يؤسس لمنظومة دكتاتورية أكثر حدة من الديكتاتوريات السابقة التي عاشتها تونس فالمسار الدستوري وما يحتويه كله ينعكس على الأزمة الحالية السياسية التي تعيشها تونس وينذر بأزمات مستقبلية فلم يتم تحديد مدة الرئاسة أو البقاء في الحكم، وحتى دور البرلمان سيكون دور غير مؤثر وسيخضع نوابه لضغط ما يعرف بسحب الثقة، وهو ما سيعقد المشهد السياسي أكثر مستقبلا ويجعله أكثر غموض.
انعكاسات الأزمات الدولية
وأما المداخلة الثالثة والأخيرة كانت للأستاذ إيهاب العاشق باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالمركز الأفريقي لأبحاث ودراسة السياسات، حيث تعلقت بالمحور الثالث العوامل الدولية والإقليمية وتأثيرها على الأزمة السياسية الراهنة في تونس، حيث أشار إلى السياق الدولي الذي جاءت فيه إجراءات 25 جويلية 2022 المتخذة من قبل رئيس الجمهورية التونسية، بعد أزمة وباء كورونا العالمي وضمن سياق الحرب الروسية الأوكرانية التي تحولت إلى حرب باردة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وأهم مناطق العالم التي تدار فيها هذه الحرب هي القارة الإفريقية مما بدأ في إعادة تشكيل النظام العالمي وتوجه إلى عالم متعدد الأقطاب.
فقد تزامن صعود الرئيس الحالي مع أزمة دولية تعيشها كل الأحزاب في العالم، حيث كان توجه الأخير عالميا نحو الشخصيات المتأتية من خارج الأحزاب الكبرى والتقليدية والشخصيات المستقلة كما هو الحال مع ماكرون في فرنسا وغيرها، ومع صعود تيارات الشعبوية خلال الآونة الأخيرة هو ما أفرز المشهد السياسي الحالي في تونس وتجلى خلال الانتخابات الأخيرة التي أفرزت في دورتها الأخيرة مرشحين من خارج الأحزاب الكلاسيكية الكبرى تتبنى توجهات شعبوية.
كما أكد خلال مداخلته على الطريقة التي تعاطت بيها واشنطن مع الإجراءات التي اتبعتها السلطة الحالية في تونس، حيث ضغطت الإدارة الأمريكية في بدايتها على السلطات التونسية حتى أنها ذهبت أبعد من ذلك بالتهديد بقطع الدعم عن المؤسسة العسكرية والأمنية بطلب من أعضاء بالكونغرس الأمريكي محاولة لضرب القوى الصلبة التي كان يعتمد عليها النظام السياسي في تونس، ولكن ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، خفت الضغوطات الأمريكية على تونس وهو ما تزامن أيضا مع تخفيف النظام السياسي في تونس لحملته الموجهة ضد الشخصيات السياسية من اعتقالات ومحكمات، وهو ما يفهم منه مخاوف واشنطن في ظل الازمة الاقتصادية الكبرى التي تعيشها تونس من التجاء صناع القرار في تونس إلى احد المحاور الدولية المتمثلة في المحور الروسي الصيني، حيث يمكن لتونس أن تجد حلول لدى بكين فيما يتعلق بالأزمة الاقتصادية خارج الأطر الدولية المتعارف عليها الخاضعة لسلطة واشنطن والاتحاد الأوروبي (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي).
بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي كانت مواقفه متباينة لما يحدث في تونس، حيث كانت دول شمال الاتحاد وتحديدا ألمانيا أكثر حدة في مواقفها من الأحداث في حين تبنت دول جنوب الاتحاد الواقعة في شمال حوض البحر الأبيض المتوسط مواقف أقل حدة وذلك عائد لمخاوفها من موجات الهجرة غير الشرعية وملف الإرهاب حول التنسيق الأمني وخاصة الجوار الليبي.
وقد أكد الأستاذ إيهاب على أن هذه العوامل كلها أفرزت الوضع الحالي للمشهد السياسي التونسي، فقد أشارت كل الدراسات التي توجهها المراكز البحثية نحو صناع القرار الغربيين بمحاولة الضغط على تونس فيما يتعلق بالحفاظ على الشكل الديمقراطي مع دعمها اقتصاديا لكي لا تقع ازمة وتنعكس سلبا على المصالح الحيوية لدول الغربية خاصة في الملفات الثلاثة المذكورة (الهجرة، الإرهاب، المحور الصيني الروسي).
وهو ما تجلى مؤخرا في شهر أكتوبر عندما صوتت تونس ضد ضم روسيا لمناطق من أوكرانيا، مما تزامن مع إقرار صندوق النقد الدولي لقرض لتونس ومع احتضان تونس خلال شهر نوفمبر 2022 لقمة الفرنكوفونية تحصلت على قرض من قبل باريس وبعض الوعود الاستثمارية من قبل دول أوروبية أخرى داخل المنظمة وهو ما يعكس الطرح الغربي لدعم تونس في ظل الأزمات الدولية والمحاور المتصارعة.
ومن ثم أشار إلى العامل الإقليمي حيث تحولت تونس من محور إقليمي إلى محور أخر وهو ما يعكس تحول سياستها الخارجية والداخلية، فبعد التقارب الأخير بين تونس والجانب الجزائري مما خفف الصدام السياسي في تونس بسبب مخاوف الجزائرية من وقوع أزمة في تونس تكون انعكاساتها سلبية عليها.
الشارع الاجتماعي سيظل حاسما
وفي تطرقه للعوامل الداخلية أشار إلى الأزمة السياسية التي يعيشها الشارع السياسي في تونس المتمثل في الأحزاب السياسية التي تعيش صراعات داخلية وحتى على عدم مقدراتها تحريك الشارع الاجتماعي الذي لطالما كان هو العنصر الحاسم تاريخيا في التحولات السياسية الكبرى في تونس، هذا الشارع الاجتماعي الذي سيتحرك بعد الانتخابات الحالية وإقرار الإجراءات التي تم توافق عليها من قبل الدولة التونسية وصندوق النقد الدولي المتعلقة برفع الدعم، والتخفيض في كتلة الأجور وهو ما ينبئ بشتاء ساخن في تونس على حسب تعبيره، وهو ما دفع مؤخرا بمنظمة اتحاد الشغل التونسي للإعلان عن دخولها في معركة مع المنظومة الحالية في تونس محاولة منها ركوب الموجة الشعبية القادمة.
واستخلص في نهاية على أن الأزمة الحالية في تونس ستظل خاضعة للحسابات الإقليمية والدولية، مع الفاعل الاجتماعي في تونس الذي سيكون هو أحد أهم العناصر التي ستكون مؤثر في هذا المشهد في ظل الأزمة السياسية بين أطراف المعارضة غير القادرة على التجمع في جبهة واحدة وفي ظل الازمة الداخلية التي تشهدها الأحزاب.
وبعد انتهاء هذه المداخلات الرئيسية، تم فتح باب المداخلات أمام الأساتذة المعقبين والنقاش، ليتداخل الحاضرين بتساؤلاتهم وإضافاتهم حول الأزمة السياسية الحالية في تونس، بحيث عملت مداخلات الحضور على مقاربة الموضوع من مختلف زواياه، وقدمت وجهات نظر مختلفة حول هذا الموضوع. وتم إعطاء الكلمة الأخيرة للمتحدثين والمعقبين للإجابة عن الأسئلة وتقديم كلماتهم وتعليقاتهم الختامية حول موضوع الندوة.
وفي الأخير وجه مدير المركز بعض الأسئلة والتعليقات حول الموضوع وتوجه بالشكر لكافة الحضور من الباحثين والمهتمين بالشأن التونسي بصفة خاصة والإفريقي بصفة عامة من المتداخلين والمتابعين.
خصلت الندوة في الأخير إلى خطورة الأزمة السياسية التي تعيشها تونس وانعكاساتها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وخاصة الوضعية السياسية حيث تعتبر تونس أخر معاقل الربيع العربي التي لا تزال صامدة والتجربة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة التي علقت عليها آمال كبيرة في النجاح وبلوغ بر الأمان.