إصداراتتحليلات

خطوات السودان نحو التطبيع: تغليب سياسة المصالح على المبادئ

خطوات السودان نحو التطبيع: تغليب سياسة المصالح على المبادئ

الأستاذ الدكتور/ كمال محمد جاه الله الخضر

السودان في مرمى السياسية الإسرائيلية: عقود من الحروب الخفية والمعلنة

لم يشفع البعد الجغرافي لدولة السودان منذ استقلالها عن بريطانيا في عام 1956، وحتى اليوم من أن تصبح هدفا للكيان الصهيوني، الذي أنشأ دولة له على الأراضي الفلسطينية في عام 1948. وذلك أن السودان في المخيلة الإسرائيلية، ما هو إلا موارد طبيعية متنوعة، ومساحات شاسعة، وعدد معتبر من السكان، إضافة إلى مياه عذبة، تؤهله ليكون قوة منافسة على الأقل على مستوى الدول العربية.
لذلك عمد الإستراتيجيون في دولة إسرائيل منذ خمسينات القرن الماضي على التعامل مع السودان وفقا لاستراتيجية ، تم إعدادها بإحكام بغية تنفيذها على مراحل، بدأت في خمسينات القرن الماضي، بتقديم معونات إنسانية للنازحين على الحدود السودانية الإثيوبية بعد تمرد عام 1955. وكانت إسرائيل تبتغي من تقديم هذا العمل الإنساني، تعزيز الاختلافات القبلية والعرقية، وتوسيع شقة التنافر بين شمال وجنوب السودان . وبمجيء الستينات من القرن نفسه بدأت إسرائيل في دعم قوات الأنيانيا وتدريبها. حيث تبلورت رؤية لإسرائيل مفادها أن يُشغل السودان بجنوبه حتى لا يدعم مصر في أي عمل مشترك ضد إسرائيل. وابتداء من منتصف الستينات، وحتى بداية السبعينات قدمت إسرائيل أسلحة إلى متمردي الجنوب، وتم تدريب عدد منهم في إسرائيل، بل أنشأت إسرائيل مدرسة خاصة لتدريب المشاة، تخرج الكوادر العسكرية، التي تقود حركة التمرد في الجنوب. وقد شاركت خبرات إسرائيلية بالفعل في بعض المعارك، التي جرت في جنوب السودان وقتها.
ويبدو أن الدعم في مجال الإمداد بالأسلحة، وفي مجال التدريب لم يحقق لإسرائيل ما تريد؛ لذلك بدأت تفكر في مخططات جديدة، عقب الضعف الواضح الذي أصاب حركة التمرد في عام 1969، حيث دفعت بمخطط يؤدي إلى حركة تمرد دموية شاملة، تنتظم منطقة الجنوب بأسرها، وكان التركيز الإسرائيلي في ذلك الوقت على نشر ما يفيد الوشائج التاريخية بين الشعب اليهودي، والشعوب الإفريقية، منذ عهد الملك سليمان، والربط بين ما اعتبرته شبها بين الحركة الصهيونية، وحركات الجماعات الإفريقية الزنجية. غير أن هذا المخطط فشل بقيام اتفاقية أديس أبابا في عام 1972، بين الحكومة السودانية، والمتمردين الجنوبيين.
بعد عشرية الهدوء والاستقرار، التي أعقبت اتفاقية أديس أبابا (1972-1983) اختفت إسرائيل إلى حين عن المشهد السوداني أو كادت. غير أنه بعد ظهور حركة تمرد جديدة بقيادة جون قرنق في عام 1983 أطلت إسرائيل من جديد. وفي هذه الفترة وجدت إسرائيل دعما غير مسبوق من إثيوبيا، التي كانت على عداوة كبيرة مع السودان في فترة حكم منقستو هايلي مريام . ولعله من حسن الطالع لحركة التمرد الجديدة أن وجدت دعما كبيرا، كان وراءه متلازمة: ظهور النفط في جنوب السودان، وتوتر العلاقات العربية العربية بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد في عام 1979.
وإذا كانت ثمانينات القرن الماضي شهدت تقديم أسلحة متطورة للمتمردين في الجنوب، إضافة إلى تسخير الأقمار الاصطناعية الإسرائيلية في تقديم المعلومات المتعلقة بانتشار القوات الحكومية في جنوب السودان فإن فترة التسعينات شهدت تقديم إسرائيل دعما أكثر تطورا، وإن تأثرت المسارات الإسرائيلية بمناخ المصلحة بين السودان وإثيوبيا. وفي هذه الفترة أيضا تأثرت حركة التمرد بانقسامها إلى ثلاث فصائل (قرنق، ومشار، وأكول). وإن كان لسقوط منقسو أثره المباشر على الدعم الإسرائيلي للتمردين فإن التطورات في القرن الإفريقي، وقتها، فتحت مجالا جديدا للتغلغل الإسرائيلي في المنطقة .
أدخل انقسام حركة التمرد في جنوب السودان إلى ثلاث فصائل إسرائيل في متاهة صعبة. ولكنها في نهاية الأمر عززت علاقاتها مع جناح الناصر الذي يقوده لام أكول، بعد أن ظهرت اتجاهات وحدوية عند جون قرنق، وتخليه عن فكرة المطالبة بدولة مستقلة. وقد دعمت إسرائيل جناج الناصر لإقراره بمبدأ تقرير المصير في اتفاقية وقعها مع الخرطوم في عام 1997. على أن هدف الدعم الإسرائيلي في مجمله كان يسعى إلى إحباط الدعم العربي لحكومة الإنقاذ، وعرقلة العمل في قناة جونقلي، والتحذير من هجرة الفلاحين المصريين إلى جنوب السودان، والتركيز على أن يكون الجنوب دولة مستقلة بهوية إفريقية .
وبحلول عام 2002، الذي وقع فيه اتفاق ميشاكوس، وعام 2005، الذي تم فيه توقيع اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا بكينيا كانت إسرائيل على الخط، تنتظر ما تفضي إليه المحادثات، وكان تقييمها للاتفاقيتين المهمتين، أنهما لم تكونا حلا للخلافات بين الشمال والجنوب، بقدرما وضعتا الأساس العملي والشرعي لانفصال جنوب السودان عن شماله، وذلك من خلال قبول الحكومة السودانية مبدأ تقرير المصير، ومطالب أخرى جوهرية تقدم بها جون قرنق وحركته. وكان للجنوبين ما أرادوا ولإسرائيل ما أرادت، فعقد استفتاء للجنوبيين في فبراير 2011، وكاد التصويت يكون بنسبة 100% لخيار الانفصال. وفي 9 يوليو 2011، أعلن جنوب السودان انفصال عن الدولة الأم، وتشكلت الدولة الوليدة.
لم يكن كافيا لإسرائيل، وهي تقوم بأعمالها العدائية على السودان، قبل انفصال الجنوب فقد شهدت عام 2003 تدشين أزمة دار فور، وهو توقيت أعد له بإحكام، وذلك أن هذا التوقيت أعقب ميشاكوس (2002)، الذي مهد إلى اتفاقية السلام الشامل في عام 2005. وسبق ذلك قيام إسرائيل بالعزف على وتر التعدد الإثني والجهوي في أطراف السودان، وأشعلت نيران الصراعات والحروب ، ومدت كلا بالسلاح والتدريب والتخطيط (سياسة شد الأطراف). واستقبلت بعد ذلك مواطنين سودانيين، على الأخص من دار فور، ليشكلوا لأول مرة جالية سودانية في إسرائيل. ولم تكتف إسرائيل بذلك أيضا، فقد أخذت تتدخل عسكريا في شرق السودان باستهدافها قافلة في الصحراء الشرقية تحت ذريعة تهريب السلاح من إيران إلى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في فلسطين، كما قامت بضرب سيارة مدنية على طريق مطار بوتسودان في مارس 2009 ، علاوة على ضرب أحد مواقع التصنيع الحربي (اليرموك) في قلب الخرطوم في 2011.
يمكن أن نستنتج مما تم ذكره من سياسة إسرائيلية تجاه السودان منذ الخمسينات، مرورا بعهود الحكومات الوطنية التي أعقبت الاستقلال، وحتى قيام ثورة ديسمبر 2018أن إسرائيل استهدفت الحكومات الوطنية ما بعد الاستقلال بإستراتيجيات تنفذ على مراحل، وأن كل مرحلة تختلف عن الأخرى، بحسب معطيات الواقع، انطلاقا من أوغندا، ومن إثيوبيا، ومن جنوب السودان. وكانت الغاية من ذلك الاستهداف الممنهج، القائم على دعم التمرد في الجنوب، والعزف على وتر التعدد العرقي والجهوي في أطراف البلاد المختلفة كانت الغاية منه أن تقعد السودان، وتحول بينه وبين تحوله إلى قوة إقليمية، مؤثرة على المستويات: السياسية والاقتصادية والعسكرية.
كما يمكن أن نتستنتج أن تلك الإستراتيجيات قد حالفها النجاح، في مراحل تنفيذها المختلفة إلى حد كبير في جعل السودان مستنزف الموارد، مكبل الاقتصاد، عاجزا عن القيام بدوره كدولة ذات موقع جيوإستراتيجي، وترتب على ذلك تعطل المشاريع التنموية، وتوقف عجلة الإنتاج، وإشعال حروب الأطراف، عبر حرب بالوكالة، ما تتوقف واحدة، إلا تبدأ أخرى أشد ضراوة. كما ترتب على ذلك نزوح أعداد معتبرة من السكان في المناطق المأزومة من الأرياف إلى حواضر وعواصم الولايات، ثم بدأت هجرات متسارعة من الأرياف والمدن الولائية إلى العاصمة المثلثة (الخرطوم وبحري وأم درمان)؛ مما شكل ضغطا على الخدمات التي تقدم على قلتها، فتريفت العاصمة المثلثة، وبرزت بوضوح المهن الهامشية، والظواهر والأمنية السالبة، فتأثرت مواقع الإنتاج في المشروعات المروية، والأخرى المطرية. كل ذلك كان نتيجة للحروب الأهلية التي دعمتها إسرائيل، إضافة إلى تعرض البلاد بين الفترة والأخرى إلى موجات الجفاف والتصحر والزحف الصحرواي.
في هذا الجو المشحون بالحروب والأزمات التي من صنع الإنسان والطبيعة ولدت ونشأت أجيال وأجيال من السودانيين، لا تجعل من إسرائيل إلا “عدوا”. وقد عزز هذه العداوة المتوارثة لإسرائيل، ما تقوم به تلك الدولة من جرائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، علاوة على أن الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في السودان، لم تصنف إسرائيل إلا في خانة العدو، مع ملاحظة أن إعلام الدول العربية والإسلامية، لا تجعل من إسرائيل إلى مجرمة تستحق السحق والمحق.

ما بعد ديسمبر 2018: سياسة تغليب المصالح على المبادئ

لم يكن موضوع التطبيع مع إسرائيل مطروحا في أدبيات حكومات الإنقاذ المختلفة المتعاقبة، منذ يونيو 1989 وحتى أبريل 2019، والتي كانت فيما يبدو تقدم المبادئ على المصالح في هذه القضية. ولكن المتابعين عن قرب لمجريات الأحداث رصدوا في السنوات الأخيرة التي سبقت ثورة ديسمبر 2018 أصواتا لبعض قادة المؤتمر الوطني هنا وهناك، تصرح بموضوع التطبيع، بحياء، وفي دوائر ضيقة، ارتقى بعضها إلى وسائل الإعلام (مثل قول وزير الخارجية السوداني إبراهيم في عام 2016 بأن التطبيع مع إسرائيل قابل للدراسة) . وأغلب الظن أن هذه القضية كانت تطرح من قبيل جسّ النبض، والتنفيس، أو معا، حيث تم الإحكام وقتها على كثير من المنافذ التي تتعامل عبرها الإنقاذ مع المجتمع الدولي والإقليمي مؤسساتهما، سياسيا واقتصاديا، لا سيما وأن الإنقاذ عانت لنحو عقدين ويزيد حصارا اقتصاديا أمريكيا وغربيا، يصعب الإفلات من تبعاته، وكثيرا ما كانت أصابع الاتهام تشير إلى أن إسرائيل لها دور مباشر وغير مباشر في إحكامه.
وفي أعقاب ثورة ديسمبر 2018، انفتح السودان على واقع جديد، وآفاق جديدة، ولكنه في الوقت نفسه ورث تركة ثقيلة على مستوى الاقتصاد المنهار، والسلام المفقود، والعلاقات الدولية المتدهورة. وكان على سلطة ما بعد الثورة، وثم الحكومة الانتقالية إحداث اختراقات في تلك التركة المتعبة، المتراكمة عبر ثلاثة قرون، كما كان عليها أن تواجه دولة عميقة، تمسك بمفاتيح البلاد على كافة الأصعدة.
يلاحظ أنه في الفترة من 7 أبريل 2019 وحتى 2 فبراير 2020 لم يكن موضوع العلاقات مع إسرائيل من الموضوعات التي لها الصدارة في أجندة سلطة ما بعد الثورة، والحكومة الانتقالية، ولم تطرق على مستوى سياسة العلاقات الخارجية لهما. ولا ينبغي لهما فقد كان همّ الحكومة يتمركز في الداخل، وفي قضيتين أساسيتين، هما: السلام والاقتصاد. وقبل البدء بهذين الملفين المهمين بدأت علاقات السودان مع بعض دول الغرب ومؤسساته تفتح أبوابها للسودان بابا بابا، وبدأ السودان ينفك من عقال الحظر الدولي عليه تدريجيا، وتبع ذلك حضور قوي ومشاركة فاعلة للسودان في بعض المؤتمرات والاجتماعات والمناسبات الدولية والإقليمية بعد غياب لسنين عددا عن هذه المحافل.
مثّل 3 فبراير 2020 إيذانا بدخول السودان إلى مرحلة جديدة غير متوقعة في علاقاته الدولية كان عنوانها الأبرز: “السودان يتهيء للتطبيع مع إسرائيل بعد نحو سبعة عقود من الممانعة”. وما كان لإعلام سوداني داخلي أن يتصدى لبت وإذاعة ونشر هذا الخبر الصادم للعقل الجمعي السوداني. الإعلام الإسرائيلي وحده الذي تسيّد الموقف في هذا المجال عندما كشف عن زيارة سرية قام بها رئيس المجلس السيادي السوداني عبد الفتاح البرهان إلى أوغندا. وأن تلك الزيارة شهدت اجتماعا بين البرهان ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو. دون أن يتم الإفصاح عما دار في ذلك الاجتماع . ولكن مكتب رئيس المجلس السيادي السوداني في اليوم التالي للقاء، لم يزد عن القول: “إنه تمّ في يوم 3 فبراير 2020 لقاء جمع بين البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي في أوغندا، وأن البرهان قام بهذه الخطوة من موقع مسؤوليته بأهمية العمل الدؤوب لحفظ وصيانة الأمن الوطني السوداني، وتحقيق المصالح العليا للشعب السوداني” . وهكذا تم تدشين عملية التطبيع مع إسرائيل دون مقدمات منطقية تهيئ الشعب السوداني لهذا الحدث الضخم.
لم يكن الشعب السوداني وحده المتفاجئ بقرار التمهيد للتطبيع فقد بدى أن الحكومة السودانية قد تفاجئت بالخطوة، وعبرت عن تلك المفاجأة بمقابلة تلك الخطوة بالرفض، وأن ما قام به البرهان لم يتم التشاور وإخطار مجلس الوزراء بلقاء رئيس المجلس السيادي برئيس الوزراء الإسرائيلي في عينتبي بأوغندا. ويبدو أن تلك الخطوة التي قامت بها الحكومة كانت ترمي إلى امتصاص الغضب المتوقع جراء الإعلان عن لقاء البرهان نتنياهو، لأن الحكومة تدرك في عقلها الباطن والظاهر خطورة هذا الإجراء، الذي لم يُمهد له التمهيد الكافي، فالنقلة المفاجئة من وضع إسرائيل في خانة “العدو”، التي تعبّر عن تراكمات تاريخية دينية، لم يكن من السهل الانتقال بها إلى خانة التطبيع. إن الحكومة السودانية كانت على علم ودراية بخطوة رئيس المجلس السيادي، وإلا لماذا، وبعد يومين فقط من اللقاء، أي في يوم 5 فبراير 2020 أعلنت موافقتها على تحليق طائرات إسرائيلية عبر أجوائها.
كيف قابلت القوى السياسية السودانية تدشين الخطوة الأولى التطبيع مع إسرائيل؟ من المعلوم تاريخيا أن قوانين الأحزاب في السودان وشعاراتها، وبرامجها الانتخابية وغيرها تخلو تماما من الإشارة إلى إمكانية التطبيع مع إسرائيل، بل تجرّمه، بل الغالبية العظمى كانت تحضّ على مناصرة القضية الفلسطينية، ودعمها. ومن هذا المنطلق، ربما، تمّ التأكيد من قبل قوى الحرية والتغيير، الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية، وإحدى أبرز القوى السياسية السودانية حاليا، على رفضها التطبيع مع إسرائيل. كما ندد حزب الشيوعي السوداني بلقاء البرهان نتنياهو، وكذلك فعل حزب الأمة القومي برئاسة السيد الصادق المهدي. وأما حزب المؤتمر الوطني، الذي تم حظره قبل أشهر قليلة فعبر عن ذلك اللقاء بالخيانة للبقاع المقدسة. ومن جهة أخرى أعقب لقاء البرهان نتنياهو خروج مظاهرات شعبية في الخرطوم، رافضة للتطبيع مع إسرائيل.
شهدت الفترة من منتصف فبراير 2020 إلى منتصف أغسطس 2020 انشغالا دوليا وإقليميا بجائحة كورونا. ولم يكن السودان استثناء في هذا المجال، فعلا صوت المعركة ضد هذا الوباء، ولم يعد لقضية التطبيع من ذكر معتبر سوى بعض الأخبار القليلة هنا وهناك، باستثناء خبر وفاة السفيرة نجوى قدح الدم، مهندسة اللقاء بين البرهان ونتنياهو، التي حاولت طائرة إسرائيلية هبطت في مطار الخرطوم لإنقاذها، ولكن المنية عاجلتها في 27 مايو 2020 حتى إذا جاء يوم الأربعاء 19 أغسطس 2020أصدر قرار بإعفاء الناطق الرسمي لوزارة الخارجية، مدير الإعلام فيها، على خلفية تصريحات له قال فيها: إن بلاده تتطلع لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل . ويبدو أن هذا السفير المقال أسرّ بما يدور في الخفاء بشأن العلاقات مع إسرائيل من قبل الحكومة الانتقالية بمكونيها: العسكري والمدني.
وبعد نحو شهر أو يزيد قليلا، وبالتحديد في 24 سبتمبر 2020 نقلت بعض التقارير الإعلامية الإقليمية، أن السودان وافق مبدئيا على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ولم تكن تلك الخطوة شيكا على بياض، وإنما بشروط اشترطها السودان، لعل أهمها: تنفيذ حزمة المطالب التي تقدم بها في مباحثات أبو ظبي (بدأت في 21 سبتمبر 2020)، إضافة إلى التفاوض على إصدار تشريع يضمن عدم ملاحقة الخرطوم في أي قضايا مستقبلية . وبعد يومين من موافقة السودان على التطبيع (أي في 26 سبتمبر 2020) أوردت وكالة السودان للأنباء، نقلا عن رويترز: أن رئيس وزراء السودان عبد الله حمدوك طالب بالفصل بين حذف اسم بلاده من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، على اعتبار أن حكومته الانتقالية لا تملك تفويضا لاتخاذ قرار بشأن التطبيع . ولكن هذا الطلب من قبل رئيس الوزراء لا يعني الكثير في ضوء الضغوط، التي تتعرض لها حكومته من قبل أمريكا، وبعض الدول العربية مثل الإمارات والسعودية، لإنجاز التطبيع في أسرع وقت.
وبمجيء شهر أكتوبر 2020 تكشفت حقائق أجندة التطبيع في أضابير الحكومة الانتقالية، ففي الثاني من هذا الشهر، اعترف نائب رئيس المجلس السيادي بأن السودان يرغب في علاقات مع إسرائيل، وليس تطبيعا، للاستفادة من إمكانياتها المتطورة . كما أن وزير الخاريجة السوداني المكلف اعترف بأن علاقة الخرطوم مع إسرائيل ما تزال خاضعة للنقاش، والسودان سيقوم بما تمليه عليه مصالحه .
يتضح مما تم سرده مدى الارتباك والارتجاف، اللذين أحاطا بالحكومة الانتقالية جراء اتخاذها قرارا بالتمهيد للتطبيع مع إسرائيل، والبحث عن التبرير له، وتسويقه. مع أن التطبيع واحد من القضايا التي لا تليق بمناقشتها في أجندة حكومة انتقالية، إضافة إلى هذه القضية تحتاج إلى مجلس تشريعي ليشرعنها، وهو مجلس ما يزال في رحم الغيب. إن الحكومة قبل غيرها تدرك أن هذا التطبيع يلزمه الكثير من تهيئة المناخ، بل يلزمها تهيئة الشخصية السودانية، ومدركاتها في الذاكرة الجمعية تجاه إسرائيل.
إن من حسن طالع الحكومة الانتقالية السودان، أن التغيير الذي سبقها، ولازمها، وما يزال يتفاعل مع معطيات الساحة السياسية السودانية، قد أفضى إلى بروز تيار جديد، لم يكن في الحسبان، قوامه الشباب، الذي أحدث هذا التغيير. ويصف هذا التيار نفسه بالعقلانية والموضوعية، ويرى أن موضوع التطبيع لا بد أن يناقش بعيدا عن العواطف، وبعيدا عن أطروحات التيار الآخر العاطفي الديني، الذي سيطر على المشهد لعقود عديدة، والذي يستند على النزعتين الدينية والعرقية، الرافضتين للتطبيع.
ترى بعد أوساط الحكومة أنه لا بد من طرح قراءة جديدة للساحة السودانية، التي يرى أنها متعطشة للتطبيع، وأنها دفعت ثمنا غاليا لمعاداتها لإسرائيل، في حين أن جيران السودان ومحيطه العربي، طبّع أو في طريقه للتطبيع، ويقول إن أصحاب المصلحة أنفسهم (الفلسطينيون) لهم علاقة وطيدة مع إسرائيل. وفي مضمار علاقة السودان مع إسرائيل يشير هذا التيار إلى ما مفاده أن التاريخ يشهد بأن السودان هو من اعتمد إسرائيل عدوا مباشرا بمشاركته في حروب مباشرة وغير مباشرة ضدها (في عام 1948، وفي عام 1967). غير أن هذا التيار يبين بأن دعوته للتطبيع، ووقوفه خلفها لا يعني بأي شكل من الأشكال بأنه مؤيد لسلوك دولة إسرائيل، أو أنه سوف يتخلى عن مناصرة الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه، وإقامة دولته.

التطبيع مع إسرائيل: الفرص والتحديات والسيناريو المستقبلي:
بتغليب سياسة المصالح على المباديء في العلاقات الدولية في سودان ما بعد ثورة ديسمبر 2018، وببروز تيار عريض، يعتبر المخرج والخلاص لأزمات السودان المتلاحة، منذ استقلاله عن بريطانيا في عام 1956يتمثل في إقامة علاقات طبيعية مع دولة إسرائيل، يضحى المناخ مهيئا للتطبيع، فما الفرص المتاحة؟ وما التحديات المتوقع مواجهتها لعملية التطبيع؟

إن أهم الفرص الداعمة للتطبيع، تتضح في تهيئة المناخ له، وتقوم هذه التهيئة على عدد من النقاط، لعل أهمها:

1. الضائقة الاقتصادية، التي أفقرت نسبة عالية من سكان السودان، وقد تمظهرت هذه الضائقة في أزمات عديدة في حياة الناس اليومية، لا سيما في شخ الخبز، وشح الوقود… والغلاء المتزايد…، حتى أن التضحم وصل في شهر سبتمبر 2020 إلى 212%، وكان وقت قيام ثورة ديسمبر 2018 في حدود 60%.

2. بروز تيار مناهض للعروبة والإسلام، باعتبارهما، في نظره، مناهضين للتطبيع.

3. موجة كراهية لتيار الإسلام السياسي، بسبب ممانعته للتطبيع، وبسبب، إخفاق تجربته في حكم السودان لثلاثة عقود، في رأي البعض.

4. اكتمال أو شبه اكتمال حلقة التطبيع في الدول التي تجاور السودان، أو تلك التي تقع في محيطه العربي والإقليمي.

أما فيما يخص أهم التحديات، التي يتوقع أن تواجه مسيرة التطبيع مع إسرائيل فتتمثل في:

1. العداء التاريخي لإسرائيل، الذي ترسخ عبر أجيال وأجيال في ذهنية الشخصية السودانية.

2. المجازفة بالإسراع في التطبيع، دونما تفكر في العواقب، فربما لا يكون هذا التطبيع حلا لأزمات السودان المتلاحقة، خصوصا المشكل الاقتصادي الحالي.

وإذا كانت المبرر الرئيس لهذا التطبيع بتمحور في أنه قد يصبح جسرا لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة والأمريكية، ودول الاتحاد الأوروبي عموما، والمؤسسات الدولية، وبالتالي كسر الحصار المفروض على السودان، علاوة على رفع السودان من القائمة الأمريكية الداعمة للإرهاب، وإعفائه من ديوانه التي تجاوزت الـ 60 مليار دولار فإن ذلك غير مضمون وقد يخضع لعملية ممطالة طويلة تفقده جدواه. ما أن نقطة الضعف فيه أنه سيحدث شرخا غائرا في مدركات الشخصية السودانية.

المهم، إذا استمر الوضع على ما هو عليه حاليا فإن التطبيع قائم، وسيمثل سياسة الأمر الواقع، الذي لا بد منه، بحكم جاهزية الميدان لللاعب المحلي (الحكومة الانتقالية، وبعض أحزابها، إضافة إلى تيار العقلانية والموضوعية، والتيار الكاره للإسلام السياسي). وجاهزية الميدان لللاعب الخارجي (الولايات المتحدة، وبعض دول الغرب ومؤسساته). وجاهزية الميدان لللاعب الإقليمي (دول الجوار ذات العلاقة الوطيدة بإسرائيل، إضافة إلى بعض الدول العربية).

صحيح أن سيناريو التطبيع الفوري والمكتمل قد يتأخر بعض الوقت، بسبب حجج مؤقتة، مثل: حجة أن الحكومة الانتقالية غير مفوضة في هذا الأمر، أو بحجة عدم وجود برلمان تشريعي، أو بحكم حجة عدم ربط التطبيع بتحسين العلاقة مع الولايات المتحدة. الحق أن هذه الحجج على صحتها ومنطقيتها، تظل مسكنات، أو على ما يبدو مجرد فعل لا إرادي من الحكومة الانتقالية للتعامل مع واقع لم تكتمل صور مشهده بعد.

أفروبوليسي

المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) مؤسسة مستقلة تقدم دراسات وأبحاثاً حول القضايا الأفريقية لدعم صناع القرار بمعرفة دقيقة وموثوقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى