إصداراتتحليلات

سياسة إغراق إفريقيا بالديون الصينية: بين تحديات السيادة والاستقلال الاقتصادي

إعداد: محمد زكريا: مدير الأبحاث بالمركز

تمهيد
مع استمرار توسع مشاركة الصين الاقتصادية مع دول القارة الإفريقية، أثيرت مخاوف بشأن التأثيرات المحتملة لممارسات الإقراض الصينية على الاقتصادات الإفريقية. ومن ضمن القضايا التي حظيت باهتمام كبير هي ظاهرة “الإغراق بالديون”؛ حيث تقدم الصين قروضا  للدول  الإفريقية  بشروط غير مواتية، مما يؤدي إلى نشوء أعباء ديون لا يمكن تحملها، ومن ثم الاعتماد الاقتصادي على الصين.

وفقا لبنك التنمية الإفريقي، ارتفع إجمالي تمويل الصين لإفريقيا من 10 مليارات دولار في عام 2000 إلى أكثر من 143 مليار دولار في عام 2018، واتخذ معظم هذا التمويل شكل قروض. بينما أسهم الإقراض الصيني في تطوير البنَى التحتية والنمو الاقتصادي في بعض الدول الإفريقية؛ ولكنه في الوقت ذاته أثيرت مخاوف بشأن التأثير المحتمل لممارسات الإقراض في الصين على الاستدامة الاقتصادية للقارة على المدى الطويل.
يشير مصطلح “الإغراق بالديون” إلى ممارسات تقديم القروض للدول الأخرى بشروط غير واضحة ومضبوطة، غالبا ما تكون بمعدلات فائدة مرتفعة وفترات سداد قصيرة، والعكس صحيح. في سياق العلاقات الصينية الإفريقية، نجد مصطلح “الإغراق بالديون” متداول في نطاق واسع باعتباره قضية مهمة؛ حيث تواجه العديد من الدول الإفريقية في الوقت الراهن أعباء  ديون متزايدة، وتشهد بعضها  ضائقة ديون محتملة.
وبالتالي، فإنّ قضية إغراق الصين للدول الإفريقية بالديون، ودراسة دوافعها وتأثيراتها على الاقتصادات الإفريقية هي الهدف الذي تسعى هذه الورقة إلى تحقيقه. فضلا عن استكشاف استجابات السياسات المحتملة والتداعيات الجيوسياسية الأوسع لمشاركة الصين الاقتصادية عبر بوابة “الديون” في المنطقة. ومن خلال هذا التحليل، سنقدّم رؤى وتوصيات لصانعي السياسات والباحثين وأصحاب المصالح المختلفة الذين يسعون إلى تعزيز النمو الاقتصادي المستدام والتنمية في إفريقيا.
ولتحقيق ذلك، قُسّمتْ هذه الورقة إلى أربعة أقسام رئيسة، كل قسم يعالج نقطة محددة ضمن حلقة موضوع الإغراق الصيني للقارة الإفريقية بالديون. في القسم الأول، سيُسَلَّط الضوء على “النهج الصيني في إغراق إفريقيا بالديون”؛ بحثاً عن الدوافع، والتعرف على التأثيرات. بينما يبحث القسم الثاني في “الاستجابات لسياسة إغراق إفريقيا بالديون الصينية والسياسات المتبعة”؛ فإن القسم الثالث سيتعرف على “التكتيكات الصينية الجيوسياسية وسياسة الإغراق بالديون في القارة”. ثم يأتي القسم الرابع، والأخير، ليختم الورقة ويقدم توصيات لأصحاب المصالح المختلفين.

أولا: النهج الصيني في إغراق إفريقيا بالديون: الدوافع والتأثيرات
يناقش هذا القسم أسباب وآثار إغراق الصين لإفريقيا بالديون، فيشرح كيف كانت البنوك المملوكة للدولة (الحكومة الصينية) هي المصدر الرئيس لتمويل العديد من مشاريع البنى التحتية في إفريقيا، وكيف تأتي القروض التي تقدمها هذه البنوك في كثير من الأحيان مصحوبة بشروط تحُدّ من قدرة الدول الإفريقية على تطوير صناعاتها المحلية.
كما سيسلط القسم الضوء -أيضا- على المخاوف بشأن تأثير قروض الصين على الاقتصادات الإفريقية، بما في ذلك احتمالية نشوء ضائقة ديون وخطر وقوع بعض الدول الإفريقية في “فخ الديون”، وبالتالي يتعذر عليها سداد ديونها للصين لاحقا.
فضلا عن ذلك، ناقش القسم التأثير المحتمل لإغراق الصين إفريقيا بالديون على السيادة الإفريقية وأجندة 2063 للاتحاد الإفريقي، بما في ذلك مخاطر مواءمة الدول الإفريقية مع الأهداف السياسية للصين مقابل التمويل، والتحويل المحتمل للموارد بعيدا عن جهود الاتحاد الإفريقي لتعزيز النمو الاقتصادي المستدام والتكامل الإقليمي.

أ – دور البنوك الصينية الحكومية في إقراض الدول الإفريقية
كانت مشاركة الصين الاقتصادية مع إفريقيا مدفوعة برغبة الأولى في تأمين الوصول إلى الموارد الطبيعية، وتوسيع نفوذها العالمي، وتعزيز تنميتها الاقتصادية (Ampah & Zhang، 2017). وكانت البنوك المملوكة للحكومة الصينية، مثل بنك التصدير والاستيراد الصيني وبنك التنمية الصيني، المصدر الرئيس لتمويل العديد من مشاريع البنية التحتية في إفريقيا. وغالبا ما تُوجَّه هذه البنوك من قبل الحكومة الصينية لتقديم قروض للدول الإفريقية لتمويل مشاريع محددة، مثل الطرق والسكك الحديدية والموانئ (Kaplinsky، 2018).
ومع ذلك، فقد أثار الافتقار إلى الشفافية وإعطاء الأولوية للأهداف السياسية على الجدوى الاقتصادية من قبل البنوك المملوكة للحكومة الصينية مخاوف بشأن استدامة قروض الصين للدول الإفريقية. فضلا عن ذلك، كانت هناك اتهامات موجهة إلى الصين بخصوص “المساعدة المقيدة”، حيث تُقَدَّم القروض بشرط أن تستأجر الدولة المستفيدة شركات صينية للمشروع، مما يحدّ من قدرة الدول الإفريقية على تطوير صناعاتها المحلية الخاصة (Brautigam، 2011).

ب – دبلوماسية مصيدة الديون ومخاطرها على الاقتصادات الإفريقية
في آن واحد، تشكل مخاطر أزمة الديون ودبلوماسية فخ الديون مصدر قلق كبير للدول الإفريقية، وقد تؤثر سلبا على اقتصاداتها. فعلى عكس القروض التقليدية للشركاء الغربيين، اتسمت القروض الصينية الموجهة للدول الإفريقية بمعدلات فائدة منخفضة وطول فترات السداد، والتي بدت في الوهلة الأولى جاذبة للحكومات الإفريقية. ومع ذلك، غالبا ما تأتي قروض الصين بشروط صارمة، بما في ذلك استخدام الشركات الصينية والعمالة لتنفيذ المشروعات، واستخدام الموارد الطبيعية كضمان. سببت هذه الظروف مخاوف بشأن تأثير قروض الصين على الاقتصادات الإفريقية بشكل سلبي، مثل ارتفاع معدلات البطالة، وانتشار الفساد وسوء الإدارة (Geda & Shifa، 2019).
فضلا عن ذلك، جادل بعض المحللين بأن قروض الصين تساهم في أزمة الديون في إفريقيا. وفقًا لصندوق النقد الدولي، ارتفع متوسط نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لدول إفريقيا جنوب الصحراء من 38٪ في عام 2012 إلى 54٪ في عام 2018، مع وجود مستويات دين أعلى بكثير في بعض الدول (IMF، 2019). وقد أثار ذلك مخاوف بشأن احتمالية حدوث ضائقة ديون وخطر وقوع الدول الإفريقية في “فخ الديون”، حيث تكون غير قادرة على سداد ديونها للصين وتضطر إلى التنازل عن السيطرة على الأصول الاستراتيجية للحكومة الصينية (Kurlantzick، 2018).

ج – التأثير المحتمل على سيادة الدول الإفريقية وجدول أعمال الاتحاد الإفريقي 2063
يعد التأثير المحتمل لسياسة الإغراق بالديون الصينية تجاه إفريقيا على سيادة الدول الإفريقية وجدول أعمال الاتحاد الإفريقي 2063 أحد الاعتبارات المهمة أيضا في هذا السياق. إذْ ذهب بعض الخبراء إلى أنّ سياسة الإقراض الصينية في إفريقيا وممارساتها يمكن أن تقوض السيادة الإفريقية من خلال تمكين الصين من ممارسة نفوذ سياسي واقتصادي على الدول الإفريقية. على سبيل المثال، رُبطت بعض القروض الصينية بشروط سياسية، مثل دعم مطالب الصين الإقليمية أو الموافقة على قطع العلاقات مع تايوان (Brautigam، 2020). وقد أدى ذلك إلى حدوث مخاوف من أن الدول الإفريقية قد تضطر إلى التوافق مع الأهداف السياسية للصين مقابل التمويل الذي تشتد الحاجة إليه.
فضلا عن ذلك، فإن استثمار الصين في إفريقيا لديه القدرة على تحويل الموارد بعيدا عن أجندة الاتحاد الإفريقي 2063، والتي تهدف إلى تعزيز التكامل الاقتصادي الإفريقي والتنمية. إذا أصبحت الدول الإفريقية مثقلة بالديون للصين، فقد تضطر إلى إعطاء الأولوية لسداد هذه الديون على الاستثمار في مشاريع التنمية طويلة الأجل. وهذا يمكن أن يقوض جهود الاتحاد الإفريقي لتعزيز النمو الاقتصادي المستدام والتكامل الإقليمي الذي يعمل من أجله منذ تأسيسه.
في نهاية المطاف، يمكن القول أن سياسة الإغراق بالديون التي تتبعها الصين خاصة في علاقاتها مع القارة الإفريقية لها آثار قصيرة وطويلة الأجل على الاقتصادات الإفريقية وعلاقتها مع الصين. في حين أن استثمارات الصين لديها القدرة على دفع النمو الاقتصادي وتطوير البنية التحتية في إفريقيا، إلا أن شروط وأحكام القروض والاستثمارات الصينية أثارت مخاوف باحتمالية نشوء ضائقة ديون، والحد من خلق فرص العمل، وإمكانية ممارسة الصين نفوذا سياسيا واقتصاديا لا داعي له على الدول الإفريقية.  فمع استمرار الدول الإفريقية في السعي وراء الاستثمار الأجنبي، من المهم لصناع السياسات أن ينظروا بعناية في الفوائد والمخاطر المحتملة للعمل مع الصين خصوصا.

ثانياً: الاستجابات لسياسة إغراق إفريقيا بالديون الصينية والسياسات المتبعة
ترافقت المشاركة الاقتصادية المتزايدة للصين مع الدول الإفريقية مع مخاوف بشأن أعباء الديون التي لا يمكن تحملها. وقد انجذبت الدول الإفريقية، ولا سيما تلك التي لديها وصول محدود إلى مصادر التمويل التقليدية، إلى قروض الصين، والتي غالبا ما تأتي بشروط أقل وأسعار فائدة أقل من تلك التي يقدمها الدائنون الغربيون. ومع ذلك، فإن التراكم السريع للديون قد أثار تساؤلات حول القدرة طويلة الأجل على استدامة الاقتصادات الإفريقية وقدرتها على سداد ديونها. فيما يلي، سنناقش استجابة الدول الإفريقية لمعضلة الإغراق بالديون، وموقف شراء القارة التقليديين، والمؤسسات الدولية.

(أ) الاستجابة الإفريقية لسياسة الإغراق الصينية بالديون
لقد استجابت الدول الإفريقية لمسألة الإغراق بالديون بطرق مختلفة، بما في ذلك إعادة هيكلة الديون، وإنشاء آليات لتخفيف الديون. على سبيل المثال، قامت كينيا، من أكبر الاقتصادات في إفريقيا وأسرعها نموا[1]، مؤخرا بإعادة التفاوض بشأن اتفاقية قرض مع الصين، مما أدى إلى خفض سعر الفائدة ومدّد فترة السداد. من ناحية أخرى، واجهت زامبيا صعوبات في سداد قروضها الصينية واضطرت إلى السعي لإعادة هيكلة الديون. ووفقا لـ Karingi وآخرين (2018)، “إعادة هيكلة الديون هي استجابة مشتركة من جانب الدول الإفريقية لإغراق الصين القارة الإفريقية بالديون” (ص 6).
وفي السياق نفسه، اتخذت دول إفريقية أخرى خطوات لمعالجة هذه القضية، بما في ذلك إعادة هيكلة الديون وإنشاء آليات لتخفيفها. على سبيل المثال، في عام 2019، تفاوضت أنغولا على صفقة لإعادة هيكلة الديون مع الصين، مما أدى إلى خفض عبء ديونها ومدد فترة السداد. وبالمثل، في عام 2020، حصلت إثيوبيا على إعفاء من الديون من دول مجموعة العشرين ونادي باريس للتخفيف من أزمة ديونها. علاوة على ذلك، دعا الاتحاد الإفريقي إلى وضع آليات لتخفيف الديون لمساعدة الدول الإفريقية في إدارة أعباء ديونها (الاتحاد الأفريقي، 2021). وفقًا لـ Adesina (2021)، “تحتاج الدول الإفريقية إلى تخفيف عبء الديون، وليس مجرد تعليق الديون” (الفقرة 10).
كما أنشأت الدول الإفريقية آليات لتخفيف الديون، مثل مبادرة تعليق خدمة الديون (DSSI)، التي أطلقتها مجموعة العشرين استجابة لوباء كوفيد-19. حيث يسمح مؤشر DSSI للدول المؤهلة بتعليق مدفوعات خدمة الديون لدائنيها الثنائيين الرسميين، بما في ذلك الصين، حتى نهاية عام 2021م. ومع ذلك، انتقد بعض القادة الأفارقة المبادرة لعدم بذلها جهودا كافية ودعوا إلى برنامج دائم لتخفيف الديون.

(ب) الاستجابات الدولية  لسياسة الإغراق بالديون الصينية
لقد استجاب المجتمع الدولي لمسألة الإغراق بالديون بطرق مختلفة، بما في ذلك الإعفاء من الديون ومقايضات الديون بالطبيعة. وقد استُخدم الإعفاء من الديون، والذي يتضمن إلغاء بعض أو كل ديون بلد ما، في الماضي لمعالجة أزمات الديون في إفريقيا. على سبيل المثال، في عام 2005، ألغت دول مجموعة الثماني ديون 18 دولة إفريقية، بلغ مجموعها 40 مليار دولار أمريكي.
كما استُخدمت مقايضات الديون مقابل الطبيعة، والتي تتضمن إلغاء ديون دولة ما مقابل جهود الأمن والسلام، في إفريقيا. على سبيل المثال، في عام 2010م، وقعت الولايات المتحدة ومدغشقر اتفاقية مقايضة الديون مقابل الحفاظ على البيئة الطبيعية، والتي ألغت 25 مليون دولار من الديون مقابل حماية الغابات المطيرة في مدغشقر.

(ج) دور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي
لعب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي دورا ، يُسْتحسن ذكره في هذا المقام، في معالجة قضية الإغراق بالديون في إفريقيا. حيث قدم صندوق النقد الدولي مساعدة مالية للدول الإفريقية التي تواجه أزمات ديون، وشجع الدول على تنفيذ إصلاحات اقتصادية لتحسين قدرتها على تحمل الديون. وقدم البنك الدولي قروضا ومساعدات فنية للدول الإفريقية لدعم تنميتها الاقتصادية وشدد على أهمية القدرة على تحمل الديون.
ومع ذلك، انتقد بعض القادة الأفارقة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لفرضهما شروطا قاسية على قروضهما ولتشجيعهما للسياسات التي أدت إلى تراكم الديون. وهم يجادلون بأن هذه المؤسسات لم تفعل ما يكفي لمعالجة قضية ممارسات الديون غير العادلة من قبل الدائنين الغربيين، وركزت أكثر من اللازم على تعزيز السياسات الاقتصادية النيوو ليبرالية.

(د) غياب الشفافية والمساءلة في ممارسات الإقراض الصيني
سلطت قضية الإغراق بالديون الصينية في إفريقيا الضوء على الحاجة إلى زيادة الشفافية والمساءلة في ممارسات الإقراض الصيني. وعلى إثر ذلك، دعت الدول الإفريقية إلى مزيد من الشفافية في اتفاقيات القروض وإلى إشراك المؤسسات الإفريقية في إدارة القروض. واتخذت الصين بعض الخطوات لمعالجة هذه المخاوف، مثل نشر معلومات عن قروضها وإشراك المؤسسات الإفريقية في إدارة القروض. ومع ذلك، ما زال بعض القادة الأفارقة يؤكدون على أنه يجب بذل المزيد من الجهد لضمان استدامة قروض الصين وإفادة الاقتصادات الإفريقية على المدى الطويل.
إن قضية إغراق الصين إفريقيا بالديون معقدة ومتعددة الأوجه، وتتطلب نهجا دقيقا يوازن بين التنمية الاقتصادية وإدارة الديون المستدامة. ويجب على الدول الإفريقية إعطاء الأولوية للاستثمارات التي تدُرّ الإيرادات، وتعزز خلق فرص العمل والنمو الاقتصادي، مع تطوير استراتيجيات إدارة الديون المستدامة. ويجب أن تتبنى الصين نهج إقراض مسؤول يأخذ في الاعتبار الظروف الخاصة لكل دولة إفريقية، ويعزز نقل التكنولوجيا والمهارات لتمكين التنمية الاقتصادية المستدامة. وللمجتمع الدولي دور حاسم في تعزيز التعددية ودعم الدول الإفريقية في جهودها لإدارة الديون بشكل مستدام.
باختصار، تتطلب معالجة قضية إغراق الصين القارة الإفريقية بالديون نهجا متعدد الأوجه يشمل الدول الإفريقية والصين والمجتمع الدولي. ويجب على الدول الإفريقية تطوير استراتيجيات إدارة الديون المستدامة وإعطاء الأولوية للاستثمارات التي تعزز النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. يجب أن تتبنى الصين نهج إقراض مسؤول وأن تعزز نقل التكنولوجيا والمهارات لتمكين التنمية الاقتصادية المستدامة، وعلى المجتمع الدولي تعزيز التعددية ودعم الدول الإفريقية في جهودها لإدارة الديون بشكل مستدام، مع معالجة القضايا الهيكلية التي تسهم في أزمات الديون في إفريقيا.

ثالثا: التكتيكات الصينية الجيوسياسية وسياسة الإغراق بالديون
لقد نمت العلاقات بين الصين وكثير من الدول الإفريقية بمعدلات غير مسبوقة خلال العقد الماضي مصحوبة بتوسع حضور صيني اقتصادي في ربوع القارة تقريبا. قوبل هذا التوسع بالنقد والإعجاب في آن واحد من جهات مختلفة. ومن المجالات المثيرة للقلق التي حظيت باهتمام متزايد، ممارسات سياسة الإغراق بالديون.
كما أسلفنا، يستخدم مصطلح ” إغراق الديون”. لوصف ممارسة إقراض الأموال لبلد ما بمستويات غير مستدامة، بهدف اكتساب نفوذ سياسي أو السيطرة على الأصول الاستراتيجية. في هذا القسم، سنناقش التداعيات الجيوسياسية لإغراق الديون الصينية في إفريقيا. على وجه التحديد، سنقوم بتحليل تأثيرها على علاقات إفريقيا مع القوى العالمية الأخرى، وإمكانية زيادة المنافسة والصراع، وآثارها على المصالح الاستراتيجية الأوسع للصين في القارة.

أ- التأثير على علاقات إفريقيا مع القوى العالمية الأخرى
أثار موضوع إغراق الصين لإفريقيا بالديون مخاوف وقلق القوى العالمية الأخرى، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وتنبع هذه المخاوف من حقيقة أن سلوك الصين في الإقراض غالبا ما يكون مرتبطا بمشاريع بنية تحتية محددة تتطلب أن تكون الشركات الصينية هي المقاول الأساسي لتنفيذ المشاريع. وقد أدى ذلك إلى اتهامات بالاستعمار الجديد، وتأكيد المخاوف بشأن إمكانية اكتساب الصين لأصول استراتيجية في إفريقيا.
نتيجة لذلك، زادت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من استثماراتهما في إفريقيا لموازنة الوجود الاقتصادي المتنامي للصين. على سبيل المثال، في عام 2018،أطلقت الولايات المتحدة مبادرة (Prosper Africa) التي تسعى إلى تعزيز الاستثمار الأمريكي في إفريقيا وزيادة العلاقات الاقتصادية بين المنطقتين. وبالمثل، أطلق الاتحاد الأوروبي خطة الاستثمار الخارجي، التي تهدف إلى زيادة الاستثمار الخاص لدعم التنمية المستدامة في إفريقيا. إذْ تعتبر هاتين المبادرتين مثالا حياّ يعبر عن  قلق القوى الغربية بشأن النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين في إفريقيا.

ب- إمكانية زيادة المنافسة والصراع على القارة الإفريقية
كما أثار سلوك الصين الرامي إلى إغراق القارة الإفريقية بالديون مخاوف عديدة بشأن زيادة المنافسة والصراع في المنطقة. فمع استمرار الصين في الاستثمار في مشاريع البنية التحتية في إفريقيا، لوحظ انخفاض نمو الأعمال التجارية المحلية في العديد من دول القارة، واتهمت الصين بتقويضها وخلق ساحة لعب غير متكافئة. وقد أدى ذلك إلى توترات بين الصين وبعض الدول  الإفريقية، وكذلك بين الدول الإفريقية نفسها.
يمكن أن نضرب أمثلة هنا. فعلى سبيل المثال،  في كينيا، مُنحت شركة صينية عقدًا لبناء خط سكة حديد من نيروبي إلى مومباسا، الأمر الذي أدى إلى احتجاجات من الشركات المحلية التي ادعت أنها لم تُمنح فرصة عادلة لتقديم عطاءات للمشروع. . وفي إثيوبيا أيضا، اتُهمت الشركات الصينية باستغلال العمالة المحلية وعدم الالتزام بالمعايير البيئية.

ت- تداعيات سياسة الإغراق بالديون على مبادرة الحزام والطريق ومصالح الصين الاستراتيجية
ترتبط سياسة الإغراق بالديون الصينية ارتباطا وثيقا بمبادرة الحزام والطريق الأوسع نطاقا، والتي تسعى إلى ربط الصين بأوروبا وإفريقيا وآسيا من خلال شبكة من مشاريع البنى التحتية. وتعدّ إفريقيا مكونا أساسيا في مبادرة الحزام والطريق؛ حيث أنها موطن لبعض الاقتصادات الأسرع نموا في العالم، وغنية بالموارد الطبيعية. ومع ذلك، فقد تثير سياسة الإغراق بالديون الصينية في إفريقيا مخاوف بشأن استدامة مبادرة الحزام والطريق وآثارها الاستراتيجية طويلة الأجل. وقد حذر بعض الخبراء من أن النفوذ الاقتصادي المتزايد للصين في إفريقيا قد يؤدي إلى رد فعل عنيف، حيث تسعى الدول الإفريقية إلى تأكيد استقلالها ومقاومة الهيمنة الصينية.
في نهاية المطاف، يمكننا أن نخلص إلى أنّ السياسة الصينية الهادفة إلى إغراق القارة الإفريقية بالديون أثارت مخاوف بين القوى العالمية الأخرى، وخلقت توترات بين الصين والدول الإفريقية، ولها تداعيات محتملة على استدامة مبادرة الحزام والطريق والمصالح الاستراتيجية الأوسع للصين في المنطقة. مع استمرار الصين في الاستثمار في إفريقيا، من المهم لجميع أصحاب المصلحة العمل معًا لضمان أن هذه الاستثمارات مستدامة ومفيدة لكل من الصين وأفريقيا. سيتطلب ذلك الشفافية والمساءلة والتركيز على التنمية المستدامة. من خلال العمل معًا، يمكن للصين والدول الإفريقية والقوى العالمية الأخرى إنشاء سيناريو مربح للجانبين يعود بالفائدة على جميع المعنيين.

رابعا: الخاتمة والتوصيات
في ضوء المخاوف المتزايدة بشأن الوجود المتزايد للصين في إفريقيا وتأثير سياسة الإغراق بالديون على القارة، من الضروري بالنسبة للدول الإفريقية والصين والمجتمع الدولي اعتماد نهج دقيق في العلاقات الصينية الإفريقية. لا ينبغي تجاهل إمكانية زيادة المنافسة والصراع في إفريقيا نتيجة للهيمنة الاقتصادية للصين. إذ يجب على الدول الإفريقية أن توازن بين الحاجة إلى التنمية الاقتصادية والإدارة المستدامة للديون لضمان عدم تحميلها أعباء ديون لا يمكن تحملها.
وهذا يتطلب من الدول الإفريقية توخي الحذر في ممارسات الاقتراض والتأكد من أنها ليست مثقلة بالديون التي لا يمكنها سدادها. بالإضافة إلى ذلك، يجب على متخذي القرار التفاوض بشأن الشروط والأحكام المواتية لقروضهم، بما في ذلك الشفافية في اتفاقيات القروض وزيادة مشاركة المؤسسات الإفريقية في إدارة القروض.
فيما يلي، يمكننا تقديم توصيات بشأن السياسات لجميع أصحاب المصلحة لمعالجة قضية إغراق الديون وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام في  إفريقيا.

التوصيات
مع استمرار مشكلة إغراق الديون في فرض تحديات على النمو الاقتصادي المستدام في إفريقيا، هناك حاجة ملحة لوضع توصيات بشأن السياسات لجميع أصحاب المصلحة لمعالجة قضية الإغراق بالديون وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام في إفريقيا. روعي في صياغة هذه التوصيات معالجة الظروف الخاصة  للدول الإفريقية، مع تعزيز نهج الإقراض المسؤول من الصين ودعم المجتمع الدولي.  وفي هذا الصدد، تعتبر التوصيات السياساتية للدول الإفريقية والصين والمجتمع الدولي ضرورية لتعزيز إدارة الديون المستدامة والنمو الاقتصادي في القارة:
1- بالنسبة للدول  الإفريقية، هناك حاجة ماسة إلى تطوير استراتيجيات إدارة الديون المستدامة وتعزيز التنويع الاقتصادي. إذْ ينبغي للدول الإفريقية إعطاء الأولوية للاستثمارات التي تدر الدخل وتعزز خلق فرص العمل والنمو الاقتصادي. كما يتعين على الدول الإفريقية تطوير شراكات أقوى مع الصين من خلال المشاركة الفعالة في منتدى التعاون الصيني الإفريقي (FOCAC)  وغيره من المنصات، آخذين في الاعتبار مصالحهم القومية.
2- بالنسبة للصين، من الضروري اعتماد نهج إقراض مسؤول يأخذ في الاعتبار الظروف الخاصة لكل دولة إفريقية. إذا أرادت الصين أن تتفادي المشكلات المستقبلية وإثارة شعوب القارة عليها لا بد أن تضمن الشفافية في اتفاقيات القروض وإشراك المؤسسات الإفريقية في إدارة القروض. كما يتعين عليها أن تعزز نقل التكنولوجيا والمهارات إلى الدول الإفريقية لتمكينها من تنمية اقتصاداتها على نحو مستدام.
3- بالنسبة للمجتمع الدولي، هناك حاجة إلى تعزيز التعددية ودعم الدول الإفريقية في جهودها لإدارة الديون بشكل مستدام.  فيجب على المؤسسات متعددة الأطراف، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تقديم المساعدة الفنية للدول الإفريقية لتحسين  ممارساتها في إدارة الديون.  فضلا عن ذلك، ينبغي عليهم تقديم الدعم المالي  للدول الإفريقية لمساعدتها على التعافي من الأثر الاقتصادي لوباء COVID-19. على شكل استثمارات طويلة الأمد وليست معونات مالية.
في الختام، من الضروري لجميع أصحاب المصالحفي إفريقيا اعتماد نهج دقيق للعلاقات الصينية الإفريقية يوازن بين التنمية الاقتصادية وإدارة الديون المستدامة. فيجب على الدول الإفريقية إعطاء الأولوية للنمو الاقتصادي المستدام، وتوخي الحذر في ممارسات الاقتراض غير العادلة وغير الشفافة. ويجب أن تتبنى الصين نهج إقراض مسؤول، وأن تعزز نقل التكنولوجيا والمهارات إلى الدول الإفريقية. كما يجب على المجتمع الدولي تقديم الدعم التقني والمالي للدول الإفريقية لتحسين ممارسات إدارة الديون وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام في إطار المصلحة المتبادلة.
فمن خلال العمل على تحقيق المصالح المشتركة يمكن ضمان أن استثمار الصين في إفريقيا يكون مفيدا للقارة الإفريقية والصين نفسها على المدى الطويل. أما عكس ذلك، فقد تفقد الدول الإفريقية التي تتعامل مع الصين سيادتها أو استقلال اقتصادها ومن ثم يأتي يوم تثور فيه الأجيال اللاحقة وقد يحصل ما لا يحمد عقباه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر والمراجع

Adesina, A. (2021). Opinion: African countries need debt relief, not just debt suspension. CNN. Retrieved from https://www.cnn.com/2021/04/12/opinions/debt-relief-african-countries-need-adesina/index.html

Adesina, A. (2021). Opinion: African countries need debt relief, not just debt suspension. CNN. Retrieved from https://www.cnn.com/2021/04/12/opinions/debt-relief-african-countries-need-adesina/index.html

African Union. (2021). AU calls for debt relief for Africa. Retrieved from https://au.int/en/pressreleases/20210308/au-calls-debt-relief-africa

Brautigam, D. (2011). China’s African aid: Transatlantic challenges. African Affairs, 110(439), 587-605.

Brautigam, D. (2019). The Dragon’s Gift: The Real Story of China in Africa. Oxford University Press.

Brautigam, D. (2020). Will China’s pandemic-related debt relief for Africa just kick the can down the road? The Conversation. Retrieved from https://theconversation.com/will-chinas-pandemic-related-debt-relief-for-africa-just-kick-the-can-down-the-road-144122

Brautigam, D., & Tang, X. (2019). China-Africa research initiative data: Chinese loans and investments in Africa. China-Africa Research Initiative, Johns Hopkins University. https://static1.squarespace.com/static/

De Haas, H. (2017). Chinese loans, African borrowers? Emerging patterns in the globalisation of China

Geda, A., & Shifa, A. (2019). Assessing the impact of China’s debt on Africa’s sustainable development. China Economic Journal, 12(1), 65-82.

Kaplinsky, R. (2018). A new phase in China’s engagement with Africa: Manufacturing-led development. Journal of International Development, 30(2), 169-186.

Kaplinsky, R. (2018). China and Africa: How economic cooperation could better promote development. World Development, 106, 136-148.

Karingi, S., Oulmane, N., Lang, R., & Ben Hammouda, H. (2018). Debt sustainability and development in Africa. African Development Bank.

Kurlantzick, J. (2018). China’s debt-trap diplomacy. Foreign Affairs, 97, 44-53.

Manji, F. (2021). Debt diplomacy and the paradox of China-Africa relations. Journal of Contemporary African Studies, 39(2), 207-221.

Taylor, I. (2019). China’s new role in Africa and the South: A search for a new place in the world order? The Journal of International Affairs, 72(1), 1-16.

United Nations Economic Commission for Africa. (2019). Agenda 2063: The Africa We Want. Retrieved from https://au.int/sites/default/files/documents/36435-doc-agenda_2063_popular_version_en.pdf

[1] أكبر 5 اقتصادات في إفريقيا جنوب الصحراء تعتبر الأاسرع نموا عالميا عام 2023، أفريكا تريندز:

https://afrikatrends.com/%d8%a3%d9%83%d8%a8%d8%b1-5-%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%af%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a%d8%a7-%d8%ac%d9%86%d9%88%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%ad%d8%b1%d8%a7%d8%a1/

محمد زكريا فضل

أكاديمي اقتصادي، مهتم بقضايا إفريقيا الاقتصادية والاجتماعية. مدير الأبحاث والدراسات بالمركز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى