عودة الانقلابات إلى الواجهة في أفريقيا.. من يوقف سقوط أحجار الدومينو؟

محمد صالح عمر
مدير آفروبولسي

وفقا لمؤشر هشاشة الدول، هناك 15 دولة أفريقية من أصل 20 دولة تتصدر مؤشر الدول الهشة لعام 2021 على مستوى العالم، وهو ما يشير إلى تزايد احتمالات حدوث الانقلابات في أفريقيا وتوسع فرصها.

تشهد القارة الأفريقية في السنوات الأخيرة تحولات دراماتيكية قلبت كل التوقعات، وكذّبت تفاؤل الشعوب الأفريقية، وأجهضت نضالاتها في التحرر والنماء والبناء، بعودة لعنة الانقلابات واستيلاء الجيوش على السلطة، وإلغاء الدساتير، والعودة لمربع الاستنزاف والصراعات التي لا نهاية لها.

ففي أقل من عامين، شهدت القارة السمراء 7 انقلابات، وعددا من المحاولات الفاشلة كان آخرها المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قام بها الجنود في غينيا بيساو على حكم الرئيس عمارو سيسوكو إمبالو، والتي يُتهم فيها الأدميرال خوسيه أميريكو، وهو صاحب سوابق في الانقلابات والثورة التحررية في غينيا، إضافة إلى ضلوعه في رعاية الجماعات التي تعمل بتهريب المخدرات في غينيا بيساو، وراح ضحية هذه المحاولة الانقلابية 6 أشخاص في معركة تبادل نيران استمرت 5 ساعات.

وفي ظل انعقاد القمة الأفريقية اليوم السبت وغدا في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، تهيمن على أجندة القمة ظاهرة الانقلابات المتكررة، التي بلغت أكثر من 200 محاولة خلال العقود الستة الماضية، ومعظمها نجح في السيطرة على الحكم.

وتعقد القمة في غياب 4 دول علق الاتحاد الأفريقي عضويتها مؤخرا بسبب الانقلابات التي جرت فيها، وهي مالي والسودان وغينيا كوناكري وبوركينا فاسو.

يناقش التقرير -بصيغة سؤال وجواب- انتشار ظاهرة الانقلابات في قارة أفريقيا أكثر من أي قارة أخرى، ويتناول خلفياتها التاريخية وواقعها اليوم، ودور الدول الكبرى المتصارعة على ثروات القارة في ديمومة هذه الظاهرة.

ما سياق الانقلابات في أفريقيا؟

تتداول الأدبيات السياسية في أفريقيا سياق التطور في هذا الصعيد على النحو التالي:

ــ شهدت القارة بين عامي 1960 و1990 أكثر من 200 انقلاب، نصفها كان ناجحا. وتعزو التحليلات ذلك إلى حداثة تجربة الحكم، وعدم اكتمال مؤسسات الحكومات، ووجود نزعات التمييز التي غرسها الاستعمار، إضافة إلى ضعف البنى الضرورية في المجالات الثقافية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، وغيرها من الأسباب التي تبرر قيام الانقلابات في أفريقيا.
ــ ومع نهاية فترة الحرب الباردة، وما عرف بالموجة الديمقراطية الثالثة عام 1991، تبنت الدول الأفريقية نظما تعددية وبناء الدساتير الحاكمة، وحدث تحول ديمقراطي ملحوظ، وتراجعت الانقلابات بدرجة كبيرة، وشهدت القارة استقرارا أمنيا، ساعد في النهوض الاقتصادي والتعليمي، وهو ما رفع الوعي الجمعي لإنسان أفريقيا.
ونستطيع القول إنه في 1980 كان العسكريون يحكمون 43 دولة أفريقية، تقلصت إلى 9 دول عام 2001، بعد تعهد رؤساء الدول الأفريقية في قمة الجزائر عام 1999 بعدم الاعتراف بالسلطة العسكرية الناتجة عن الانقلابات، إلا أن الموجة الحالية تقول إن 18 رئيس دولة من قادة الدول الأفريقية الحاليين ينتمون إلى المؤسسة العسكرية، أو حركات التمرد التي ساعدت العسكريين في الوصول إلى الحكم، كما أن غالبية هذه الانقلابات حدثت في العقد الأخير.

ما العوامل المهيئة لعودة الانقلابات؟

تتعدد الأسباب والذرائع التي يبرر بها العسكريون انقلاباتهم، ولكن لوحظ أن العسكريين في الألفية الثالثة يقدمون الأسباب والمبررات نفسها التي ساقها الجيل الذي سبقهم في سبعينيات القرن العشرين، والتي تُقرأ في كل البيانات مع مارشات الانقلاب العسكرية الأولى، وهي ثالوث الفساد والفقر وسوء الإدارة. ويتفق أغلب الباحثين على أن ذلك يعود للأسباب التالية:

ــ تعثر الديمقراطية الوليدة، وعدم تحقيقها للتوقعات والنجاحات التي انتظرتها الشعوب الأفريقية، على الرغم من قصر التجربة، إضافة إلى افتقارها لأسباب وعوامل الرعاية والتعزيز.
ــ تفشي الفساد في الطبقات الحاكمة، وانعدام العدالة في التنمية على المستوى الجغرافي أو الإثني، أو ما يعرف بالعدالة في توزيع السلطة والثروة، مع انعدام الردع والحسم لمثل هذه الظاهرة.
ــ التحديات الأمنية والنزاعات الداخلية والخارجية، التي تضعف بنية الأنظمة وتستنزف الموارد الشحيحة في الأساس.
ــ عدم احترام المواثيق الديمقراطية، ولجوء كثير من الرؤساء الأفارقة المدنيين لتمديد فترات حكمهم، مما يغري العسكريين ويمنحهم مشروعية الانقلابات.
ــ الدعم الشعبي الكبير لعدد من الانقلابات، أو قبولها، أو الإذعان لها حال حدوثها، خاصة تلك التي حاولت تجميل نفسها عبر وعود العودة إلى الديمقراطية والحكم المدني.
ــ إضافة إلى الصورة التي يقدم بها الجيل الجديد من الانقلابات نفسه على أنه رائد الإصلاح، والحريص على السيادة الوطنية، والأمين على الشعوب ومقدراتها، والحامي لحدودها وهو ما يطرب قطاعات كبيرة من الأفارقة الباحثين عن الأمن والاستقرار.

هل هناك عوامل خارجية تلعب دورا في الانقلابات؟
منذ بداية الألفية الثالثة، تواجه أفريقيا ما اصطلح عليه مؤخرا بـ”التدافع الجديد نحو أفريقيا”، وهو في الواقع تجميل لمصطلح “الاستعمار الجديد لأفريقيا”، وهو التنافس على موارد القارة ومقدراتها.

فالدراسات تؤكد أن العامل الأساسي الذي يحرك الانقلابات في أفريقيا هو اشتباك مصالح القوى الكبرى في دول بعينها، وهي مرحلة جديدة أشبه بالحرب البادرة في طريقة إدارة الصراعات الخفية بين القوى الغربية التقليدية والقوى التي تنافسها لتنال حصة من نفوذها، انطلاقا من فهم حقيقة أن أفريقيا ستكون خلال العقدين القادمين قلب اقتصاد العالم.

وإذا نظرنا إلى كيفية تعامل القوى الغربية -وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية- مع الانقلابات في أفريقيا، فسنجد أنها تدينها، ولكنها في النهاية تقبلها باعتبارها أسلوبا لانتقال الحكم في أفريقيا، وكذلك تفعل فرنسا؛ وهو تناقض فاضح بين فلسفة تعزيز الديمقراطية والقبول بالحكومات الانقلابية والتعامل معها.

كيف يتعامل الاتحاد الأفريقي والجماعات الإقليمية مع الانقلابات؟
يرفض “إعلان لومي” -الذي أقره الاتحاد الأفريقي عام 2000- التغييرات غير الدستورية للحكومات (انقلاب عسكري ضد حكومة منتخبة ديمقراطيا)، مدعوما من الهيئات الإقليمية الأخرى و”الميثاق الأفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم” لعام 2007.

لاحظ مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي أن التغييرات غير الدستورية للحكومات نشأت من سوء إدارة التنوع، والجشع، والأنانية، والفشل في اغتنام الفرص، والتهميش، وانتهاكات حقوق الإنسان، وعدم الاستعداد لقبول الهزيمة الانتخابية، والتلاعب بالدساتير.

وفي الوقت ذاته، فشلت مواثيق الاتحاد الأفريقي في منع الانقلابات بسبب ضعف التشريعات، وضعف الالتزام بالتشريعات القائمة؛ ففي قمة هراري 1997 أصدر الاتحاد الأفريقي قرارا يدين الانقلابات، وفي قمة الجزائر أصدر إعلانا يحظر حضور القمم على القادة الذين استولوا على السلطة عن طريق الانقلاب.

ومارس الاتحاد الأفريقي سلطة تعليق العضوية ضد الدول التي جرى فيها تغيير غير دستوري نحو 14 مرة منذ 2003، ولكن تحت ضغوط دولية وإقليمية، وانعدام تشريعات ومؤسسات رادعة، يتراجع الاتحاد كل مرة عن مواقفه، ويعمل على دمج المنقلبين كأن لم يرتكبوا أي جرم، وهو أكبر مغريات العسكر لقلب أنظمة الحكم تحت أي ذريعة، ما دام الطريق سالكا ولديه ألف طريقة للإفلات من العقوبات.

إلى أين يتجه المسار؟
وفقا لمؤشر هشاشة الدول، 15 دولة أفريقية من أصل 20 دولة تتصدر مؤشر الدول الهشة لعام 2021 على مستوى العالم، وهو ما يشير إلى تزايد احتمالات حدوث الانقلابات في أفريقيا وتوسع فرصها، مما يجعل التنبؤ صعبا وشاقا للغاية، وهو ما سيحرم أفريقيا من فرص كثيرة كان يمكن أن تسهم في نهضتها الاقتصادية والتنموية، ويفاقم الأوضاع المتردية أصلا.

ما خيارات إيقاف سقوط أحجار الدومينو؟
بقراءة سجالات القوى الدولية على المسرح الأفريقي، لا نستطيع التفاؤل بسبب انشغال هذه القوى بالأطراف المنافسة لها، وهي غير معنية تماما بالمشكلات السياسية في أفريقيا، بل ربما تسهم في الفوضى إذا لزم الأمر، ويتحقق عبرها مصالحها؛ فالاتحاد الأفريقي، والجماعات الإقليمية، والشعوب هم أصحاب المصلحة ووحدهم من بيدهم الحل، وهو أمر ممكن إذا توفرت الإرادة في تنفيذ أجندة 2063 الأفريقية.

المصدر الجزيرة

Exit mobile version