إصداراتتحليلات

فرنسا المنبوذة … مستقبل التواجد الفرنسي في الساحل والصحراء بعد انقلاب النيجر

إعداد: محمد بوبوش: أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الأول بوجدة-المملكة المغربية

فرنسا دولة لديها تاريخ طويل وغني في الاستعمار في إفريقيا. في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، احتلت فرنسا مساحات شاسعة من الأراضي في إفريقيا، بما في ذلك الجزائر والمغرب وتونس والكاميرون والسنغال وموريتانيا والنيجر وغينيا وساحل العاج ومدغشقر.
كان الاستعمار الفرنسي له تأثير كبير على القارة الأفريقية. لقد غيرت اللغة والثقافة والاقتصاد والسياسة في العديد من البلدان الأفريقية. كما أدى إلى ظهور طبقة من النخبة الفرنسية في إفريقيا، والتي كانت تتمتع بمزايا كبيرة على باقي السكان.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بدأت فرنسا في الانسحاب من مستعمراتها في إفريقيا. ومع ذلك، ظلت لها علاقات وثيقة مع العديد من هذه البلدان بعد الاستقلال. فرنسا هي أكبر مانح للمساعدات الخارجية في إفريقيا، ولديها العديد من الشركات التي تعمل في القارة. كما تمتلك فرنسا عددًا من القواعد العسكرية في إفريقيا.
كان الانسحاب الفرنسي في إفريقيا أكبر مما توقعته باريس. إنها تفقد المكانة التي احتفظت بها لفترة طويلة (ما يقرب من قرنين من الزمان). وأهم مؤشر هو الانخفاض التدريجي للميزان التجاري إلى النصف خلال العقدين الماضيين. بدأت الخسائر اقتصاديا ، لينتقل التراجع إلى المسائل الأمنية ، حيث وفرت فرنسا الحماية الداخلية للأنظمة الحاكمة من خلال المؤسسات والانتشار ،والاتفاقيات العسكرية مما وفر الأمن بشكل مباشر لبعض الدول الأفريقية. قاعدة عسكرية تتولى الحماية الخارجية.
فرنسا والنيجر تربطهما علاقة وثيقة. فرنسا هي أكبر مانح للمساعدات الخارجية للنيجر، ولديها العديد من الشركات التي تعمل في البلاد. كما تمتلك فرنسا عددًا من القواعد العسكرية في النيجر.
تعود العلاقات بين فرنسا والنيجر إلى الحقبة الاستعمارية. كانت النيجر مستعمرة فرنسية من عام 1890 إلى عام 1960. بعد الاستقلال، ظلت العلاقات بين البلدين وثيقة.
تلعب فرنسا دورا مهما في التنمية الاقتصادية للنيجر. هي أكبر مانح للمساعدات الخارجية للنيجر، وتدعم العديد من المشاريع في البلاد، بما في ذلك مشاريع المياه والطاقة والصحة والتعليم. كما تستثمر الشركات الفرنسية في النيجر في قطاعات النفط والغاز والتعدين.
تمتلك فرنسا أيضا عددا من القواعد العسكرية في النيجر. هذه القواعد ضرورية لمكافحة الإرهاب في المنطقة. كما أنها تدعم الجيش النيجيري في مكافحة الجريمة والتهريب.
تتمتع فرنسا والنيجر أيضا بعلاقات ثقافية قوية. هناك العديد من الطلاب النيجيريين الذين يدرسون في فرنسا، وهناك العديد من الفرنسيين الذين يعيشون في النيجر. كما تتبادل البلدان العديد من الفعاليات الثقافية، مثل المهرجانات والمعارض والأفلام.
يبرز عبء الفترة الاستعمارية وحمولتها السياسية كسلاح ذي حدين، فالارتباط الثقافي بفرنسا من خلال اللغة والتعليم، وما أسهمت به خلال الفترة الاستعمارية ساهم سابقاً في ترسيخ النفوذ الفرنسي، ولكن الجانب السلبي للحمولة الاستعمارية بدا الأكثر تأثيراً مؤخراً على الرغم من المقاربات الجديدة التي حاولت فرنسا تبنيها من خلال حديثها عن الشراكة وطي صفحة الفترة الاستعمارية، وتعزيز الأفرقة “Africanization”، والتي تشير إلى الاعتراف وضرورة التأكيد على الثقافة والمؤسسات والقيم الإفريقية، والترويج لها وتأكيد هويتها واستعادة تراثها بعد تاريخ من الاستعمار والتأثير الغربي.
كما يثير الوجود الفرنسي في إفريقيا انتقادات من الشعوب الافريقية، فهم يتهمونها باستغلال الموارد الطبيعية لهذه البلدان والتدخل في سياساتها الداخلية. ومع ذلك، تدافع فرنسا عن موقفها بالقول إنها تلعب دورا مهما في استقرار وازدهار القارة الأفريقية.
لقد مثل الانقلاب العسكري في النيجر نكسة للوجود الفرنسي التقليدي في النيجر، بوصف فرنسا   المستعمر القديم للبلد، وفي غرب إفريقيا عموماً، خاصة أن هذا الانقلاب سبقه انقلابات مشابهة في دول مجاورة في الغرب الإفريقي (مالي وبوركينا فاسو)، والتي قلصت بشكل واضح النفوذ الفرنسي.
إذن، يأتي الانقلاب في النيجر ليلقي الضوء على المجد الفرنسي المتآكل في منطقة الساحل الأفريقي، لاسيما أن النيجر كانت تعد من آخر معقل لفرنسا فيها. وتتجسد الهواجس الفرنسية في كون المجالس العسكرية التي تنبثق من هذه الانقلابات عادةً ما تكون مشحونة بمشاعر وطنية معادية لفرنسا، ويكون من أول أهدافها العمل على طرد القوات الفرنسية من أراضيها. وتدل العديد من المؤشرات الحاصلة بعد 27 يوليو 2023، على جنوح العلاقة بين فرنسا والمجلس العسكري في النيجر نحو المزيد من التأزم، خصوصاً مع اتهام فرنسا بانتهاك قرار إغلاق الحدود، وانتشار التظاهرات الشعبية (حاملة الأعلام الروسية) الرافضة الوجود الفرنسي في نيامي.
وبالرغم من خطابات ايمانويل ماكرون لطمأنة شعوب القارة السمراء، ومجموعة من القمم والاجتماعات التي عقدها بهدف إلى إقامة شراكة جديدة مع القارة، إلا أن النتائج التي حصل عليها ماكرون في إفريقيا هزيلة اجتمعت في الانسحاب العسكري وفقدان النفوذ السياسي والاقتصادي وزيادة المشاعر المعادية لفرنسا داخل المجتمعات الافريقية.
ويبدو أن النفوذ الفرنسي أصبح مهدداً أكثر من أي وقت مضى في هذه المنطقة، على الرغم من كل ما تمثله من حاجة إلى المصالح الفرنسية، سواء في مسألة مكافحة الإرهاب، أو في منع تمدد النفوذ الروسي في الحديقة الخلفية لفرنسا.
ان استقرار النيجر يعد قضية حاسمة بالنسبة للجزائر التي اختارت التكامل الاقتصادي مع مشروع خط أنابيب الغاز عبر الصحراء، الذي يربط نيجيريا بالجزائر عبر النيجر، والذي ينافس مشروع خط أنابيب غاز معادل بين نيجيريا والمغرب.
ترافق الانقلاب العسكري مع مظاهرات وشعارات مناهضة لفرنسا بشكل ملحوظ، وقد شهدت منطقة إفريقيا الغربية في السنوات الأخيرة تصاعداً في مشاعر الكراهية والرفض للنفوذ الفرنسي، خاصة مع “شيطنته” من قبل الإعلام الروسية بحسب تعبير الرئيس الفرنسي ماكرون.
بعدما كان يطمح إلى “تجديد” العلاقات مع مالي وبوركينا فاسو والنيجر، يمنى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بنكسات في المنطقة، ما يطرح تساؤلات حول مصير الوجود العسكري الفرنسي فيها.
وسبق  للرئيس الفرنسي أن  أكد في ديسمبر  2018 أن باريس عازمة على المضي في الانخراط في مكافحة المنظمات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء “حتى يتم القضاء عليها
لكن وعود ماكرون لم يكتب لها النجاح، فبعد بعد مرور خمس سنوات خرجت القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو مدحورة بعد انقلابين فيهما، وجنوباً، أجبر الجنود الفرنسيون على الانسحاب من أفريقيا الوسطى.
علاوة على ذلك، تخشى فرنسا من عدم تزود محطاتها النووية باليورانيوم والتي تعتمد عليها بنسبة 35% من إجمالي احتياجاتها، وما يمثله من تهديد مباشر على انتاج واستهلاك للطاقة الكهربائية في فرنسا التي تشهد اضطرابات اجتماعية في المناطق الهامشية بفعل الاحتجاجات الراهنة، خاصةً بعدما أفادت تقارير بقرار المجلس العسكري النيجري وقف تصدير الذهب واليورانيوم إلى باريس.
لذلك فإن الانقلابات في الدول الأفريقية تجمع على طرد فرنسا وإنهاء وجودها، والترحيب بالدول الأخرى على رأسها روسيا الساعية لتغيير قواعد النظام العالمي والدعوة إلى التعددية القطبية. من ناحية أخرى، هناك من يعتقد أن الانقلابين ليس لديهم مشروع وطني أو خطط تنمية مستقبلية، لذا فهم يتجهون نحو الفشل والمزيد من التدهور في الاقتصاد.

وتلعب بعض العوامل التي من المرجح أن تؤثر على مستقبل السياسة الفرنسية في الساحل والصحراء:
تصاعد الإرهاب في المنطقة.
• الفقر وعدم الاستقرار السياسي في المنطقة.
• معارضة بعض الدول الأفريقية لوجود فرنسا العسكري في المنطقة.
• مصالح فرنسا الاقتصادية والأمنية في المنطقة.
ما زالت بعض أوجه طموحات سياسات ماكرون متمسكة بعقلية الامبريالية الفرنسية و غارقة في أساليب عفا عليها الزمن في التعامل مع التواصل. ومن ثم، فإن تحديد الأساليب التي نجحت والأخرى التي لم تنجح خطوة أساسية نحو ضمان تعزيز فرنسا لنفوذها القوي لتحقيق شراكات على قدم المساواة ومكاسب متبادلة بالنسبة للدول الأفريقية.
وبينما يعني انقلاب النيجر خروجاً مبدئياً لباريس وواشنطن، فإنه في المقابل يعني تقدما لموسكو التي يتمدد حضورها في القارة الأفريقية، من ليبيا شرقاً إلى غربي السودان وأفريقيا الوسطى ومالي والنيجر وبوركينا فاسو، وصولاً إلى غينيا. وبتكلفة أقل مما دفعته واشنطن وأوروبا، فإن سيناريو حدوث توافق وتعاون بين روسيا والصين، وتقاسم الأدوار بينهما في القارة الأفريقية، يبدو ممكناً ومتوقعاً.

أفروبوليسي

المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) مؤسسة مستقلة تقدم دراسات وأبحاثاً حول القضايا الأفريقية لدعم صناع القرار بمعرفة دقيقة وموثوقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى