قال الخبير في الشؤون الأفريقية، محمد صالح، إن إثيوبيا، الثانية في القارة السمراء من حيث عدد السكان، تمضي نحو التفكك، مؤكدا أن النمو الاقتصادي الذي شهدته خلال العقود الأخيرة أجّل تفجر نزعات وخلافات إثنية عميقة، لها جذور تاريخية.
وفي مقابلة أجرتها معه “عربي21”، قال “صالح”، مدير وحدة الدراسات في المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)، إن رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، جاء إلى السلطة عام 2018، بدعم أمريكي، لتسوية الأوضاع في البلاد، لكن مشروع “الدولة المركزية” الذي يحمله أعادها إلى نقطة الصفر، وأشعل فتيل الصراعات الكامنة في المجتمع الكبير والمنقسم. وأضاف: “إذا استمرت الحرب فترة طويلة وفشل أحمد بحسم المعركة سريعا فإنها ستمتد إلى بقية الأقاليم وستكون البلاد أمام تفكك حتمي، خاصة في ظل تدخل إريتريا المجاورة”، الذي يؤجج الغضب داخليا.
وتابع: “إذا حسمت المعركة، فقد تشهد إثيوبيا كرا وفرا وحرب عصابات، تستنزف البلاد، لكن الأطراف الإقليمية والدولية ستسعى إلى إنقاذها في كلتا الحالتين، ولا سيما لمكانتها الخاصة كدولة مسيحية كبيرة في المنطقة”.
واستدرك بالقول: “لا تدرك تلك الأطراف التعقيدات الداخلية ولا تقدم حلولا لمشاكل إثيوبيا”، فضلا عن التحولات العالمية، بحسبه، التي تمنح الشعوب فرصة التعبير عن ذاتها والتواصل مع الخارج، إلى جانب تطور قدراتها على المناورة السياسية، ما يعقد القدرة على إسكات النزعات المختلفة، في مجتمع كبير شديد الانقسام، لصالح الحسابات الجيوسياسية للقوى الكبرى.
خلافات متراكمة
وحول الحرب الجارية بين السلطة الفدرالية وإقليم التيغراي، شمال البلاد، أوضح “صالح” أن بذورها قديمة، وتوارت خلال العقدين الماضيين إلى حد ما وسط تسارع النمو الاقتصادي، وعادت إلى السطح وصولا إلى التفجر بعد مجيء أحمد إلى السلطة، رغم ما أظهره من اهتمام بتسوية الخلافات ودفع النهضة إلى الأمام.
وأوضح صالح أن عرقية التيغراي تتبنى مشروع الفدرالية الإثنية، بحيث يتمتع كل إقليم يضم غالبية عرقية باستقلالية نسبية عن أديس أبابا، وعادت هذه القضية إلى السطح مؤخرا، مخترقة شعارات التنمية والنهضة، وأشعلت فتيلها الخلافات بشأن التمديد للبرلمان وعدم إجراء الانتخابات بموعدها، بشكل “غير قانوني”، بحسبهم.
وأجرى التيغراي انتخابات خاصة بهم، واعتبروا أن أحمد بات فاقدا للشرعية، ما فجر خلافات متراكمة، من أبرزها قضية المركزية وقضايا مالية تخص الإقليم، وتتقاطع مع علاقاته المتميزة مع الصين ومحاولة أديس أبابا الحد منها، فضلا عن فقدان الثقة المتبادل، ليتحول الصراع السياسي إلى عسكري في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.
وسرعان ما تعدت نيران الحرب حدود الإقليم، بل إن التيغراي اتهموا إريتريا المجاورة بالمشاركة في حملة أديس أبابا العسكرية عليهم، ما دفعهم إلى قصف مطار أسمرة.
“تهميش تاريخي”
وفي خلفيات المشهد، لفت “صالح” إلى أن التيغراي برزوا في “النضال” ضد النظام الاشتراكي منذ مطلع السبعينيات، ويعتقدون أنهم لعبوا الدور الأساسي في إنهاء الهيمنة الشيوعية على البلاد، وأن ذلك يمنحهم الحق بمشاركة كبيرة في الحكم.
كما أن التيغراي، الذين يشكلون نحو ستة بالمئة من السكان، يعتبرون أنهم من الأقليات المهمشة طوال التاريخ الإثيوبي، ما يضعهم في عداء مستمر مع مكون “الأمهرة” المهيمن.
ولا يتعلق الأمر بخلافات دينية، بحسب صالح، إذ إن كلا الطرفين يتبعان المذهب المسيحي ذاته، لكن التيغراي يتباهون بأن منطقة “أكسوم” التي شكلت مهد المسيحية في عموم القرن الأفريقي تقع في إقليمهم.
وأشار الخبير الأفريقي في هذا السياق إلى أن إثيوبيا تضم نحو 84 مجموعة عرقية، تشكل مطالب ومخاوف كل منها قنابل موقوتة، ولا سيما الخوف من التهميش الذي عاشوه لقرون في ظل الإمبراطورية (1270- 1974).
ماذا عن “نهضة إثيوبيا”؟
وقال صالح: “قطعا إذا استمرت الحرب واتسع نطاقها فإن إثيوبيا مهددة بالتفكك، بالنظر إلى ميل الكثير من العرقيات إلى الانفصال ما لم يحققوا قدرا من الاستقلالية عن المركز، وهي نزعة موجودة لدى الأورومو والعفر والصوماليين، فضلا عن التيغراي، وهو صراع على الحكم والموارد أكثر من كونه تنافرا ثقافيا أو دينيا أو اجتماعيا”.
وحول الصورة الإيجابية للنمو الاقتصادي في إثيوبيا خلال العقود الأخيرة وما أخفته خلفها من أزمات عميقة، قال: “حققت البلاد خلال السنوات العشرين الماضية نهضة كبيرة بالفعل، ولا يتعلق الأمر بآبي أحمد فقط، وهي صورة زاهية بالفعل، لكنها طبيعة المرحلة الانتقالية التي يتم تحقيق نسب نمو عالية خلالها عادة”.
وتابع: “كان كل طرف يتوقع خلال تلك الفترة أنه سيحقق ما يريده في نهاية المطاف، وهو ما أسفر عن تراجع الاحتكاكات، وساهم أحمد بتعزيز تلك الصورة في البداية، واتخذ خطوات غير مسبوقة وضعت البلاد في قيادة أفريقيا، ومن ذلك السماح لمواطني جميع دول القارة بدخول البلاد دون تأشيرة مسبقة، فضلا عن التسوية مع فصائل مسلحة”.
معضلة “المركزية”
واستدرك صالح بالتأكيد على أن تلك المرحلة، كونها انتقالية، لا يمكن الاستناد على معطياتها للحكم على الواقع الإثيوبي، الذي شدد على أنه منقسم بعمق جراء المركزية المفرطة من قبل الحكومات المتعاقبة والعهود السابقة، والتي مارستها مختلف العرقيات، بمن فيهم التيغراي عند توليهم الحكم، قبل آبي أحمد، ما تسبب باحتجاجات تواصلت أعواما (2014- 2018)، رغم تبنيهم الفدرالية الإثنية.
وأضاف الخبير الأفريقي أن وعود أحمد تلاشت مع الزمن، بما في ذلك وعوده للفصائل المسلحة التي وقع سلاما معها على أساس فتح حوار واسع، وهو ما لم تمض به أديس أبابا، ولم يحدث التغيير الذي تعهد به، ليصدم الجميع بمشروعه المركزي.
وقال: “حاول أحمد تفادي المشاكل الإثنية والإقليمية وترسيخ المركزية، لكنه لم يجر حوارا بهذا الشأن، ومضى بطرح مشروع الازدهار والفدرالية والمركزية في المرحلة الانتقالية، وهو ما رفضته الأغلبية بمن فيهم جزء من الأمهرة، بل والأورومو، الذين يشكلون حاضنته الاجتماعية الأساسية”.
وتابع بأنه لم يناقش ملفات المرحلة الانتقالية الأساسية مع مختلف الأطراف، بما فيها خلافات الإثنيات والحكم وتقاسم السلطة والثروة وسبل إخراج الجميع من دائرة التهميش.
واعتبر صالح أن إثيوبيا التي تخلصت من إمبراطورية إثنية مركزية حكمتها لمئات السنوات، تشهد في ظل إدارة آبي أحمد مخاوف من عودة المعادلة ذاتها بوجه جديد، لكن حكم “الأباطرة”، الذي شهد ممارسات قمعية لقرون، بحسبه، لا يمكن أن يعود في ظل معطيات الحاضر، وما تسبب به ذلك الماضي من عداوات داخلية حادة.
أدوار خارجية
وبشأن الأدوار الخارجية، قال صالح: “الذي نعرفه أن آبي أحمد يحظى بدعم غربي كبير، لأن أمريكا عندما تدخلت في التغيير وأتت به عام 2018، كانت تخشى من الهيمنة الصينية في إثيوبيا وأفريقيا عموما”.
وأضاف أن حضور واشنطن في المشهد الحالي غير واضح، ولا تلعب دورا مباشرا، فيما يبرز الدور الإقليمي بتدخل إريتريا إلى جانب أديس أبابا.
ويقول معارضو آبي أحمد إنه تتلمذ على يد “ديكتاتور”، في إشارة إلى أسياس أفورقي، رئيس إريتريا، إذ إن رئيس الوزراء الإثيوبي يشير إلى الأخير بكل خطوة يقوم بها، بل ويُتّهم، بحسب صالح، بجلب مستشارين أمنيين من أسمرة.
وفي المقابل، فإن التيغراي يعانون من حصار محكم حاليا، وبعض التقارير تتحدث عن تواصلهم مع مصر، لكنهم، بحسب صالح، قادرون على خوض معركة طويلة الأمد، ما يستدعي تنازلات مؤلمة من قبل أحمد ووساطات أفريقية لمحاصرة الأزمة قبل اتساع نطاقها. وفي هذا السياق، تسعى أوغندا إلى إجراء وساطة بين الفرقاء، أعلنت عنها الأحد، ولم يتضح حتى الآن ما إذا كانت ستنجح في التمهيد لإنهاء الأزمة.