سيد عمر معلم عبد الله
مؤرخ ودبلوماسي صومالي
قصة المدينة
هي عاصمة لمحافظة سول التي هي واحدة من المحافظات الثمانية عشر المنصوصة في الدستور الحالي للبلاد. والمدينة، أصبحت مديرية في عهد الاستعمار البريطاني عام 1947م وهي من المديريات المشهورة على مستوى الجمهورية لأكثر من وجه. سابقا، كانت تابعة لمحافظة تجظير في الشمال في عهد ما قبل الاستقلال، وتم ضمها لاحقا الى محافظة نغال في عهد حكم العسكر، ثمّ أصبحت بعد ذلك عاصمة لمحافظة سول المستقطعة من محافظة نغال ذاتها عام 1984م . ومدينة لاس عانود، هي واحدة من بين المديريات الأربع التي تتكون منها محافظة سول. وفي بداية القرن العشرين، كانت مسرحا للمواجهات القتالية بين الاستعمار البريطاني وقوات الدراويش المتمردة على حكمة بقيادة السيد محمد عبد الله حسن. وكان الهدف من محاربة الدراويش ضد الاستعمار البريطاني هو العمل على منعه من التوغل إلى المناطق الداخلية والالتحام مع الإمبراطورية الإثيوبية، وبسبب ذلك احتوت محافظة سول قلاعا حربية عديدة استخدمتها قوات الأخيرة كمراكزمراقبة أمامية ضد بريطانيا والتي مازال بعضها باقي الأثرإلى اليوم، ومن بينها قلعة تليح (TALEH) الأكثر شهرة على الاطلاق من بينهم.
والمدينة مشهورة بنزوعها الوحدوي وطابعها المنتفض وبراجماتية أهلها وكذلك قوة نفوذ وجهاء السلطة الثقافية على حياة سكانيها، وفي عهد الكفاح للاستقلال الوطني، كانت من المدن المؤيدة للأحزاب السياسية الوطنية الهادفة إلى تحقيق الوحدة الوطنية مثل حزب وحدة الشباب الصومالي (SYL) وحزب الوحدة الوطنية (USP) المعروفين بسعيهما إلى نيل الوحدة الكاملة بين الشمال والجنوب، وأسس فيها الحزب الأخير بشكل خاص. ومن المعلوم أن أهالي محافظة سول صوتوا بالأغلبية المشهودة في الاستفتاء الدستوري المعمول به عام 1961م، وتحفظوا بنفس الدرجة في المشاركة على التصويت لصالح دستورسلطة هرجيسا المعمول به عام 2011م. ومن مصادفات الأقدار، أن جراد جامع علي جامع الذي يعتبر الرمزية القيادية للحراك الحربي الحالي القائم في لاس عانود، هو الإبن لجراد علي جراد جامع الذي كان من ضمن وفود الشمال العاملة على ترتيب مسائل الوحدة بين الشمال والجنوب في فترة ما قبل الاستقلال، وبعدها أصبح نائبا برلماني في الجمهورية الأولى للبلاد بعد الاستقلال عام 1960م ووزيرا في الحكومة الأولى، وكان يتم انتخابه من مدينة لاس عانود نفسها باستمرار، وهو استحقاق ناله بسبب موقفه الريادي في قضايا الوحدة والاستقلال.
والمدينة، اعتادت على حدوث اغتيالات سياسية في داخلها، حيث قتل فيها أعضاء من حزب SYL في بداية الستينيات، وبعدها اغتيل فيها رئيس الجمهورية السيد عبد الرشيد عام 1969م بالإضافة إلى الاغتيالات العديدة التي حدثت فيها في الآوانة الأخيرة، وطالت شخصيات سياسية وأمنية واعتبارية مختلفة في انتمائاتها السياسية، وهوما فجر الحرب الحالية الدائرة بين سكان المنطقة وسلطة هرجيسا المستمرة منذ بداية هذ العام. والمدينة منذ 2009م، كانت عاصمة لإدارة محلية تطمح إلى إقامة نظام إداري مماثل لمحيطها الجغرافي في داخل البلاد (الولايات) ومستقل عن إدارتي بونت لاند وصومالاند ويخضع مباشرة للحكومة الفيدرالية، وممتد كذلك على امتداد سكان القبيلة (قبيلة ظلبهنتي) التي ينتمي إليها سكان بعض المدن الرئيسية في محافظتي سول وسناج وأجزاء من محافظة تجظير. وإلى جانب ذلك، فإن المدينة، كانت تحت سيطرة سلطة هرجيسا منذ 2007م بعد إنهاء وجود سلطة بونت لاند فيها التي سبقتها في حكم المدينة منذ 2003م، ويسود فيها استقطابات حادة بين الانتماء العشائري والجغرافي، وانقسامات داخلية مختلفة ناتجة من الولاءات السياسية المتعددة الأوجه، فهي من الناحية الجغرافية تنتمي إلى منطقة الشمال التي كانت تدخل ضمن المحمية البريطانية في عهد ما قبل الاستقلال، وحاليا، لها نواب يمثلونها في البرلمان على مستوى المحافظة والذي من بينهم رئيس البرلمان الحالي لـ صومالاند السيد عبد الرزاق خليف، واجتماعيا تنتمي إلى ولاية بونت لاند نتيجة وشائج الدم والأواصر القبلية التي تربط فيما بينهما، ولها نواب وسياسيون يمثلونها في تلك الولاية وكذلك في المجالس والهياكل المختلفة للدولة الفيدرالية.
السكان والطبيعة
يسكن مديرية لاس عانود قرابة ربع مليون نسمة، وبمساحة أرضية تقدر بـ11240.9 كم2. والمدينة محاطة بالجبال، وهي في موقع حيوي هام للغاية يربط بونت لاند بـصومالاند ومعروف باسم “وادي نغال” والمدينة ،تشكلّ معبرا تجاريا تمرّبها السلاسل التجارية المتجهة من وإلى، على اعتبار أنه يمرّبها الشارع الوحيد الرئيسي الذي يبدأ من العاصمة ويربط جنوب البلاد بشمالها الأقصى، كما أنها هي أبضا ملتقى بين روافد فرعية تأتي إليها من جهات مختلفة وموزعة بين الجهات الجغرافية المختلفة، باعتبار أنها ايضا متاخمة لثلاث محافظات رئيسية ومرتبطة بحدود برية طويلة مع إقليم الصومال الغربي في إثيوبيا، وقريبة إلى مدينة جروي من هرجيسا التي هي عاصمة لولاية بونت لاند على بعد 140كم2 غربا، وربما ساعد في ذلك الطبيعة الجذابة السائدة من جبال وأودية ووفرة في المياه، حيت أصبحت نتيجة لذلك مأوى أوملجأ للعديد من المكونات الاجتماعية المختلفة على مستوى الجمهورية. وتعتمد حياة سكان المحافظة على الثروة الحيوانية والتجارة المحلية، وتأتي المدينة رقم الـ11 من حيث ترتيب المدن الصومالية الـ 20 الكبرى، وتعدّ من المحافظات الغنية، ويوجد فيها موارد طبيعية هائلة متنوعة لم يتم استغلالها أواستخرجها بعد.
أسباب الحرب
الأسباب كثيرة ومتداخلة بين أسباب مباشرة وغير مباشرة أو أسباب تاريخية وأخرى جيواقتصادية، وكما هي العادة في الحركة التاريخية، فإن الأسباب غير المباشرة غالبا ما تكون هي المحركة في النزاعات والحروب التي تحدث في منطقة ما، وتكون في الغالب هي الأعمق من الأسباب المباشرة في إدامة النزاع أوإثارة الحرب، ولا يتم حل النزاعات أووقفها إلا بالتعامل الجدي معها والعمل على إنهائها وألا تتجدد النزاعات والحروب من فترة لأخرى وتتحول إلى مصدراستنزاف شبه دائم قائم بين الأطراف المتحاربة. وإذا كان الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين-للتوضيح- هو السبب غير المباشر في جميع الأزمات التي حصلت بعده في المنطقة، فإن العنف المتجدد الناتج عن القتل والتفجير أوالاغتيالات المتبادلة هو من الأسباب المباشرة في المواجهات المتجددة، ولا يمكن توقف العنف إلا بانتهاء حالة الاحتلال الأصلية في الأزمة. وفي هذه الحالة، فإن الاغتيالات الكثيرة وعدم الملاحقة أوالقبض على مرتكبيها والعسف في جمع الضرائب الماخوذة من منفذها وعدم تخصيص نسبة مقدرة منها إلى إعادة وإعمار المدينة وكذلك الاحساس بالاقصاء السياسي المتراكم والتهميش في امتيازات التنمية والشعور بعدم الانتماء العضوي في المنظومة البنيوية في سلطة هرجيسا؛ تكون من ضمن الأسباب المباشرة في الحرب المشتعلة في المدينة، وبالتالي فإن النزاع هومن وجهة نظرلاس عانود هو نتيجة المركزية الجامدة والاقصائية التي تمارسها سلطة هرجيسا ضده ، مستقوية بالسلطة السياسية لصالحها بطريقة أوبأخرى، وهو أمر بزيد في المرارة القائمة في المنطقة منذ الفترة .
ويضاف إلى ذلك انقسام القوى السياسية المحلية المختلفة في سول في مسألة الوحدة ومشروع الانفصال عن الدولة المركزية وهو انقسام يعكس اختلاف مصالح القوى والنخب السياسية فيما بينهم أكثرمن انعكاسه على الانقسام المجتمعي في أهالي سول حول مسألة الوحدة السياسية في البلاد التي يومنون معظمهم بها بشكل رئيسي، حيث أن فقدان أورغبة بعض النخب السياسية لبعض المناصب في منبر سياسي معين يدفعهم للإنضمام إلى نقيضه وذلك لإثبات الوجود أوالنكاية السياسية لمنافسيه في الحكم. ويشكل عام، فإن الحقائق المسجلة في اغتيالات لاس عانود مروّعة ومفزعة في نفس الوقت ووصلت إلى 150 حالة منذ 2007م، وارتفاع معدلاتها في الفترة ما بعد 2018م هو أحد الأسباب المباشرة في الحرب الدائرة. ومن الطبيعي أن يكون مصدر تلك الاغتيالات أكثر من جهة وأهدافها مختلفة ولكن القاسم المشترك بينها جميعا هو أن جميع الضحايا هم من أهل المدينة والمحافظة بشكل عام وأغلبهم من شخصيات سياسية وأمنية واعتبارية محسوب بعضها على هرجيسا، وبالتالي يريد المنتفضون الحاليون أن يجدوا لأنفسهم سلطة مستقلة خاصة بهم تمكنهم بمعرفة مصدر الاغتيالات المتكررة والاحترازعن الاختراقات الأمنية النافذة وتعطيهم كذلك حق التحكم في مصيرهم السياسي مثل غيرهم، وبالإضافة إلى ذلك يشعر سكان محافظات سول وسناج تنصل هرجيسا من تنفيذ التفاهمات والاتفاقيات التي توصلت إليها الإدارة المحلية القائمة في محافظتي سول وسناج منذ 2009م مع نظام هرجيسا لأكثرمن مرّة، وربما حصول محافظة سول على مقعد واحد من أصل 100مقعد في المنح الدراسية الممنوحة من إثيوبيا في العام الماضي 2022م هوما يجسد وجود هذ الشعورالمتنامي.
ويبدو أن الإتفاق الموقع بين السلطة في هرجيسا والسلطة المحلية في محافظات سول وسناج (خاتمو2017م) أصبح أحد الفرص الضائعة في معالجة هذا الشعور العدائي ضد هرجيسا، حيث تضمن على إيجاد العدالة والمساواة والتعايش السلمي بين المكونات المختلفة القاطنة على امتداد سلطة هرجيسا، واتخاذ التفاوض مسارا لحل الخلافات، والعمل على إعادة فتح الدستور للعمل على مراجعة آليات تقاسم السلطة، بالإضافة إلى توجيه الهيئات العاملة في العمل الإنساني والتنمية إلى تلك المناطق من أجل تقديم مساعدات وخدمات تساهم في تحسين الحياة، ومن ثمّ يعتقد سكان تلك المناطق أن التهميش في مجال التنمية هوتنفيذ سياسة معتمدة من قبل رأس هرم السلطة ويراد من خلالها الاستحواذ على فرص التنمية في مركز الحكم وفرض حظر اقتصادي في منطقة سول ومن ثمّ فإن حالة غياب التنمية وتأخر المنطقة عن محيطها هو نتيجة لسياسات نظامية سابقة تجسدّ في خلق حالة من الفزاعة والتخويف من الوصول إلىها وتصويرها على أنها منطقة قلاقل متنازع عليها بينها وبين بونت لاند وذلك على الرغم من اعتماد وبناء مشاريع تنموية محدودة تم انجازها في مدينة لاس عانود في عهد سيلانيو (2010-2017م)، كما تمّ بناء مرافق حكومية حيوية من قبل بونت لاند في الفترة ما بين 2002-2007م.
والأسباب غير المباشرة هي اعتداد بونت لاند في محافظات سول تحديدا وفي بعض من المناطق الأخرى التابعة لمحافظات تجظير الجنوبية ومحافظة سناج جزء من ولاية بونت بسبب انتماء ساكنيها العشائري إلى ولاية بونت لاند، وكون أنهم كانوا نسيجا أصيلا في تأسيس الولاية عام 1998م. وتذهب المادة الثالثة من دستور ولاية بونت لاند في هذا الاتجاه، هذا فضلا عن أنهم لم يكونوا طرفا في مواثيق تأسيس وتثبيت سلطة هرجيسا المنفصلة أحاديا عن الصومال باستثناء بعض الأعداد المحدودة التي كانت حاضرة سابقا ومازالت مشاركة في مختلف الهياكل الإداراية لسلطة هرجيسا، في حين أن المادة الثانية من دستور صومالاند، ينص على أن جمهورية صومالاند مكونة من امتداد الأراضي المعروفة سابقا بالمحمية البريطانية المعروفة بهرجيسا، وتمتّد حدود تلك الأراضي على مشارف مدينة جروي التي هي عاصمة لولاية بونت لاند، وهذ يعني عمليا أن كل جهة من بونت لاند وصومالاند تحسب تلك المناطق لنفسها لسبب أو لآخر، وتعتبر الانضمام إلى الأخرى أوالحصول على سلطة مستقلة عنهما ضياعا مباشرا لمصالحهما التجارية المحصولة حاليا من سول وانحسارا لاعودة عنه على حدودهما السياسية المائعة وكذلك تفسخا في فرص نجاح مشروعهما السياسي على الآماد البعيدة والقريبة، وبالتالي فان الحرب الدائرة خاليا هي وجه آخر من حرب بين جروي التي هي ولاية من الولايات الرئيسية في جمهورية الصومال وهرجيسا التي تريد الانفصال عن جمهورية الصومال ومستمرة منذ تأسيس ولاية بونت لاند وانسحابها من مدينة لاس عانود عام 2007م.
ويضاف إلى تلك النقطة الجوهرية أن سكان تلك المناطق لم يكونوا طرفا ولا جزءا من الفاتورة الباهظة التي عن طريقها تمكنت هرجيسا من الانفصال عن الصومال ولم يتحملوا نصيبا من تلك الكلفة الباهظة لنيلها، بل على العكس من ذلك، فإن هرجيسا تعتبر أن سكان تلك المناطق سول وسناج كانوا رأس حربة استخدمها النظام ضدهم باعتبار أنهم كانوا يعرفون من غيرهم على أهالي المنطقة وذلك في أثناء المواجهات السجالية التي وقعت بين الجبهة والنظام طيلة العقد الأخير من القرن المنصرم، وأصبحت بعدها تلك المجهودات القتالية مصدرا رئيسيا لشرعية الحكم في هرجيسا وأداة من أدوات تجييش عواطف الناس ووسيلة من وسائل ضمان الدعم المجتمعي للسلطة، وحينئذ، فإن سول متهمة بالمساهمة في قيام أدوارغير منسية تركت عليهم بصمات غائرة وخلفت جروحا بالغة في ذاكرة أهالي هرجيسا مقابل اتهام هؤلاء لهرجيسا على أنها ركبت موجة هائمة وتتبنى مشروعا انفصاليا غير متوافق أومتفق عليه ولا يحظى بالشرعية الضرورية من سكان مناطق رئيسية في محافظات سول وسناج وجنوب تجظير التي يسكنها أهالي سول، وأن مشاركاتهم الرمزية في الملتقيات المختلفة لتثبيت مشروعها السياسي كان من باب الخوف أوالاستباق لما هو محتمل الوقوع على مناطق سكانهم، ولا تعبر بالمّرة عن المشاركة الطبيعية النابعة على الاختيار الحرّ والقناعة الطبيعية، وهي أصلا–أي هرجيسا- لم تصحو بعد من العقلية الجبهوية التي تؤمن بقوة السلاح ولا تسعى إلى اعتماد الحوار والتفاوض سبيلا للتعايش المجتمعي، ناهيك عن ما يوجد بين الجانبين من تمرس وترصّص ماض في الجبهات القتالية التي دارت بين الاستعمار البريطاني التي كانت تعبأ من هرجيسا وقوات الدراويش التي كانت تتخذ من محافظة سول مقرا لها، وما تبادلوه من اتهامات خطيرة وقتل مروع واستباحة في الممتلكات وأشعار تحريضية مازالت صيحاتها ترّن في ذاكرتهم الجماعية .
فداحة الخسائر
الخسائرمازالت مستمرة وذلك مع انطلاق آلة الحرب التي دخلت شهرها الرابع، والمدينة تحولت إلى أطلال مفروغة من سكانها المدنيين، والخدمات الأساسية فيها من مياه وكهرباء وتعليم أصبحت شبه متوقفة أومتقطعة تقريبا نتيجة استهداف الآلة الحربية من هرجيسا بشكل خاص. وتجاوز ضحايا الحرب حتى الآن إلى أكثرمن 210 ضحية، بالإضافة إلى 2000 جريح أوإصابات ونزوح قرابة 200 ألف من سكان المدينة إلى خارجها وإلى القرى النائية المحيطة بها، وعبرعدد كثير منهم إلى الدول المجاورة بحثا عن الأمان وبعضهم استقروا هناك تحسبا لإطالة أمد الحرب وتأخرعودة الحياة الطبيعية في المدينة، وأن حوالي 100 ألف دخلوا إلى جانب إثيوبيا مع الشهور الأولى من الحرب. ويبدو أن الوضع ينذر بظهورحالة إنسانية صعبة مالم يتوقف صوت الآلة الحربية المطلقة العنان وتنجح الجهود السياسية والمساعي البطيئة الحركة والهادفة إلى التهدئة ووقف إطلاق النار التي تسري من جهات ومستويات مختلفة. ويزيد معاناة هؤلاء النازحين على ما كان عندهم من معاناة سابقة ناتجة عن الجفاف الذي خيم في البلاد والمنطقة في فصول زمنية متوالية وتأثر به قرابة 8.3 مليون نسمة وهو ما يقارب نصف عدد السكان على مستوى الجمهورية، ومن ثمّ يؤثرعلى قدرتهم على الصمود والتحمل في البقاء طويلا خارج المآوي المؤقتة.
مواقف القوى المختلفة من الحرب
القضية تمت مناقشتها في العديد من المنابر الإقليمية والمحافل الدولية بما في ذلك مجلس الأمن في جلسة 22 فبراير 2023، وبعدها ظهرت دعوات متوالية ومطالبات ملحة صادرة من الشركاء الدوليين في الصومال في غرة العام تدور كلها حول الدعوة إلى التهدئة ووقف إطلاق النار الفوري، وإلى جانب تلك الجهود الدولية، توجد جهود إقليمية مبذولة من قبل هيئة إيجاد تدعو إلى ما دعت إليه القوى الدولية المختلفة. وتقدمت جيبوتي عن طريق رئيسها بمبادرة هادفة لعرض الوساطة ووقف الحرب، وهي مبادرة لم تجد فرص الخروج في مهدها ولم تحظى بالموافقة أوالترحيب من الجانبين المتحاربين وربما كانت الوساطة الإثيوبية وموقف الولايات المتحدة كانا هما الأكثر قدرة على إحداث اختراق ما في الموقف الحربي، حيث أرسلت إثيوبيا بداية شهر مارس وفدا زار هرجيسا وجروي والتقى المسؤولين هنا وهناك وكذلك أعضاء ممثلين عن السلطة المعلنة في لاس عانود والمجلس الأعلى المكون من 45 عضوا، كما أن الولايات المتحدة، أرسلت وفدا بقيادة نائب سفيرها في الصومال إلى هرجيسا في نهاية فبراير والتقى مع رئيس نظام هرجيسا السيد موسى بيحي وقوى سياسية مختلفة أخرى في هرجيسا ،ودعت إلى وقف فوري غير مشروط لإطلاق النار وشجب استمرار العنف وفقدان الأرواح، وطالبت سحب الجيوش إلى أماكن أبعد من مواقعها الحالية، وأكدت كذلك أهمية التوافق على العملية الانتخابية المقبلة والانعقاد في موعدها وفصل قضية الانتخابات عن الموقف القائم في مدينة لاس عانود، وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية كذلك، أنها ستتخذ إجرءا معينا ضد الشخصيات التابعة لسلطات هرجيسا المتورطة في عرقلة مساعي وقف إطلاق النار وقتل المدنيين والتهجيرالقسري لسكان المدينة. ومازالت الدول المهتمة بالشأن الصومالي تتواصل مع هرجيسا وتضغط عليها من أجل الجنوح إلى التهدئة في الموقف ووقف إطلاق النار وسحب الجيش إلى خطوط بعبدة عن خط المواجهات الحالية دون أن يؤدي ذلك إتخاذ خطوة عملية في هذ الأتجاه .
موقف الدولة الصومالية والقوى الوطنية الأخرى
كان للدولة الصومالية موقف عن طريق وزارة الداخلية وبيانها الصادر في نهاية شهر فبراير، وأكدت اعتقادها بأن الأزمة سياسية بالدرجة الأولى، وأنه لا يمكن حلها مطلقا باستخدام القوة، وأن الحل قائم على تقدير رغبة سكان أهالي سول ولا يوجد مسار آخر يمكن من خلاله الوصول إلى الحل النهائي في الموقف، وتدعو إلى وقف إطلاق النار الفوري، وأن يكون المسؤولون في الجانبين طليعة في تحقيق تلك المهمة، وأن الدولة ماضية في تحمل مسؤوليتها في الالتزام بالمبادئ الدستورية وحماية السيادة والوحدة الترابية للبلاد، وأنها ترحب بموقف أهالي المحافظة وتكون هي جاهزة في العمل من أجل استتاب الأمن والاستقرار السياسي في المحافظة. وتدعو الصوماليين والهيئات المحلية والدولية إلى تقديم المساعدات الإنسانية إلى المدنيين المتضررين من الحرب، كما أنها تحث العلماء والأعيان إلى المساهمة في إخماد لهيب الحرب الدائرة في لاس عانود.
وكانت هناك دعوة صادرة من رئيس الجمهورية السيد حسن شيخ محمود في أكثر من منبر ومناسبة تدعو إلى تفس الإتجاه وأكّد استعداد الدولة يتسهيل الحوار، وعين رئيس الجمهورية مبعوثا خاصا يعمل على حل القضية بالدرجة الأساسية. وإلى جانب ذلك، هناك أصوات أخرى في البلاد على المستوى العام يتطابق موقفها مع الأصوات الداعية إلى وقف إطلاق النار وبعضها مسموع من داخل صومالاند ذاتها، وتدعو إلى وقف النار واللجوء إلى التفاوض والحوار ولكنها لم تسجل موفقفها بشأن القضايا الخلافية السياسية بين الطرفين المتحاربين . ويبدو أن تلك الدعوات التي صدرت وتصدرمن الجهات الرسمية وغيرالرسمية على المستويات المختلفة لم تؤدي بعد لا إلى وقف إطلاق النار ولا إلى انسحاب الجيوش من مواقعها القتالية وتغيير الموقف السياسي بما يمكن أن يفضي لاحقا إلى عملية سلام تحدّ الأنوية السياسية المتسيدة في الموقف السياسي القائم وتحوّل الطموحات بين الأطراف المتحاربة إلى واقع سياسي قابل للاستقرارعلى المدى المنظور ويحول دون الاستمرار في تجدد المواجهات مرة أخرى .
مآلات الحرب
في الغالب تنتهي الحروب بانتصارطرف على الآخر أولجوء طرف إلى الدخول في الصلح أوالاتفاق مع خصومه بعد اليأس من تحقيق هدفه في الحرب، أوفرض طرف ثالث قوته على وقفها. والطرفان المتحاربان في مدينة لاس عانود، لم يحقق كلاهما بعد نصرا حاسما ضد الآخر ولم يفقد الأمل في الانتصارعليه حتى وإن كان مؤجلا، ولا يوجد لا قوة وطنية قادرة على فرض وقف الحرب ولا أخرى إقليمية أو دولية مهتمة إلى أنها مستعدة لفرض وجودها العسكري،هذا فضلا عن أن الطرفان لم يصلا بعد إلى موقف يعتقد فيه أحدهما أنه لا يستطيع تحقيق هدفه بالقوة العسكرية، وبالتالي يبدو أن كل طرف يعض شفتاه وأنه في طريقه إلى الاستعداد للحرب والبحث عن مصدر الدعم لدحرالطرف الآخر، ومن ثمّ لم نصل بعد إلى مرحلة يمكن الحديث فيها عن نهاية الحرب القريبة بقدرما يمكن الحديث فيها عن استجداد حالة سياسية في المشهد الصومالي برمته تفرض تأثيرها بشكل خاص على الأوضاع السياسية القائمة والانتخابات المنتظرة في بونت لاند وصومالاند في بداية العام المقبل، وتساهم على إفراز وجوه مدنية في هرجيسا تأخذ مسلكا مختلفا وأخرى في بونت لاند تتبنى موقفا أكثر وضوحا في الموقف الرمادي القائم حاليا .
ووفق المعطيات في الحروب المعاصرة القائمة في المنطقة، فإنها تأخذ أكثر من وقتها المتوقع أو المخطط من قبل بادئيها بما في ذلك الحرب في اليمن أوإثيوبيا المجاورتين في ميدان الحرب، وغالبا ما تتحول إلى حرب مستنزفة مرهقة في الأرواح وليس حربا خاطفة تؤدي إلى أوضاع جيوسياسية جديدة. ويبدو أن الحرب الدائر في لاس عانود ستأخذ قضية أوقصة هرجيسا إلى إتجاه مختلف يتراجع فيها منسوب تعاطف القوى السياسية الدولية والإقليمية نحوها وتتآكل فيها مصداقية مسيرتها السياسية المتناقضة مع سلوكها الحربي ويؤثر سلبا على فرص النجاج في مستقبل الحواربينها وبين الدولة الصومالية الفيدرالية المرتقبة ويقوض توافق وتماسك نسيجها الاجتماعي في شرعية وعدالة قضاياها، وربما تحول الحرب مستوى الاهتمام والتعاطف في قضاياها إلى لاس عانود وسول في الفترة المقبلة. والحرب القائمة في لاس عانود، خلقت أوضاعا سياسية مختلفة الإتجاهات من الصعب تجاوزها بسهولة وذلك على الأقل في ظل الإدارة الحالية القائمة في هرجيسا وانتجت مجموعة من الأسئلة الحقيقية أوالأطروحات الفكرية ذات الصلة بالاعتبارات المفترض اعتمادها في الإدارات الإقليمية القائمة في البلاد.
واللافت للنظر، أن البيئة السياسية المناسبة لوقف الحرب غير مواتية في الوقت الحالي، وتوافر تلك البيئة مرتبط بهرجيسا أكثرمن لاس عانود في هذه المرة، ولا أظن أن ذلك يتأتي إلا بعد حدوث تغيير في القيادة السياسية الحربية في هرجيسا أوالقيام بمراجعات جذرية في خطابها السياسي غير المتماسك في أهدابه أوغير المتين في طرحه، حيث أنها تريد فرض ما رفضته هي سابقا من السلطة المركزية الأكثر قدرة منها في الأمس القريب، ومتوهمة في تحقيق تصورها السياسي المنطلق في أن القوة العسكرية هي الضامنة في تماسك الوحدة الجغرافية للسلطة، وتتشبث أو تقدس هي أصلا بحدود موضوعة للفصل بين قبيلتين وليس تحديدا لمناطق النفوذ بين الاستعمار البريطاني والإيطالي ومستمرة في إطلاق تصريحات واتهامات سياسية مكدّرة لطبيعة الوضع وغيرمتوافقة مع سلوكها الميداني، كما أنه من الناحية الأخرى، يجب على سول، أن تدرك بأن الانفعال لا يحقق الطموحات السياسية، وأن ما بينها وبين هرجيسا من روابط جغرافية وثقافية ودم ومصير مشترك لا يمكن أن يمحوه الغضب ويطمسه التصرف السياسي غير الرشيد الآتي من سلطة منتهية الصلاحية رغم الآلام والأنين التي خلفتها الأوضاع المذكورة أعلاه، ولايوجد أي سلطة أو إدارة إقليمية قائمة على الامتداد العشائري أو القبلي، ويعتبر التنوع في الانتماء العشائري والتعدد الجغرافي أساسا لتأسيس أوتشكيل الولايات وفق الدستور الحالي للبلاد وبالتالي يجب عليها ضمّ أطرافها الممتدة إلى أكثر من جهة جغرافية غير منسجمة على بعضها البعض وتوحيد أصواتها المسموعة في مشاريع سياسية متناقضة وأيجاد آليات لتجاوزحالة الغضب والغليان وتحويل المطالب السياسية إلى صيغة سياسية جامعة قابلة للنقاش السليم أوالتوافق في سكان محافظتي سول وسناج.
وأخير، يعتبر الحرب الدائرة في مدينة لاس عانود بؤرة من البؤر السياسية الجديدة على المشهد الصومالي وليس مجرد حدث أوموقف حربي عابر يختفي أويذوب سريعا وربما يحمل في طياته تغيرات جيوسياسية مقبلة على الخريطة السياسية في البلاد، ويمكن أن يكون بداية للانتقال من أوضاع سياسية سائدة في البلاد في العقدين الأخيرين إلى أوضاع أكثر عرضة لاحتمالات مختلفة. ومن البديهي معرفة أي أن حرب حقيقي ما، خصوصا إذا طال أمدها، وخلفت خسائر فادحة، ويسود بين أطرافها اعتقادات يقينية في صواب قضاياها، فإنها ما تؤدي إلى نهاية سياسية حقيقية ونتائج جيوسياسية حتمية، وأن إدارة طبيعة تلك الحرب وليس المعركة هو الذي يحدّد على طبيعة تلك النتائج السياسية، وأن أي تأخر حل ساسي قادم أومتلقف من هرجيسا يكون لصالح لاس عانود وليس العكس، وأن المساحة والخيارات التي تملكها هرجيسا لاحتواء الموقف الحربي أكبر بكثير من مساحة لاس عانود في وقف الحرب، ومن ثمّ، فان التشبث بماضي تليد بمجرد أنه الماضي لا يقدم جديدا ولا يؤدي إلى نتيجة توافقية، كما أي حرب يغيب عنها البعد الساسي أويحدث فيها خلل في التوازن بين الرؤية السياسية والموقف الحربي لا يفرز عنها حلول سياسية واقعية، ولكن في كل الأحوال، يجب التأكد على أن المساعي السياسية غير الصومالية الجارية والهادفة إلى وقف إطلاق النار وتهدئة الوضع متسقة مع الموقف الرسمي للدولة الفيدرالية وتسير جنبا إلى جنب مع المواقف الأخرى المختلفة والمحلية المسموعة من الشمال والجنوب والجادة في رغبة وقف إراقة الدماء وإنهاء شبح الحرب البادي في الأفق .