إعداد: فريق المركز
تمهيد
قام وزير الخارجية الروسية بجولة إفريقية، خلال مطلع شهر فبراير 2023 الحالي وهي الزيارة الخامسة له لإفريقيا في ظرف 6 أشهر والثانية في أقل من شهر، بعد الزيارة الأخيرة التي أداها في شهر يوليو 2022 لكل من مصر، وإثيوبيا، وأوغندا، وجمهورية الكونغو، واسوا تيني، التي ذكر فيها بيان الخارجية الروسية أنها جاءت لمناقشة الأجندة الدولية والإقليمية لروسيا والتعاون الثنائي بينها وبين إفريقيا. وأما هذه الجولة الثانية التي بدأت في أواخر شهر يناير 2023 والتي كانت بدايتها من جنوب إفريقيا من ثم أنغولا وإريتريا وهي تحضيرا للقمة الروسية الإفريقية الثانية المزمع إقامتها في شهر 28/29 جويلية القادم 2023، لتعقبها الزيارة الثانية خلال مطلع فبراير الحالي لكل من السودان، ومالي، وموريتانيا، وهي تندرج أيضا ضمن التصريحات الروسية للتحضير للقمة الإفريقية الثانية.
أهم ما جاء في الجولة الثانية للافروف في إفريقيا
– مالي
كانت أولى محطات زيارة لافروف الثانية لإفريقيا في أقل من شهر إلى العاصمة المالية باماكو، وهي الزيارة الأولى للافروف للعاصمة المالية وأكثر دولة تمتلك فيها روسيا نفوذا في القارة، حيث اختتمت زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الودية والعملية إلى مالي يوم الثلاثاء 7 فبراير. خلال إقامته التي استمرت أقل من 24 ساعة، بالإضافة إلى جلسة عمل مع نظيره المالي عبد الله ديوب، استقبل رئيس المجلس العسكري المالي، العقيد أسيمي غويتا، رئيس الدبلوماسية الروسية. ووعد بمساعدة بلاده في مالي ودول الساحل ضد الجهاديين. وغرد وزير الخارجية الروسي لافروف في تويتر تعليقا على نتائج الزيارة قائلا: “ناقشنا كل ما يؤثر على مصالح روسيا ومالي في صياغة خططنا التنموية بما يتماشى مع مصالح شعوبنا.” ويؤكد الجانب الروسي دائما على دعمه في منطقة الساحل للحكومات المحلية لمكافحة ظاهرة الجهاديين إلا أن الإستراتيجية الرسمية الروسية تبقى غير معلنة إلى حدود القمة الروسية الإفريقية التي تعتزم روسيا من خلالها الإعلان عن توجهاتها في القارة ومشاريعها الملموسة.
– موريتانيا
كانت المحطة الثانية لسيرجي لافروف في العاصمة الموريتانية نواكشط صباح يوم الإربعاء 8 فيفري، حيث التقى رئيس الجمهورية محمد ولد الغزواني وتناول اللقاء بينهما مسألتين أساسيتين، أولهما القضايا الأمنية في منطقة الساحل، فموريتانيا تعتبر دولة ذات ثقل كبير في مجموعة دول الساحل الخمس، كما أنها عمق إستراتيجي لمالي التي تتمتع فيها موسكو حاليا بالنفوذ الأكبر، أما الموضوع الثاني فقد كان حول ملف الصحراء الغربية، كما أن الجانب الروسي طرح مسألة التعاون مع موريتانيا في مجالات البنية التحتية والطاقة، ولم يخرج اللقاء بأي نتائج ملموسة فقط تصريحات لافروف حول مزيد التعاون مع موريتانيا في مكافحة الجماعات الجهادية المتمركزة بمنطقة الساحل والصحراء، والدعوة إلى تنفيذ قرارات مجلس الأمن فيما يتعلق بملف الصحراء الغربية.
– السودان
مثلت الخرطوم العاصمة السودانية المحطة الثالثة والأخيرة للافروف في جولته الإفريقية الثانية، إذ وصل إليها يوم الخميس 9 فبراير والتقى هناك برئيس المجلس العسكري الفريق عبد الفتاح البرهان وبالفريق حميدتي كل على حده، بسبب التوتر بين الرجلين حيث يعتبر حميدتي الأكثر قربا من موسكو حيث يحتضن قوات فاغنر في إقليم دارفور، وتأتي هذه الزيارة بعد يوم واحد فقط من زيارة وفد ديبلوماسي أوروبي رفيع المستوى لكل من (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، النرويج وممثلين عن الاتحاد الأوروبي)، وهذا ليس من باب المصادفة وتبرز مدى قوة صراع الاستقطاب بين كل من موسكو وواشنطن حلفائها في السودان بصفة خاصة وإفريقيا بصفة عامة.
كالعادة تحدث لافروف في ندوة صحفية بعد اللقاء حول ما تم تداوله، حيث أشار إلى أنه تم مناقشة التعاون الاقتصادي بين البلدين، وإلى مشروع القاعدة البحرية الروسية بميناء السودان التي تم تعطيلها، ولم يتم الإعلان عن الخروج بأي اتفاقات ملموسة بين البلدين كالعادة، وهو ما تؤجله روسيا إلى القمة الروسية الإفريقية المزمع إقامتها خلال هذا العام ويعطله على الجانب السوداني عدم وجود حكومة ومجلس تشريعي يصادق على المشروع.
عن ماذا تبحث روسيا في إفريقيا؟
تسعى روسيا حاليا عبر هذه الزيارات والقمة الروسية الإفريقية القادمة للتواجد بقوة في القارة وتعزيز نفوذها فيها، فروسيا حاليا تتواجد عبر قوات فاغنر في عديد الدول الإفريقية أبرزها مالي، ليبيا، إفريقيا الوسطى، السودان، الكاميرون، وتبرز الإستراتيجية الروسية في إفريقيا على ثلاث مستويات:
– أولا المستوى الديبلوماسي
تسعى موسكو لحشد أكبر دعم إفريقي لها داخل أروقة الأمم المتحدة، حيث انتهجت أغلب الدول الإفريقية الحياد فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية كما أنها امتنعت عن التصويت لإدانة العملية العسكرية الروسية بها، هذا الموقف دفع بروسيا للتعهد بمساعدة الدول الإفريقية الفقيرة المتضررة بسبب أزمة القمح وذلك للحفاظ على الموقف الإفريقي فيما يتعلق بالحرب الروسية.
لذلك تحاول موسكو الإبقاء على علاقات ديبلوماسية متينة مع الأفارقة للحفاظ على هذا الموقف وعدم استمالتهم من قبل الدول الغربية. حيث تحولت القارة الإفريقية إلى مسرح صراع دولي كبير واستقطاب ثنائي بين القوى الغربية وموسكو منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية.
– على المستوى الاقتصادي
تسوق روسيا نفسها في المجال الاقتصادي في إفريقيا على أنها لها القدرة بأنها توفر للقارة عنصران أساسيان، يتمثل العنصر الأول فيما يتعلق بالأمن الغذائي، فموسكو بإمكانها توفير الحاجيات اللازمة للحبوب والأسمدة بالرغم من أن العقوبات الامريكية المسلطة على روسيا تمنع الدول الإفريقية من التعاون معها في هذا المجال وهو ما طرحه رئيس الإتحاد الإفريقي مؤخرا خلال القمة الأمريكية الإفريقية بأن تحترم واشنطن الشراكات الروسية الإفريقية في مجال الاقتصادي، وهو ما يدل على التوجه الإفريقي نحو موسكو، ومساعي روسيا لإيجاد أسواق ضخمة لتعويض الأسواق التي خسرتها جراء العقوبات المسلطة عليها بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
وهو ما كان من بين أحد ابرز أهداف الزيارة للسودان حيث تحظى روسيا في موريتانيا ببعض الامتيازات المتعلقة بصيد السمك في المياه الموريتانية، إلا أن لافروف دعا نواكشوط هذه المرة إلى تعاون في مجال البنية التحتية ومساعدة موريتانيا في مجال الطاقة عبر إستخراج الثروات الباطنية، حيث بدأت موريتانيا مؤخرا تدخل ضمن عمالقة الغاز الطبيعي بعد اكتشاف كميات هائلة منه في أراضيها.
– على المستوى الأمني
قدم لافروف خلال زيارته الأخيرة لمالي وعودا لكل دول الساحل وغرب إفريقيا من العاصمة باماكو على استعداد روسيا لتقديم التعاون العسكري واللوجيستي لمحاربة الجماعات الإرهابية، وكانت هذه الزيارة الأولى للافروف إلى العاصمة المالية باماكو التي يتعاظم فيها النفوذ الروسي عبر مجموعة فاغنر التي عقدت تحالفا مع المجلس العسكري الجديد في مالي وتعهدت بحمايته ومساعدته في حربه على الجماعات الجهادية وهو ما تسبب في إنسحاب قوات برخان الفرنسية من البلاد.
كما أن لافروف خلال زيارته للسودان تناول مسألة تعطيل المجلس العسكري لقرار إنشاء قاعدة بحرية روسية على سواحل البحر الأحمر، حيث قال أن موسكو في إنتظار موافقة البرلمان السوداني، حيث تعطيل هذه الإتفاقية من قبل المجلس العسكري بعد الإطاحة بعمر البشير والتوجه نحو التقارب مع واشنكن وتل أبيب مما تسبب في رفع إسم السودان من القائمة أمريكا السوداء.
– سد فراغ القوى الغربية في إفريقيا
لأن صراع القوى العالمية في إفريقيا سابق للحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن وتيرتها تصاعدت منذ اندلاعها وخاصة مع تبني موسكو لشعار عالم متعدد الأقطاب، لطالما هاجم لافروف في خطاباته ما أسماه النهج الإستعماري الجديد لفرنسا والغرب في إفريقيا، وفي ظل تراجع النفوذ الفرنسي الواضح والرفض الشعبي الذي أصبحت تواجه فرنسا في دول الساحل وغرب إفريقيا تطرح روسيا نفسها كبديل للدول الإفريقية عبر تبني مبدأ العلاقة القائمة على الشراكة لا الهيمنة كما هي العلاقة مع الدول الغربية، كما أن نية موسكو إقامة القمة الروسية الإفريقية ما هو إلا رد على القمة الأمريكية الإفريقية ومحاولة طرح نفسها كمنافس قوي وجدي لواشنطن وحلفائها في القارة.
وإن حققت روسيا نجاحا هو الأكبر في مالي من ناحية الهيمنة العسكرية وترفيع حجم مبادلات الاقتصادية مع باماكو إلى 20% خلال العام الماضي عبر تصدير القمح والطاقة إلى مالي بالرغم من العقوبات المفروضة عليها إلا أنها لازالت لا تمتلك الثقل التجاري للصين في القارة الذي يصل ل 200 مليار دولار أمريكي هو حجم التجارة الصينية في القارة وحجم التجارة الأمريكية يصل ل50 مليار دولار أمريكي سنويا في حين حجم التجارة الروسية يصل فقط ل 20 مليار دولار أمريكي وهو ما تحاول روسيا تغييره.
كما أن الولايات المتحدة الأمريكية نزلت مؤخرا بكل ثقلها في القارة الإفريقية لمحارية التواجد الروسي رفقة حلفائها الغربيين، على غرار مساعي واشنطن الديبلوماسية بعد عقد القمة الأمريكية الإفريقية في شهر ديسمبر 2022 ووعود واشنطن لمساعدة الأفارقة، وتحركاتها الأخيرة في ليبيا للضغط على القوى الليبية في شرق البلاد لطرد قوات فاغنر الروسية، كم أن ألمانيا نزلت بثقلها في القارة ومؤخرا في قمة دول بحيرة حوض تشاد بتقديمها 100 مليون يورو مساعدات لدول الحوض، كما أنها أرسلت لمالي 300 جندي لدعم المجلس العسكري المالي.
خاتمة
تحقق موسكو نجاحات كبيرة في القارة الإفريقية وخاصة في غرب القارة حيث بدأ التواجد الفرنسي التقليدي بالضعف والتقلص، ومع ذلك تواجه تحديات كبيرة كالصراع الدولي ونزول واشنطن رفقة حلفائها الغربيين مؤخرا بكل ثقلها في القارة لمكافحة التغلغل الروسي بالقارة، ومع ذلك تطرح روسيا نفسها كبديل للغرب وشريك حقيقي للأفارقة عكس الغرب الذين يتعاملون مع القارة بمنطق الوصاية والأبوية، كما أن أغلب الديكتاتورية العسكرية في القارة لن تجد إشكالية في التعامل مع الروس بسبب عدم استعمالهم لورقة الضغط المتمثلة في التذرع بحقوق الإنسان والحريات، كما أن روسيا ليست حاملة للتوجه الغربي وخاصة فرنسا فيما يتعلق بنهب الثروات وتفقير الشعوب وهو ما يخلق حظوظا كبيرة لموسكو عند الطبقة السياسية والشعبية وهو ما يتجلى مؤخرا في عديد الدول الإفريقية. ولكن دائما يبقى السؤال هو هل ينجح الأفارقة في توظيف هذا الصراع لصالحهم؟.