شهدت غينيا بيساو، صباح السادس والعشرين من نوفمبر 2025، تحولًا سياسيًا حادًا بعد إطلاق نار قرب القصر الرئاسي، أعقبه إعلان ضباط في الجيش تولّي السلطة واعتقال الرئيس عمر سيسوكو إمبالو داخل مكتبه قبل نقله إلى منشأة عسكرية.
وبعد ساعات، ظهر بيان عسكري على التلفزيون الرسمي معلنًا تعيين الجنرال هورتا إنتا أ نا (Horta N’Tah Ana) قائدًا للمجلس العسكري الجديد، في مؤشر واضح على أنّ ما جرى لم يكن انقلابًا تقليديًا بقدر ما كان انعكاسًا لانقسام داخلي داخل المؤسسة العسكرية نفسها. وقد زاد المشهد تعقيدًا استمرار قدرة إمبالو على التواصل مع الخارج، في سابقة لا ترافق عادة الانقلابات المحكمة في غرب إفريقيا.
يأتي هذا التطور في سياق سياسي متوتر تشكل عبر سنوات من الصراع بين الرئاسة والمعارضة، وتاريخ طويل من الانقلابات المتكررة، وتراجع الثقة في آليات الانتقال الديمقراطي. كما أن تزامنه مع عملية انتخابية متنازع عليها أعاد طرح سؤال الشرعية السياسية في بلد يعاني هشاشة مؤسسية ممتدة.
في هذا التقرير، يعالج مركز أفروبوليسي خمس قضايا أساسية لفهم ما جرى وما قد يحدث لاحقًا:
- الخلفية التاريخية للصراع على السلطة في غينيا بيساو
- تسلسل أحداث 26 نوفمبر ودلالاته السياسية
- الفاعلون الرئيسيون وأدوارهم في لحظة التحول
- الانقلاب في سياقه الإقليمي وموقعه داخل موجة التحولات في غرب إفريقيا
- المسارات المحتملة لمستقبل السلطة في البلاد
وتهدف هذه القراءة إلى مساعدة صنّاع القرار والباحثين والمهتمين بالشأن الإفريقي على فهم طبيعة الأزمة وحدود التحول السياسي في إحدى أكثر دول غرب إفريقيا قابلية للاضطراب.
أولا: الخلفية التاريخية للصراع على السلطة في غينيا بيساو
منذ الاستقلال عام 1974، لم ينجح النظام السياسي في غينيا بيساو في بناء مؤسسات قادرة على إدارة التنافس السياسي بصورة مستقرة. فقد ظلت بنية الدولة منقسمة بين إرث حرب التحرير، وتوازنات القوى داخل حزب (PAIGC) الذي قاد الكفاح الوطني، وبين نخب جديدة صعدت لاحقًا دون أن تمتلك قاعدة تنظيمية مكافئة.
لقد أنتج هذا التنازع التاريخي حالة من التشظي داخل الطبقة السياسية، وبات الجيش – بحكم دوره في تأسيس الدولة – طرفًا حاضرًا في كل انتقال للسلطة تقريبًا.
على مدى العقود الماضية، تكررت الانقلابات ومحاولات الانقلاب في البلاد، ما رسّخ ثقافة سياسية تُعلي من “الفعل العسكري” كآلية لحل الأزمات أكثر من الاحتكام إلى المؤسسات الدستورية.
فمع انقلاب 1980، والحرب الأهلية في أواخر التسعينات، وانقلاب 2012، ثم محاولات 2022 و2023، باتت السلطة تنتقل غالبًا عبر موازين القوى داخل الجيش، لا عبر صناديق الانتخابات. هذا التراكم خلق حالة من عدم الثقة بين الرئاسة والبرلمان والمؤسسة العسكرية، وأضعف أي أفق لبناء سلطة مدنية مستقرة.
وفي السنوات الأخيرة، تزايدت حدة الانقسامات مع وصول عمر سيسوكو إمبالو إلى السلطة عام 2020، بعد انتخابات متنازع عليها ومعارضة قوية من حزب (PAIGC). فقد أقدم الرئيس على حلّ البرلمان أكثر من مرة، واتُهم بإضعاف المؤسسات وإقصاء خصومه السياسيين، في مقابل خصوم يرون أنفسهم الوريث السياسي الشرعي للدولة. هذا السياق هو الذي فتح الطريق أمام الأزمة الحالية، وجعل الانتخابات الأخيرة نقطة تراكم لانعدام الثقة، وساحة لاختبار موازين القوة القديمة والجديدة في البلاد.
ثانيا: تسلسل أحداث 26 نوفمبر ودلالاتها السياسية
انطلقت شرارة الأزمة في فجر 26 نوفمبر عندما سُجّل إطلاق نار كثيف في محيط القصر الرئاسي ومقار حساسة في العاصمة بيساو. خلال ساعات، بدا المشهد أكثر تعقيدًا من مجرد اضطراب انتخابي، إذ انتشرت وحدات من الجيش في محيط المؤسسات، بينما تصاعدت المخاوف من مواجهة مفتوحة بين أجنحة الأمن. لم يكن واضحًا حينها أي طرف يسيطر فعليًا على الوضع، ما يعكس أن الميدان كان موزّعًا بين عدة قوى أمنية متنافسة.
بعد الاضطراب الميداني الأولي، ظهر عدد من الضباط على التلفزيون الحكومي لإعلان “استلام السلطة” و“تعليق المؤسسات”، وهي صياغة مألوفة في الانقلابات السابقة في غرب إفريقيا. لكن المشهد تميّز بخصوصية لافتة: الرئيس إمبالو أعلن لوسائل إعلام فرنسية أنه ما يزال قادرًا على التواصل، وأنه محتجز “من دون عنف” داخل مكتبه. هذا الوضع غير التقليدي يعكس أن الانقلاب لم يكن محكمًا بالكامل، وأن الجهات المنفذة لم تكن قادرة على إخضاع كامل أجهزة الدولة.
وفي وقت لاحق، أعلن الجيش تعيين الجنرال هورتا إنتا أ نا (Horta N’Tah Ana) قائدًا للمجلس العسكري، بالتزامن مع اعتقال رئيس الأركان الجنرال بياغي نا نطان ونائبه. هذا التزامن يكشف بوضوح أن ما حدث لم يكن انقلابًا كلاسيكيًا صاعدًا من المؤسسة العسكرية ككتلة واحدة، بل “انقلاب داخل الانقلاب”: صراع حاد بين أجنحة الجيش نفسها، أحدها مقرب من الرئيس، والآخر سعى لاستباق نتائج الانتخابات أو إعادة تشكيل خريطة السلطة قبل تثبيتها رسميًا.
ثالثا: الفاعلون الرئيسيون وأدوارهم المتشابكة
يمثل الرئيس المخلوع عمر سيسوكو إمبالو أحد أهم عناصر المشهد. فقد خاض الانتخابات الأخيرة وهو محاط بجدل دستوري حول نهاية ولايته، وتاريخ من المواجهات مع المعارضة التي اتهمته بمحاولة احتكار السلطة. قدرته على التواصل خلال الانقلاب تعكس أن شبكة النفوذ داخل القصر الرئاسي لم تنهَر بالكامل، وأن جزءًا من المؤسسة الأمنية لم يكن راغبًا في دعم الانقلاب أو لم يستطع حسم موقفه سريعًا، ما يعكس هشاشة منظومة القرار داخل الدولة.
على الجانب الآخر، برز المرشح المنافس فرناندو دياس وتحالف Terra Ranka – PAI بقيادة دومينغوس سيمويس بيريرا، حيث رأى هذا التيار أن الانقلاب جاء نتيجة إدراك الرئيس بأنه خسر الجولة الأولى من الانتخابات. المعارضة لم تكتفِ بوصف الحدث “انقلابًا على النتائج”؛ بل طرحت سردية مضادة مفادها أن إمبالو نفسه حاول “صناعة انقلاب مضاد” لتعطيل العملية الانتخابية. هذا النزاع السردي يكشف عمق انعدام الثقة بين النخب السياسية، وأن كل طرف ينظر إلى مؤسسات الدولة كأدوات في يد خصم سياسي.
أما الجيش، فقد ظهر في صورة مؤسسة منقسمة داخليًا. اعتقال رئيس الأركان بالتزامن مع إعلان تشكيل المجلس العسكري يؤكد أن الانقلاب جزء من صراع طويل داخل المؤسسة العسكرية حول النفوذ والمناصب العليا، وليس مجرد تحرك سياسي منسجم. هذا الانقسام يُعدّ من أخطر عناصر المشهد، لأنه يفتح الباب أمام احتمالات تكرار الانقلابات، أو دخول البلاد في دوامة من الصراع الأمني الداخلي.
إقليميًا، تحركت الإيكواس والاتحاد الإفريقي بسرعة لإدانة ما جرى، كما صدرت مواقف فرنسية وبرتغالية تعبّر عن القلق من المسار الانقلابي، وتطالب باستكمال العملية الانتخابية. هذه المواقف لا تغير موازين القوة داخليًا، لكنها تضع الانقلابين تحت اختبار الشرعية وتخلق بيئة ضغط سياسية قد تُجبر الأطراف المحلية على تقديم تنازلات.
رابعا: الانقلاب في السياق الإقليمي لموجة التحولات في غرب إفريقيا
يشهد غرب إفريقيا منذ عام 2020 موجة متصاعدة من الانقلابات التي أعادت الجيوش إلى مركز السلطة السياسية، كما حدث في مالي، وغينيا كوناكري، وبوركينا فاسو، والنيجر. يعكس هذا النمط تراجع فعالية المؤسسات المدنية، وتنامي الشعور الشعبي بأن الأنظمة السياسية القائمة عاجزة عن تقديم حلول لأزمات الأمن والاقتصاد. في هذا السياق، يأتي انقلاب غينيا بيساو كحلقة جديدة في سلسلة إقليمية تتجه نحو تغيير شكل السلطة بصورة أكثر جذرية.
لكن خصوصية غينيا بيساو تكمن في أن الانقلابات فيها غالبًا “داخلية” أكثر منها “احتجاجية”، بمعنى أنها مرتبطة بصراع النخب لا بحركات اجتماعية واسعة. فهي دولة صغيرة الحجم، شديدة الهشاشة، ومخترقة تاريخيًا من شبكات الجريمة العابرة للحدود، خصوصًا تهريب المخدرات من أمريكا اللاتينية عبر ساحل المحيط الأطلسي. هذا الواقع يجعلها ساحة مفتوحة للتنافس بين مراكز قوة صغيرة داخل الدولة، وليس بين مشاريع سياسية واضحة.
وتتعزز هذه الهشاشة مع تقلص نفوذ فرنسا في المنطقة وصعود فاعلين دوليين جدد، مثل روسيا، ومحاولة البرتغال الحفاظ على ارتباطها التاريخي بالبلاد، والتزام الإيكواس بالعودة إلى النظام الدستوري. كل هذه الديناميات تجعل مستقبل غينيا بيساو مرتبطًا ليس فقط بصراع النخب الداخلية، بل أيضًا بقدرة القوى الإقليمية والدولية على فرض تسوية قابلة للاستمرار.
خامسا: المسارات المحتملة للمشهد السياسي
مع انكشاف ملامح الانقسام داخل المؤسسة العسكرية وتباين روايات الأطراف السياسية حول ما جرى، يبرز السؤال الجوهري: إلى أين يتجه المشهد السياسي في غينيا بيساو بعد انقلاب 26 نوفمبر؟
لا يتعلق الأمر هذه المرة بمجرد انتقال قسري للسلطة، بل بصراع أعمق حول قواعد اللعبة نفسها، وحول شكل الدولة وقدرتها على إنتاج استقرار سياسي دائم.
وفي ظل الضغوط الإقليمية، وتعقيد المشهد العسكري، وتآكل الثقة داخل المجتمع السياسي، تبدو الخيارات المتاحة محدودة لكنها تحمل آثارًا بعيدة المدى.
انطلاقًا من هذه المعطيات، يمكن تصور ثلاثة مسارات رئيسية قد يتجه إليها الوضع خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.
- ترسيخ سلطة المجلس العسكري: قد يحاول المجلس العسكري توطيد حكمه عبر تشكيل حكومة انتقالية ومنح وعود بإعادة الانتخابات. نجاح هذا المسار مشروط بقدرته على كسب موقف الإيكواس أو تحييدها، وهو أمر صعب نظرًا لصلابة موقف المنظمة ضد الانقلابات.
- العودة إلى المسار الانتخابي تحت إشراف إقليمي: الضغط الدولي يمكن أن يدفع الأطراف إلى اتفاق لإعادة العملية الانتخابية بضمانات واسعة. هذا السيناريو يوفر مخرجًا لجميع الأطراف، لكنه يتطلب تنازلات كبيرة من العسكر والرئاسة والمعارضة.
- استمرار حالة السيولة السياسية: وهو مسار قائم بقوة إذا لم يستطع أي طرف فرض تسوية. قد تبقى البلاد في حالة “جمود مضطرب”، يُعاد فيها تشكيل التحالفات داخل الجيش والنخب السياسية دون الوصول إلى استقرار حقيقي.
الخاتمة
لقد كشفت أحداث 26 نوفمبر أن انقلاب غينيا بيساو ليس مجرد تغيير قسري في قمة السلطة؛ بل تعبير عن اختلال أعمق في بنية الدولة نفسها. فقد ظهر مجددًا أن المؤسسات الانتخابية غير قادرة على إدارة انتقال سياسي متوافق عليه، وأن الجيش ما يزال فاعلًا مقرّرًا في لحظات الفراغ والارتباك، بينما تعجز النخب المدنية عن إنتاج توافق مستدام.
ومع دخول البلاد مرحلة ما بعد الانقلاب، يتحدد مستقبل المسار السياسي بمدى قدرة الفاعلين المحليين على بناء تسوية تضمن الحدّ الأدنى من الشرعية، وتسمح بعودة العملية الانتخابية دون تكرار السيناريوهات السابقة. أما الفاعلون الإقليميون والدوليون، فرغم تأثيرهم النسبي، لن يكونوا قادرين على فرض حلّ ما لم توجد إرادة داخلية للخروج من دوامة إعادة إنتاج الأزمات.
باختصار، تقف غينيا بيساو اليوم أمام مفترق حساس: إما إعادة بناء قواعد انتقال السلطة بما يمنع تكرار الانقلابات، أو البقاء في دائرة عدم الاستقرار التي ميزت تاريخها السياسي لعقود. ويبقى المسار النهائي مرهونًا بقدرة الأطراف على تجاوز منطق اللحظة، والانخراط في رؤية أوسع تضع الدولة فوق تنازع القوى.

