تعتبر تصفية عبد الغني الككلي المعروف بغنيوة أحد أبرز الشخصيات المليشياوية الليبية وصاحب النفوذ الكبير في طرابلس يوم 12 ماي 2025، حدث بارز في ليبيا، فمنذ انهيار نظام القذافي عام 2011، وقعت ليبيا في دوامة طويلة من حكم الميليشيات، وتفكك المؤسسات، والتدخل الخارجي. وقد وفر الفراغ الذي خلفه سقوط الدولة المركزية بيئة خصبة لظهور عشرات الجماعات المسلحة. لم تكن هذه الميليشيات مجرد أدوات للسلطة والإكراه، بل كانت أيضا آليات غير رسمية للحكم، تسيطر على الأحياء والموانئ والمطارات وأجزاء من النظام المالي.
ومن بين هذه الجماعات، كان عبد الغني الككلي، المعروف باسم غنيوة، من أشهر الشخصيات وأكثرها رسوخا. لم يمثل مقتله في مايو 2025 خلال اشتباكات عنيفة في طرابلس نهاية قائد ميليشيا قوي فحسب، بل شكل أيضا شرخا في شبكة غامضة امتدت لتشمل السياسة والاقتصاد والأمن الإقليمي.
ليبيا ما بعد 2011: صعود الميليشيات
أدت ثورة 2011 ضد معمر القذافي إلى تفتيت الدولة المركزية في ليبيا، مما أدى إلى ظهور عشرات الجماعات المسلحة المحلية. في ظل غياب جيش وطني أو مؤسسات قوية لتحل محل النظام، لجأت الميليشيات إلى ملء الفراغ، لتصبح الحاكم الجديد للأحياء والموانئ والمرافق الحكومية.
برز من بينهم، غنيوة الذ ينتمي إلى حي أبو سليم، وهو حي شعبي في طرابلس، كضابط محلي، قاد في نهاية المطاف إحدى أكثر القوى نفوذاً في العاصمة.
من مجرم مطارد إلى صاحب نفوذ
يجسد مسار غنيوة التحوّل الذي شهدته ليبيا ما بعد عام 2011، حيث ولد عبد الغني في بنغازي ونشأ في حي أبو سليم بطرابلس، وترك المدرسة مبكرا وسجن لأكثر من 14 عاما بتهم تشمل الاتجار بالمخدرات والقتل. ومثل العديد من السجناء الذين أطلق سراحهم خلال ثورة فيفري 2011، استغل غنيوة الفوضى والفراغ الأمني لإعادة بناء نفسه، مشكلا ميليشيا الأمن المركزي، التي تحولت لاحقا إلى جهاز دعم الاستقرار.
وعلى الرغم من تبعيته الرسمية لوزارة الداخلية، إلا أن جهاز دعم الاستقرار كان بمثابة إقطاعية شخصية، إذ لم يقتصر غنيوة على السيطرة على الأراضي فحسب، بل امتدّ أيضًا إلى ولاء مقاتلي العشائر الرئيسية، وخاصةً في حي أبو سليم، الذي أصبح معقلا حصينا.
الاتهامات والإفلات من العقاب
اتهم غنيوة مرارا وتكرارا من قِبَل منظمات حقوق الإنسان بارتكاب انتهاكات جسيمة، بما في ذلك الاحتجاز التعسفي، والتعذيب، والابتزاز، والاغتيالات، كما أنه يدير شبكة من السجون غير الرسمية، ويشرف على نظام قضائي مواز. وقد اعتمدت الحكومات المتعاقبة في طرابلس بما في ذلك حكومة الوفاق الوطني بزعامة فايز السراج، وحكومة الوحدة الوطنية بزعامة عبد الحميد الدبيبة لاحقا على ميليشياته لتحقيق الأمن والنفوذ السياسي.
وكان قرب عبد الغني من حكومة دبيبة استراتيجيا فقد سمح لغنيوة بالوصول إلى الميزانيات الرسمية، والمواقع الأمنية، وشبكات المحسوبية، بينما استخدم دبيبة نفوذه لردع المنافسين. ومع ذلك، بدأ هذا التحالف القائم على المصلحة بالتفكك وسط تحول التحالفات والتشرذم الداخلي للدولة.
مصادر الصراع الأخير
نشأ التصعيد الأخير الذي أدى إلى مقتل غنيوة من تزايد حدة المنافسة بين الميليشيات المتمركزة في طرابلس، لا سيما مع ظهور مراكز قوة جديدة مثل اللواء 444 وقائدها محمد حمزة (مصراته) وجهاز الشرطة القضائية وتصدمها مع نفوذ عبد الغني.
وبدأت هذه الجماعات، التي ورد أنها مدعومة من فصائل أخرى داخل حكومة الوحدة الوطنية بما في ذلك نائب وزير الدفاع الزعبي في تحدي قبضة جيش أمن الدولة.
كما أنا نفوذ عبد الغني المتزايد وضغطه على الدبيبة من أجل لحصول على امتيازات أكثر، وطلباته المتتالية لتعيين أشخاص تابعين أو مواليين له في مواقع داخل المنظومة الحكومية الأمنية سواء المالية، وهو ما كان يسعى له غنيوة في الفترة الأخيرة، أثارت حكومة الدبيبة عليه.
ويبدو أن مقتل غنيوة ليس حادثا معزولا، بل هو جزء من عملية إعادة تشكيل مدبرة أوسع نطاقا لخريطة الميليشيات في طرابلس، ويعكس الهجوم جهدا مدبرا لتفكيك نظام الميليشيات القديم وإعادة توزيع النفوذ سياسيا وإقليميا وماليا.
معركة صراع السيادة والمال
لم يعد الصراع على طرابلس مجرد صراع عسكري، بل هو معركة للسيطرة على قلب الجهاز الإداري والاقتصادي الليبي. ووفقا لعدة تقارير، كان لغنيوة نفوذ راسخ في مؤسسات حيوية كمصرف ليبيا المركزي، والمصرف الليبي الخارجي، وحتى المؤسسة الوطنية للنفط، ولم يكن رجاله مقاتلين فحسب، بل كانوا أيضا حراسا للتدفقات المالية.
وبمقتله، قد تواجه شخصيات نافذة مثل لطفي الحراري وأسامة تليش، المرتبطين بنخب أمنية ومالية سابقة، تراجعا في نفوذهم أو يجبرون على إعادة تقييم مواقفهم. إن الانهيار السريع لهيكل قيادة جيش ليبيا الأحرار يفتح المجال أمام ميليشيات متنافسة وتحالفات جديدة، ولكنه يفتح أيضا المجال أمام عدم الاستقرار.
التداعيات الأمنية
اتسمت التداعيات المباشرة بالفوضى. فقد أُبلغ عن سقوط ضحايا مدنيين، ونشرت وحدات طوارئ، وأُخلي مطار معيتيقة، وحولت الرحلات الجوية إلى مصراتة في إشارة إلى انعدام أمني حاد في العاصمة الليبية طرابلس. وفعلت المستشفيات بروتوكولات الطوارئ، وانتشر الخوف في الأحياء. وأعلن عن “تعبئة عامة”، مما يشير إلى احتمالية مواجهة طويلة الأمد.
وامتدت الحملة العسكرية التي قادتها الحكومة الليبية ضد جهاز دعم الاستقرار عبد الغني الككلي واللواء 555 إلى منطقة غريان أو ما يعرف بجبل الغربي جنوب العاصمة الليبية طرابلس ب 75 كم تقريبا، لتصفية جماعة غنيوة وطردهم من الجبل، بإشراف مباشر من قبل محمد حمزة وعماد الطرابلسي وزير الداخلية الليبية.
كما تم اخراج العشرات من المساجين من السجون التي كان تحت سلطة غنيوة والمجموعات التابعة لها، كما أنه تم تصفية العشرات من الشخصيات التابعة له والقاء القبض على البعض منهم، وبعد حي بوسليم وغريان، تتوجه الحملة نحو زنتان (136 كم جنوب العاصمة طرابلس) لاستكمال تصفية بقايا الجماعات التابعة لعبد الغني.
وفي اجتماع يوم 13 ماي 2025 جمع كل من الدبيبة ووزير الداخلية رفقة آمر اللواء 444 ورئيس المخابرات الليبية، قررت الحكومة الليبية حل جهاز الردع لمكافحة الإرهاب واحالة اختصاصه لوزارة الداخلية ونقل جهاز دعم الاستقرار واحالة اختصاصه للواء 444.
تداعيات إقليمية
تمتد شبكة عبد الغني الككلي إلى ما وراء ليبيا، حيث ارتبط اسمه بعمليات تهريب الذهب والأسلحة والمهاجرين، والتي تتقاطع بعضها مع جهات مسلحة سودانية وتشادية. ويقال إنه وفّر طرق دعم لبقايا نظام البشير وعناصر في دارفور وكردفان. قد يؤثر سقوطه على خطوط الدعم اللوجستي والتمويل التي يستخدمها المقاتلون الأجانب والمتاجرون العابرون للحدود وخاصة أولئك الذين يعتمدون على الحدود الجنوبية الليبية سهلة الاختراق.
التداعيات الاستراتيجية والطريق إلى الأمام
في حين رحب البعض بمقتل غنيوة باعتباره سقوطا لأمير حرب، إلا أن غيابه يفتح الباب أمام صعود شخصيات جديدة قد تكون أكثر تقلبا وصعوبة في التعامل، في مشهد يطغى عليه أصلا الفوضى وانعدام الاستقرار. بالنسبة للكثيرين في طرابلس وخارجها، كان رمزا للاستبداد والنظام وهي مفارقة شائعة في الدول التي تتفتت فيها الشرعية.
قد يحفز هذا الحدث مسارين متباعدين: إما تعزيز سلطة الدولة تحت قيادة الدبيبة، أو تجدد التفتت مع تنافس الميليشيات على النفوذ والمحسوبية. وهذا الحدث فرصة ثمينة، إذا اختارت الجهات الفاعلة الدولية والليبية، إعادة هيكلة الأمن على أسس مؤسسية لا شخصية.
غياب العدالة الانتقالية بعد تفكيك الميليشيات
في سياق مقتل عبد الغني الككلي، تبدو الدولة الليبية وكأنها تستبدل طرفًا بطرف، دون مسار حقيقي للعدالة أو المساءلة. فغياب أي إجراءات رسمية لفتح ملفات الانتهاكات، أو تحقيق قضائي مستقل، يعيد إنتاج منطق الإفلات من العقاب الذي تغذت عليه الميليشيات لأكثر من عقد. لا يمكن الحديث عن تفكيك فعلي لبنية الميليشيات ما لم يُقابل ذلك بمحاسبة مؤسسية شفافة لا تتجاهل الضحايا.
والأخطر في هذا الغياب هو أنه يرسل رسالة خاطئة مفادها أن الحسم العسكري هو البديل عن العدالة، وهو ما يعمّق من هشاشة السلم الأهلي. في السياقات الإفريقية، لطالما أدى تغييب العدالة الانتقالية إلى دورة متكررة من العنف الانتقامي، تُغلف كل مرة بواجهة سياسية جديدة دون معالجة جذرية لتشوهات النظام الأمني والسياسي.
تجاهل البعد الأيديولوجي والديني في التعاطي مع النزاع
رغم الطبيعة العسكرية لميليشيا غنيوة، إلا أن الكثير من أذرعها الموازية تتقاطع مع شبكات سلفية-سياسية، وفصائل ترفع خطابًا دينيًا مموّهًا للتغلغل في مؤسسات الدولة والمجتمع. هذا البعد لم يلق اهتماما من الفرقاء الليبيين وصناع القرار كما ينبغي، رغم كونه مركزيًا لفهم منطق الشرعية الذي تعتمد عليه بعض الجماعات المسلحة في ليبيا.
وفي السياق الإفريقي، حيث تندمج خطوط الجريمة والتمرد والخطاب الديني بسهولة، فإن تجاهل هذا الجانب يمنع من إدراك أنّ بعض هذه الجماعات لا تهدد الأمن فقط؛ بل تُشكّل خطرًا ثقافيًا وهوياتيًا طويل الأمد. فالدولة التي لا تُفرّق بين السيطرة المسلحة والهيمنة الرمزية، غالبا ما تفقد سيادتها من الداخل قبل أن تنهار من الخارج.
الخلاصة
إن سقوط غنيوة ليس مجرد خسارة في ساحة المعركة، بل هو انهيار ركيزة من ركائز بنية السلطة غير الرسمية في ليبيا. وستمتد عواقبه إلى شوارع طرابلس، وبقية مناطق التابعة لغنيوة كالزنتان والجبل الغربي ووصولا إلى عمق منطقة الساحل. و يبقى أن نرى ما إذا كان هذا يمثل بداية استقرار حقيقي أم مجرد تحول في مسار الفوضى، لكنها بلا شك تمثل مؤشرا لمرحلة جديدة في البلاد.
تحليلات المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات