في 17 يوليو 2025، أنهت فرنسا رسميًا وجودها العسكري الدائم في السنغال بعد أكثر من خمسة وستين عامًا من التمركز المستمر، عبر تسليم آخر قاعدتين عسكريتين إلى السلطات السنغالية، وعلى رأسهما قاعدة “كامب جيل” الاستراتيجية في دكار التي كانت تضم قرابة 350 جنديًا فرنسيًا.
وشهد حفل التسليم حضور كبار قادة الجيش من الطرفين، وتخللته تصريحات وصفت الحدث بأنه لحظة تحول في العلاقات الدفاعية بين باريس وداكار. غير أن هذا الانسحاب لم يكن مفاجئًا في سياقه، بل جاء تتويجًا لمسار طويل من التوترات المتراكمة والمطالب السيادية المتصاعدة، داخليًا وخارجيًا، على مدى السنوات القليلة الماضية.
ويمتد تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في السنغال إلى ما بعد استقلالها مباشرة في عام 1960، حين حافظت باريس على قواعد عسكرية في مستعمراتها السابقة ضمن ما أصبح يُعرف لاحقًا بسياسات “فرانس-أفريك”. كانت هذه القواعد تُبرّر غالبًا باعتبارها ضرورية للتعاون الأمني ومكافحة التهديدات العابرة للحدود، إلا أنها مع مرور الوقت باتت ترمز لدى قطاعات واسعة من المجتمع السنغالي إلى امتداد غير معلن للنفوذ الاستعماري الفرنسي.
وتزايدت الانتقادات الشعبية والرسمية لهذا الوجود، لا سيما بعد أحداث 2021، حين اندلعت احتجاجات وأعمال عنف استهدفت شركات فرنسية، مترافقة مع خطابات تطالب بفك الارتباط الأمني والاقتصادي مع فرنسا، وتدعو إلى إعادة تعريف العلاقة الثنائية على أسس السيادة والاستقلال الكامل.
لقد جاءت نقطة التحول هذه مع وصول الرئيس بشيرو جوماي فاي إلى السلطة في 2024، بدعم شعبي واسع من فئات شبابية ومن تيارات تؤمن بضرورة إنهاء النفوذ الفرنسي، ليس فقط في المجال العسكري، بل في البنية الاقتصادية والثقافية للبلاد. في العام نفسه، أعلن فايي عزمه إنهاء وجود أي قاعدة عسكرية أجنبية على التراب الوطني السنغالي بحلول نهاية 2025، مشيرًا إلى أن “السيادة لا تقبل التفاوض”.
وتزامن هذا القرار مع الذكرى الثمانين لمجزرة “ثيياروي” عام 1944، حين قُتل عدد من الرماة السنغاليين على يد القوات الفرنسية بعد احتجاجهم على تأخر رواتبهم وظروفهم المعيشية عقب مشاركتهم في الحرب العالمية الثانية. وقد اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطاب رسمي بمسؤولية فرنسا عن هذه المجزرة، إلا أن الاعتراف، رغم أهميته الرمزية، لم يكن كافيًا لتجاوز ما ترسّب في الوعي الجمعي من إحساس بالتبعية والغبن التاريخي.
وعليه، فإن إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال لم يكن فقط انتصارًا للقرار السيادي السنغالي، بل أيضًا تعبيرًا عن لحظة تلاقي بين تراجع القدرة الفرنسية ورغبة إفريقيا في إعادة صياغة علاقاتها الخارجية بمنطق جديد.
وبانسحابها من السنغال، تواصل فرنسا سلسلة تراجعاتها من غرب ووسط إفريقيا، بعد خروجها من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد بين 2020 و2024، في مقابل بروز فاعلين دوليين جدد مثل روسيا وتركيا على الساحة الإفريقية.
ومع بقاء قاعدة جيبوتي كآخر موقع عسكري دائم لفرنسا في القارة، تبدو باريس وكأنها تودّع تدريجيًا نموذج “فرانس-أفريك”، الذي شكّل لعقود طويلة أحد أبرز ملامح نفوذها العالمي. أما السنغال، فقد فتحت بهذا القرار صفحة جديدة في تاريخها السياسي والدفاعي، تعتمد فيها على قدراتها الذاتية وشراكات أكثر توازنًا، في مشهد إقليمي لم يعد يُدار بالعقيدة الاستعمارية، بل بمنطق المصالح المتبادلة والكرامة الوطنية.
فبالنظر إلى أهمية حدث إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال، فإن المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات يمكن أن تتوقف عند ثلاث قضايا محورية تحتاج إلى تعليق تحليلي عميق، لما تحمله من دلالات تتجاوز السنغال إلى مجمل البنية الإقليمية والسيادية في القارة.
1. السيادة الأمنية وإعادة تعريف الشراكة
يشكّل إغلاق القاعدة الفرنسية لحظة حاسمة في إعادة تعريف مفهوم الشراكة الأمنية بين الدول الإفريقية والقوى الدولية. فالتحول من الاعتماد على التمركز العسكري الخارجي إلى تعزيز القدرات المحلية يعكس نضجًا في الوعي السيادي لدى الدولة السنغالية، ويمهّد لإرساء نماذج شراكة تقوم على التعاون الفني والدعم المشترك، بدلًا من العلاقات الرأسية القديمة. هذا التحول يتماشى مع مطالبة الشعوب الإفريقية باسترداد زمام القرار الأمني، دون المساس بانفتاحها على التكنولوجيا والدعم التدريبي، ولكن ضمن أطر تحترم السيادة ولا تُنتج تبعية.
كما يُعد هذا الحدث فرصة لإفريقيا لاختبار مدى قدرتها على إنتاج نظم أمن جماعي بديلة أو مكملة للدور الغربي، مثل تفعيل مبادرات “العمليات الإفريقية للسلام”، أو تعزيز أطر الإيكواس الأمنية، ما يدعو صانعي السياسات إلى التفكير الجاد في أدوات تمويل ذاتية ومرجعية استراتيجية مستقلة في إدارة التهديدات العابرة للحدود، بدلًا من العودة إلى قواعد النفوذ السابقة في لحظات الأزمات.
2. تراجع النفوذ الفرنسي وتحوّلات التوازن الدولي
الانسحاب الفرنسي من السنغال يأتي ضمن سلسلة من الانسحابات المماثلة من مالي، النيجر، بوركينا فاسو وتشاد، ما يؤشر على تراجع مستمر لنموذج “فرانس-أفريك” الذي شكل لعقود طويلة إطار النفوذ الفرنسي في القارة. هذا الانكماش الجغرافي والسياسي لا يُقرأ فقط كفشل فرنسي، بل أيضًا كتحوّل بنيوي في خريطة التوازنات الدولية في إفريقيا، حيث باتت القوى الصاعدة كروسيا، الصين، وتركيا تملأ الفراغات بتوجهات جديدة وأحيانًا بعقائد أمنية واقتصادية مغايرة تمامًا.
غير أن تراجع فرنسا لا يعني بالضرورة تحررًا مطلقًا، بل قد يفتح المجال لتبعية من نوع آخر، ما يوجب على المنصات التحليلية والسياساتية طرح سؤال أكثر عمقًا: ما هو البديل؟ وهل تستطيع الدول الإفريقية، بما في ذلك السنغال، أن تؤسس لعلاقات استراتيجية متوازنة بعيدًا عن محاور الهيمنة الجديدة؟ هنا تبرز الحاجة إلى قراءة نقدية للعروض القادمة من الشرق والجنوب، بقدر ما تم تحليل النفوذ الفرنسي.
3. الضغط الشعبي وصعود القاعدة الاجتماعية للقرار
ما يميّز الحالة السنغالية عن نظيراتها في منطقة الساحل هو أن القرار السياسي بالانسحاب الفرنسي لم يأتِ من انقلاب أو فوضى مسلحة، بل من انتقال ديمقراطي جلب معه قيادة ذات حساسية سيادية عالية، مدفوعة بضغط شعبي واعٍ ومتراكم. الاحتجاجات التي شهدتها السنغال منذ 2021 لم تكن فوضوية، بل حملت شعارات ذات طابع استراتيجي، عبّرت عن رفض المنظومة الفرنسية ككل، من الاقتصاد إلى الدفاع، وفرضت نفسها على النقاش العام حتى تحوّلت إلى خطاب دولة.
هذا يفرض على صانعي السياسات ومراكز الدراسات الإفريقية إعادة النظر في علاقة الشارع الإفريقي بالقرار السيادي. فالمجتمعات لم تعد مجرد بيئات تُستشار لاحقًا أو يتم احتواؤها بالوعود، بل أصبحت فاعلًا مباشرًا في إنتاج القرار الاستراتيجي، خاصة عندما يكون مدفوعًا بقضايا الكرامة والعدالة والذاكرة التاريخية. وهو ما يستدعي آليات جديدة لتضمين الرأي العام في صياغة السياسة الخارجية والدفاعية.
خاتمة تحليلية
لا يمكن فهم إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في السنغال بوصفه حدثًا محليًا أو رمزيًا فقط، بل هو تحوّل يعكس لحظة إفريقية ناضجة تعيد فيها الدول، والمجتمعات معها، تعريف الشراكات، وتفكك بوعي مراكز النفوذ التاريخي. ومن هنا، فإن هذه اللحظة تتطلب يقظة سياسية إفريقية كبرى، لا تنجر إلى فراغ استراتيجي، ولا تنخدع بالبدائل السريعة، بل تعمل على بناء ملامح استقلال أمني وفكري واقتصادي مستند إلى الذات وشراكات الندّية. والمنصات المعنية بصياغة السياسات الإفريقية مطالَبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بإنتاج معرفة نقدية تُنير هذا المسار وتوجّهه بوعي ومسؤولية.