تقدير موقف

الأزمة السودانية

بين معارك كردفان والفاشر وعقوبات الولايات المتحدة وبيان الرباعية

منذ تحرير مناطق غرب أم درمان، أحد اضلاع العاصمة السودانية الخرطوم وانسحاب قوات الدعم السريع إلى كردفان، ودارفور، بدت استراتيجية الجيش واضحة، تتلخص في وضع الخطط اللازمة لاستكمال تحرير المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع، في ولايات كردفان، وفتح الطرق المؤدية إلى دارفور من كل الاتجاهات، مع ضرب خطوط الامدادات، ومراكز قيادته في نيالا عاصمة الحكومة الموزاية، بالمقابل استخدمت قوات الدعم السريع، ميزة وضعها الدفاعي قريبا من حواضنها، وحاولت صد هجمات الجيش في ولايات كردفان الثلاث شمال وجنوب وغرب كردفان، مع تقدم ملحوظ للجيش في عدد من الجبهات في هذه الولايات وما زال يتقدم، بالذات في شمال كردفان، وكان آخرها تحرير مدينة بارا الاستراتيجية التي تقع في نقطة التقاء حاكمة ومهمة بين ولايات متعددة، وتمثل نقطة الربط لطريق الصادرات الحيوي الذي يربط غرب السودان بوسطه وشرقه وشماله، وتبعد نحو 40 كيلومترا عن مدينة الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان، وكانت حتى وقت قريب أقرب منطقة تسيطر عليها قوات الدعم السريع من العاصمة الخرطوم حيث تبعد عن العاصمة الخرطوم 317 كلم (197 ميل)، وحسب محللين فإن بارا تعد حلقة وصل حيوية على طريق شريان الغرب” الممتد من الخرطوم عبر جبل أولياء والمويلح ثم رهيد النوبة وجبرة الشيخ وصولًا إلى بارا وكازقيل، ما يجعلها نقطة ارتكاز عسكرية ولوجستية بالغة الأهمية.

يؤكد المراقبون أن الجيش السوداني الذي ظل يتعامل بعقيدة الدفاع القتالية لفترة طويلة، وضع خططا هجومية تتواءم مع متطلبات التحرير، للتعامل مع خصم يقاتل في معاقله الرئيسية، أرضا وحواضن اجتماعية، وعلى الرغم من صعوبة المهمة، فقد نجح الجيش والقوات المساندة له من تحقيق تقدم واضح في عدد من الجبهات، بالذات في ولاية شمال كردفان، حيث تكبد الدعم السريع خسائر كبيرة.

ذهبت تحليلات سودانية عديدة أن أهمية تحرير بارا من الناحية العسكرية لا تقل أهمية من تحرير جبل مويه في ولاية سنار، وما ذهبت إليه التحليلات عند تحرير جبل مويه هي أن تحرير ولاية سنار وولاية ود مدني قد بدا فعلا، وهو ما حدث فعلا بعد ذلك بوقت قصير كما أن ردة فعل الدعم السريع كان واضحا في تصريحات قيادته حيث ضربت يمينا ويسارا ووزعت التهم هنا وهناك حتى اتهمت مصر بالضلوع في المعركة، ويؤكد المحللون اليوم بعد تحرير بارا، بأن فك حصار الفاشر والطرق المؤيدة إلى الولايات التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع قد بات مفتوحا، وإن الجيش سيتقدم في كل الاتجاهات وفق استراتيجية محكمة، تفضي إلى إلحاق الهزيمة بها، وتحرير كامل ولايات البلاد.

في رد فعل عنيف على خسائرها الميدانية ردت قوات الدعم السريع، جوا باستخدام المسيرات الانتحارية، واستهداف المرافق الحيوية في عدد من المدن الرئيسية:

  • الخرطوم: استهدفت المسيَّرات قاعدة وادي سيدنا الجوية بشمال مدينة أم درمان حيث التمركز الرئيسي للجيش، ومصنع اليرموك الحربي المتوقف عن التصنيع منذ بداية الحرب، ومبنى الأمن العسكري بمنطقة كافوري، إضافة إلى مصفاة النفط في منطقة الجيلي شمالي الخرطوم بحري وهي في طور إعادة التأهيل والتشغيل، ومحطة كهرباء «المرخيات» شمال أم درمان، وعدد من المناطق الأخرى؛ ما أدى إلى انقطاع الخدمة عن عدد من المناطق في العاصمة
  • ولاية النيل الأبيض: استهدفت مسيرات قوات الدعم السريع مستودعات الوقود بالنيل الأبيض ومطار كنانة، وكذلك محطة أم دباكر للكهرباء في النيل الأبيض. وفي وقت سابق من صباح الأحد، سقطت مسيرات أخرى في محيط مواقع عسكرية بما في ذلك مقر الفرقة 18 التابعة للجيش، كما استهدفت المسيرات مستودعات الوقود بالسكة الحديد بمدينة كوستي.

إضافة إلى القصف شبه اليومي لمدينة الفاشر التي تحاصرها قوات الدعم السريع منذ ما يزيد على العام، والهجمات المتكررة بغرض السيطرة عليها، وقصف مدينة الأبيض التي تعتبر مركزا لوجستيا رئيسيا بعد فك الحصار عنها في وقت سابق لخطوط العمليات المختلفة.

وفي ظل سباق محموم في المواجهات اليومية، تتطور الأسلحة لدى كل الأطراف، وقد ذهب تحليلات الخبراء إلى أن استخدام قوات الدعم السريع لمسيرات دلتا وينغ delta wing الصينية الصنع والتي يبلغ مداها 2000 كلم، يأتي في ظروف وصعوبات تواجهها ابرزها قلة المخزون البشري، إضافة إلى حالة التراجع المستمر في أداء قوات الدعم السريع، والهزائم المتتالية التي منيت بها مؤخرا في جبهات كردفان المختلفة، مع بروز خلافات بينية نتيجة انعدام السيطرة وندرة القيادات الميدانية المتمرسة جراء خسائر كبيرة منيت بها حسب تقارير وخبراء، وبالتالي لجأت لتطوير معركتها، ويذكر الخبراء والمختصون عددا من المزايا لهذا التحول:

ـــ يُعتبر هذا النوع من السلاح مثالياً لـ حرب الاستنزاف، حيث يمكن إلحاق خسائر كبيرة دون التضحية بالقوة البشرية.

ـــ يعطي امتلاك هذا النوع من التكنولوجيا انطباعاً بالقوة والتنظيم، ما قد يُستخدم في الحرب النفسية والدعاية السياسية.

ـــ تجعل الطائرات المسيرة الانتحارية من الجيش السوداني هدفاً مكشوفاً، خصوصاً إذا لم يكن يمتلك منظومة دفاع جوي فعالة أو أنظمة تشويش إلكتروني متقدمة

ـــ يمثل استخدام المسيرات الانتحارية نقلة نوعية من حرب تقليدية تعتمد على الاشتباك المباشر إلى حرب حديثة هجينة تعتمد على التكنولوجيا.

بالمقابل يطور الجيش سلاح الطيران الحربي بشكل دائم وكان آخرها تطوير منظومة الصناعات الدفاعية طائرة أطلق عليها “سفروق” وهي مسيرات متطورة، مقاومة للتشويش الإلكتروني، وقد استخدمها في المعارك الدائرة حالياً بولايتي كردفان ودارفور، وتحتوي على خوارزميات مقاومة للتشويش والخداع الإلكتروني (spoofing) لمواجهة تهديدات الحرب الإلكترونية، مما يضمن أداءً موثوقًا في ساحة المعركة.

في خضم المعارك الدائرة في عدد من الجبهات، صدر بيان عن الرباعية الدولية المكونة من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية وجمهورية مصر والإمارات العربية، تحت عنوان ” استعادة السلام والأمن في السودان ” بناءً على دعوة من الولايات المتحدة، حيث أجرى وزراء خارجية الولايات المتحدة، ومصر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة مشاورات مكثفة حول النزاع في السودان كان ابرز ما جاء فيه: أكد البيان على سيادة السودان ووحدته وسلامة أراضيه، كما أكد أن مستقبل السودان يقرره الشعب السوداني عبر عملية انتقالية شاملة وشفافة، تقود إلى حكومة مدنية مستقلة في غضون 9 أشهر، وتطرق البيان إلى رفض أي دور لمن سماهم الجماعات المتطرفة، المرتبطة بالإخوان المسلمين في مستقبل السودان، وأكد على وقف الدعم العسكري الخارجي كشرط أساسي لإنهاء الصراع، دون أن يشير إلى جهة بعينها، وفيما يخص التزامات دول الرباعية تحدث البيان عن دعم تسوية تفاوضية تشمل القوات المسلحة والدعم السريع، عبر الضغط على الأطراف كما أكدوا على التزامهم بضمان أمن منطقة البحر الأحمر ومواجهة التهديدات العابرة للحدود، ومنع التدخلات الإقليمية والمحلية والمتسببة في زعزعة الاستقرار. وفي الجانب العملي تحدث البيان عن:

ـــ الدعوة إلى هدنة إنسانية أولية لمدة 3 أشهر تمهيدا لوقف دائم لإطلاق النار

ــ إطلاق عملية انتقالية شاملة تنتهي بتشكيل حكومة مدنية ذات شرعية ومساءلة

ــ متابعة تنفيذ الجدول الزمني عن كثب.

وأكد بيان الرباعية على التنسيق في كل ذلك مع الأمم المتحدة، الاتحاد الإفريقي، الدول العربية والشركاء الدوليين ودعم جهود عملية منبر جدة بقيادة السعودية والولايات المتحدة وجهود مصر مع القوى المدنية والسياسية.

أثار البيان جدلا واسعا بين السودانيين، بينما أبدت بعض الجهات دهشتها واستغرابها من توقيت البيان ودلالته، وبرزت المواقف وردود الفعل المختلفة، فقد رحب تحالف “صمود” وبعض الأحزاب القريبة من معسكر الدعم السريع، ووصفوا طرح الرباعية بأنه فرصة حقيقية لإنهاء الحرب، بينما ردت الحكومة السودانية عبر بيان اصدرته وزارة الخارجية رحبت فيه بأي جهد إقليمي أو دولي يساندها في إنهاء الحرب ووقف هجمات الدعم السريع على المدن والبنية التحتية وتفكيك المليشيا لمنع تكرار المآسي بحق الشعب السوداني، وشددت على رفض أي تدخل دولي أو إقليمي لا يحترم سيادة السودان ومؤسساته الشرعية وحقه في الدفاع عن أرضه وشعبه معتبرة أي مساواة بينها وبين “مليشيا إرهابية تستعين بمرتزقة أجانب” أمرا مرفوضا، وأكدت الحكومة بأن انخراطها مع أي طرف خارجي مرهون بالاعتراف بسيادتها الوطنية وشرعية مؤسساتها، وعبرت عن أسفها لعجز المجتمع الدولي عن إلزام” قوات الدعم السريع” بتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي ورفع الحصار عن مدينة الفاشر، أما مجلس السيادة فقد جاء في بيانه أن الحرب الحالية موجهة ضد الشعب السوداني، وسيواجهها ويقرر بشأنها لوحده.

أبرزت أغلب الآراء والمواقف تشددا تجاه بيان الرباعية باعتباره متحيزا يمنح الرباعية حقا لا تملكه وهو تحديد مستقبل السودان بينما ذهب البعض بأنه بيان استعلائي ومتسلط وإقصائي، بينما اتهم البعض بأنه بيان إماراتي بامتياز وقعت عليه الدول الأخرى، واعتبروا أنهم غير معنيين به، وأن المعركة ماضية إلى تحقيق أهدافها ويمكن تلخيص أبرز المواقف هنا:

ـــ مساواة الرباعية بين الحكومة والدعم السريع، باعتباره انتقاص مرفوض ينتهك سيادة البلاد وشرعيتها.

ـــ التناقض الواضح ما بين الإقرار بحق الشعب السوداني في تقرير مستقبله من خلال عملية انتقالية شاملة وبين ممارسة فيتو على قوى سياسية بعينها والتي أطلق عليها “الجماعات المتطرفة والتي هي جزء من جماعة الإخوان المسلمين، أو مرتبطة بها بشكل واضح”

ـــ مع إقرار البيان رفض الدعم العسكري الخارجي للأطراف المتحاربة ولكن لم يشر إلى الجهات التي توثق تقارير عديدة دعمها ووقوفها مع الدعم السريع؟

ـــ شككت جهات عديدة في البيان ووصفوه بالتدوير واستمرار لتوجهات سابقة لم تجد طريقها للتنفيذ، ويجب أن تضغط الرباعية على الدعم السريع لتنفيذ قرارات كثيرة سابقة أولا.

ـــ اعتبر البعض أن الهدف الرئيسي من بيان الرباعية هو منح الدعم السريع فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة تتريب صفوفه بعد الهزائم الثقيلة التي مني بها في كردفان، وخسائره الكبيرة عدة وعتادا، ومنح حكومة تأسيس بالتفاوض ما عجزت عن تحقيقه في الميدان.

تجمع التفاعلات الرسمية وغير الرسمية، أن سيادة السودان خط أحمر وأن أي تدخل خارجي يجب أن يأتي بموافقة الحكومة، وبالتالي لن يكون مقبولا اي تدخل ينتهك السيادة الوطنية.

بالتزامن مع بيان الرباعية أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات ضد وزير المالية جبريل إبراهيم ولواء البراء ابن مالك، الذ يقاتل غلى جانب الجيش وقالت وزارة الخزانة الأميركية، في بيان، إن العقوبات تستهدف “فاعلين إسلاميين سودانيين” هما الوزير إبراهيم والكتيبة المذكورة، بسبب دورهما في “تقويض السلام والاستقرار في السودان”. وأن الخطوة تهدف إلى “الحد من النفوذ الإسلامي في السودان، وكبح الأنشطة الإقليمية لإيران”، التي اعتبر أنها ساهمت في إشعال الصراعات وزيادة معاناة المدنيين. واتهمت الولايات المتحدة من اسمتهم بالعناصر الإسلامية بـ” عرقلة جهود وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، إضافة إلى تعزيز علاقاتهم مع إيران وتلقي دعم فني منها”، مؤكدا أن العقوبات تأتي “لمحاسبة المسؤولين عن نشر الفوضى والدمار في السودان بمساعدة طهران”.

استقبلت الأوساط السودانية العقوبات باستهجان واضح ورفض قاطع من التيار الإسلامي بمختلف فصائله يعتقد كثير من المحللين بأن هذه العقوبات ليست الأولى وربما لن تكون الأخيرة ما دامت تتحامل على الحكومة الشرعية وتتجاهل انتهاكات قوات الدعم السريع والتي وثقتها تقارير محلية ودولية عديدة، وقللوا من تأثيرها على البلاد بشكل عام، وردت حركة العدل والمساواة على العقوبات ضد جبريل إبراهيم واعتبرتها جزء من “حلقات التآمر الخارجي” وضغط سياسي، وأن زيارة جبريل لإيران كانت ضمن مهامه الدبلوماسية والرسمية.

بينما فسره آخرون على أن هذه العقوبات تأتي في إطار الضغوط الرمزية ذات الصدى السياسي على الجيش لتحجيم قوات لواء البراء باعتبارها حصة الإسلاميين في الحرب الحالية، إضافة إلى تعميق وترسيخ فكرة عزل الإسلاميين مستقبلا وهو ما ترفضه أغلب القوى السياسية في الوقت الراهن، في ظل تداعيات الحرب وهشاشة الأوضاع السياسية في البلاد ما يستدعي إشراك الجميع لتجاوز الأزمة السياسية الراهنة والتي توصف بغير المسبوقة.

بعد عامين ونيف من الحرب الضروس، والجيش السوداني والقوات المساندة له على تخوم دارفور، تحتدم المواجهات في معركة يمكن تسميتها بالمعركة الفاصلة، تتدخل الرباعية لتهدئة الحرب وتثير مخاوف وشبهات لدى عدد من الأطراف مع شكوك في  المبادرة ذاتها والتي توقعوا لها كسابقاتها الافتقاد والجدية الكافية إضافة إلى آليات حقيقية تضع الأمر موضع التنفيذ، وزاد الأمر تعقيدا العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على أطراف عديدة في الحكومة، تشير معطيات عديدة بأنها تدفع الحكومة ومكوناتها المختلفة لمزيد من التماسك، والبحث عن تحالفات استراتيجية بعيدا عن الولايات المتحدة وحلفائها وتغيير وجهتها الاستراتيجية وإعادة تموضعها في حال تصاعد الضغوط الأمريكية التي لا تردع أهم داعمي الحرب في السودان كما تصر الحكومة السودانية ومناصريه.

أفروبوليسي

المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) مؤسسة مستقلة تقدم دراسات وأبحاثاً حول القضايا الأفريقية لدعم صناع القرار بمعرفة دقيقة وموثوقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى