حدث وتعليقمنوعات

المحكمة الجنائية الدولية تدين قادة ميليشيات في جمهورية إفريقيا الوسطى

في 24 يوليو 2025، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية حكمًا تاريخيًا بإدانة اثنين من أبرز قادة ميليشيا “أنتي-بالاكا” في جمهورية إفريقيا الوسطى، وهما ألفريد ييكاتوم وباتريس إدورد نغاييسونا، بتهم متعددة تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. القرار يأتي بعد محاكمة استمرت أربعة أعوام، تناولت فظائع ارتُكبت خلال النزاع الطائفي الذي اندلع عام 2013 عقب سيطرة تحالف “سِلِكا” المسلح على العاصمة بانغي. الوثائق التي عرضتها المحكمة تضمنت شهادات عن عمليات قتل، وتعذيب، وتشويه جثث، استهدفت بالدرجة الأولى مدنيين من الطائفة المسلمة، فيما مثّل المتهمان شخصيتين مركزيتين في التعبئة السياسية والعسكرية لهذه الحملة.

ورغم أن الأحكام لا تشمل جميع أطراف النزاع، فإنها تمثل أول خطوة رسمية نحو مساءلة قادة أنتي-بالاكا في ساحة القضاء الدولي. كما أنها تتقاطع مع مسارات قضائية أخرى، منها محاكمة أحد قادة “سِلِكا”، وجهود محاكم محلية مدعومة دوليًا في بانغي لملاحقة متهمين إضافيين.

في هذا السياق، يقدّم فريق المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) تعليقات مهنية على هذا التطور القضائي في ثلاث نقاط مهمة، وهي:

  1. العدالة الدولية ومسار المساءلة في إفريقيا الوسطى
  2. أثر الأحكام على مستقبل المصالحة الوطنية
  3. التحديات الهيكلية أمام بناء نظام عدالة شامل ومستقل

1. العدالة الدولية ومسار المساءلة في إفريقيا الوسطى

تمثل إدانة ييكاتوم ونغاييسونا أول حكم نهائي تصدره المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم ارتكبتها ميليشيا أنتي-بالاكا، ما يضع حدًا لسنوات من الاتهامات غير المحسومة. منذ اندلاع الصراع في عام 2013، سادت حالة من غياب المساءلة المتوازنة، حيث ركّزت بعض الروايات الدولية على فظائع تحالف سِلِكا ذي الأغلبية المسلمة، مع تجاهل شبه ممنهج لانتهاكات الميليشيات المسيحية. الحكم الأخير يكسر هذا الانحياز الضمني ويمنح مصداقية أكبر لمسار العدالة الدولية في المنطقة.

لكن، لا تزال المحكمة الجنائية الدولية تواجه تحديات في تغطية النطاق الكامل للنزاع. فالاتهامات ما زالت محدودة بعدد قليل من القادة، في حين أن الجرائم وقعت ضمن نمط واسع ومنهجي. كما أن آليات التعاون بين المحكمة والدول الإفريقية، خصوصًا تلك التي تشهد هشاشة مؤسساتية كجمهورية إفريقيا الوسطى، تفرض قيودًا على الوصول إلى شهود أو جمع الأدلة الكافية لملاحقة كافة المسؤولين.

2. أثر الأحكام على مستقبل المصالحة الوطنية

الأحكام القضائية لا تعيد الحياة إلى الضحايا، لكنها تؤسس لرواية موثّقة للانتهاكات، يمكن أن تُستخدم لاحقًا في بناء ذاكرة وطنية مشتركة. في بلد لا تزال فيه خطوط الانقسام الطائفي قائمة، يمكن لهذا القرار أن يشكّل لحظة فارقة لتأكيد أن العدالة لا تُبنى على الانتقائية، وأن الجرائم، أيًا كان مرتكبها، ستجد طريقها إلى المحاسبة. هذا التوازن مهم لكسب ثقة المجتمعات المتضررة التي لطالما شعرت بالتجاهل أو التهميش.

لكن التحدي يبقى في ترجمة هذه اللحظة القانونية إلى تحول اجتماعي. المصالحة لا تتحقق فقط  بإصدار الأحكام، بل عبر عمليات مرافقة تشمل الاعتراف بالضحايا، وتعويضهم، ودمج المساءلة في البرامج التعليمية والسياسية. كما يجب أن يُنظر إلى القضاء الدولي كجزء من منظومة عدالة أوسع، لا كبديل عن العدالة المحلية، حتى لا يتحول إلى أداة رمزية فقط.

3.التحديات الهيكلية أمام بناء نظام عدالة شامل ومستقل

تواجه جمهورية إفريقيا الوسطى تحديات كبيرة في بناء مؤسسات عدالة فعالة على المستوى الوطني. ضعف البنية القضائية، محدودية التمويل، نقص الكوادر، والخضوع المتكرر للضغوط السياسية أو العسكرية، كلها عوامل تُقيد قدرة الدولة على متابعة الملفات المعقدة المرتبطة بالنزاع. الاعتماد شبه الكامل على دعم خارجي، سواء من الأمم المتحدة أو من شركاء دوليين، يُظهر عمق الأزمة البنيوية في قطاع العدالة.

من جهة أخرى، تؤكد التجربة الحالية ضرورة الفصل بين مسار المحاسبة الدولي وبين استراتيجية بناء دولة القانون. إذ لا يمكن لأي نظام قضائي خارجي، مهما بلغت قوته، أن يعوّض عن قضاء وطني متماسك ومستقل. وعلى هذا الأساس، فإن الحكم الصادر من المحكمة الجنائية الدولية يجب أن يُنظر إليه كفرصة سياسية لإعادة بناء مؤسسات العدالة في إفريقيا الوسطى، بدعم دولي يركّز على إصلاح البنى التحتية القانونية، وتدريب القضاة، وتعزيز سيادة القانون من القاعدة إلى القمة.

الخاتمة

في الختام، يرى فريق المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) أنّ الأحكام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية تمثل خطوة أولى على طريق طويل نحو العدالة الشاملة؛ لكنها لا تكفي وحدها لضمان الاستقرار أو الإنصاف الحقيقي للضحايا. كفريق إفريقي ينطلق من التزام راسخ بحقوق الإنسان وسيادة القانون، نؤكد أن العدالة لا تكتمل إلا إذا تحوّلت من لحظة قضائية إلى مسار مؤسسي يرسّخ المحاسبة، ويمنع تكرار الجرائم.

وعليه، نوصي بأن تتحمّل السلطات الوطنية، خصوصًا الجهات التشريعية والقضائية في جمهورية إفريقيا الوسطى، مسؤوليتها التاريخية عبر مراجعة القوانين، وتمكين القضاء المحلي، وتعزيز استقلاليته. بحيث يجب إنشاء وحدات مختصة لملاحقة الجرائم الدولية داخل النسيج القضائي المحلي، بدعم تقني وقانوني مستمر.

كما ندعو الاتحاد الإفريقي إلى لعب دور أكثر فاعلية، ليس فقط كوسيط سياسي، بل كمظلة حماية قانونية لشعوب القارة. هناك حاجة ملحة لوضع آلية إقليمية دائمة تُفعَّل تلقائيًا عند انفلات الأمن أو وقوع انتهاكات جماعية، بما يضمن الاستجابة السريعة والفعالة قبل تفاقم الأوضاع.

إنّ إفريقيا تستحق عدالة تنبع من أرضها، تخاطب واقعها، وتخدم شعوبها. وهذه القضية، برمزيتها ومضمونها، فرصة لتجديد الالتزام الجماعي نحو هذا الهدف.

 

المصدر: https://www.africanews.com/2025/07/24/former-car-football-chief-found-guilty-of-war-crimes/

 

أفروبوليسي

المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) مؤسسة مستقلة تقدم دراسات وأبحاثاً حول القضايا الأفريقية لدعم صناع القرار بمعرفة دقيقة وموثوقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى