ما الذي يحدث؟ في 12 أكتوبر 2025، أُجريت الانتخابات الرئاسية في الكاميرون؛ حيث خاض الرئيس بول بيا (92 سنة) السباق الساعي لولايةٍ ثامنة بعد أنْ ألغى تعديل دستوري في 2008م حدود عدد الفترات. فجرت العملية وسط منافسةٍ مشتّتة، استبعاد لمرشحين بارزين، وجوّ سياسي وأمني متوتر يُشكك في نزاهة التنافس.
لماذا يُعدّ الحدث مهمًا؟ لأنّه يمثّل اختباراً لاستمرارية أحد أقدم الأنظمة في إفريقيا، ويعكس أزمة الشرعية التي تواجه أنظمة الحكم الطويلة في القارة، في ظلّ تآكل الثقة الشعبية وتراجع الحريات وتزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.
ما أبرز المخاطر؟ استمرار الانقسام الأنجلو فوني، واحتمال عودة العنف في الشمال، وتدهور الثقة بالمؤسسات الانتخابية، فضلًا عن خطر انتقال الاحتقان الاجتماعي إلى اضطرابات سياسية أوسع. ما الانعكاسات الإقليمية؟ أيّ اضطراب في الكاميرون سيؤثر مباشرة في استقرار جمهوري إفريقيا الوسطى، وتشاد، وخليج غينيا، ويعيد خلط موازين الأمن في الإقليم الذي يُعدّ محورًا لمكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية.
ما الخيارات الممكنة؟ دعم حوار وطني شامل بإشراف إفريقي، وتعزيز الإصلاح المؤسسي التدريجي بدل المواجهة، وربط الدعم الأمني والاقتصادي الدولي بخطوات واضحة نحو الشفافية والتمثيل.
ما الاتجاه المحتمل؟ استمرار النظام مرجّح على المدى القصير؛ لكن غياب التجديد السياسي يجعل البلاد أمام مفترقٍ حقيقي: إمّا إصلاحٌ محسوب يُنقذ الدولة من الشيخوخة السياسية، أو جمودٌ طويل يفتح الباب لاضطرابٍ يصعب احتواؤه.
المقدمة
في 12 أكتوبر 2025م، اتّجهت الكاميرون إلى انتخابات رئاسية وسط واقع سياسي يتسم بترسّخ الحكم الطويل للرئيس بول بيا الذي تولى السلطة منذ 1982، بعد تعديل دستوري في 2008، وألغى القيود على عدد الفترات الرئاسية ومكّنه من السعي إلى ولاية ثامنة. ولقد اقترن هذا الامتداد الزمني غير المسبوق بتشظّي المعارضة وضعف تنافسية السباق، ما يضع العملية الانتخابية برمتها تحت مجهر الشرعية الديمقراطية.[1]
على المستوى المؤسسي، تُدار الانتخابات عبر هيئة إليكام (ELECAM) بموجب قانون الانتخابات لعام 2012، وتُحسم الرئاسة بالأغلبية النسبية من جولة واحدة من دون شوط ثانٍ، ما يعظّم أثر تشتت المعارضة.
وقد أعلنت “إليكام” تسجيلًا يفوق ثمانية ملايين ناخب، مع تحديثات تقنية شملت مجموعات جديدة للتسجيل البيومتري استعداداً لاستحقاقات 2025. كما انتشرت بعثة الاتحاد الإفريقي لمراقبة الأيام الأخيرة للحملة ويوم الاقتراع حتى 16 أكتوبر 2025.[2]
أما مشهد التنافس، فيتقدمه الرئيس بول بيا مرشح الحركة الديمقراطية الشعبية الكاميرونية (RDPC)، مع بروز عيسى تشيروما باكار، الناطق الحكومي السابق الذي انشق منتقداً أداء الحكم، كأبرز وجوه التحدي. فيما استُبعد المعارض البارز موريس كامتو بقرار من المجلس الدستوري، في خطوة اعتبرتها منظمات حقوقية تقويضاً لمصداقية السباق. هذه العوامل، تُراكم اختلالات “عدالة الملعب الانتخابي” قبل التصويت وأثنائه[3].
وجاءت الانتخابات كذلك على خلفية أزمة أنجلوفونية ممتدة منذ 2016 في الشمال الغربي والجنوب الغربي، وما يرتبط بها من نزوح واسع واضطراب أمني إلى جانب تهديدات متجددة في أقصى الشمال. فينعكس هذا الإرث الأمني والاجتماعي مباشرةً على بيئة الاقتراع، ومعدلات المشاركة، وقدرة الأحزاب على التنظيم والحشد في مناطق التماس.
إجمالًا، يلتقي ثبات النظام مع قواعد انتخابية تفضّل الفوز من الجولة الأولى وتجزئة المعارضة وتوترات أمنية مزمنة لتنتج مشهداً انتخابيّاً يميل إلى إعادة إنتاج السلطة أكثر من فتح مسار تنافسي حقيقي، وهو ما يفسّر توقّعات استمرار الوضع القائم ما لم تحدث مفاجآت سياسية أو مؤسسية كبيرة.
ففي ضوء هذا السياق المركّب، يهدف هذا المقال إلى تحليل ديناميات المشهد الانتخابي الكاميروني من منظورٍ يتجاوز الحدث الانتخابي ذاته إلى ما يمكن اكتشافه من تحولات أعمق في بنية السلطة والدولة والمجتمع. فهو لا يكتفي برصد مسار الاقتراع فحسب؛ بل يتناول جذور الأزمة التي تحيط به، مثل: تآكل الشرعية التقليدية للنظام، وتراجع الفضاء الديمقراطي، وتفاقم المخاطر الأمنية المرتبطة بالأزمة الأنجلو ونية ونشاط بوكو حرام؛ ضلا عن المواقف الإقليمية والدولية التي توازن بين دعم الاستقرار وغضّ الطرف عن غياب الإصلاح.
ومن خلال هذا التحليل، سيقدر هذا المقال الاتجاهات السياسية المحتملة واستشراف انعكاساتها على مستقبل الحكم في الكاميرون ودورها في محيطها الإفريقي المضطرب.
ولتحقيق هذا الهدف، سيتناول المقال خمسة محاور رئيسة، وهي: المشهد الانتخابي لعام 2025، والاتجاهات السياسية العامة، والانعكاسات السياسية والإقليمية، والخيارات والسياسات المقترحة، ثم الخاتمة واستشراف المشهد السياسي الكاميروني.
أولا: لمحة عن المشهد الانتخابي 2025
في يوم 12 أكتوبر الجاري 2025م، أجْريتْ الانتخابات الرئاسية في الكاميرون وسط أجواء مشحونة بالتوجّس السياسي وتعب الإرهاق الشعبي من حكمٍ امتد لأكثر من أربعة عقود. فقد دخل الرئيس بول بيا (92 عاماً) السباق مرشّحاً عن الحركة الديمقراطية الشعبية الكاميرونية (RDPC)، متكئاً على جهازٍ حزبيّ مترامي الأطراف، يهيمن على مفاصل الإدارة المحلية والأمنية والإعلامية، بما يجعل الانتخابات أقرب إلى استفتاء على استمراره منها إلى تنافسٍ حقيقي على السلطة.
فمن الناحية الإجرائية، أُديرت العملية الانتخابية تحت إشراف (إليكام – ELECAM)، الهيئة الانتخابية الوطنية المستقلة، التي أعلنت تسجيل أكثر من ثمانية ملايين ناخب، كما أسلفنا، داخل البلاد وخارجها، مستخدمةً نظام التسجيل البيومتري لتحديث القوائم الانتخابية.
إلا أنّ المعارضة شكّكت في نزاهة إدارة الهيئة وفي حيادها المؤسسي، مشيرةً إلى تبعيتها غير المباشرة للسلطة التنفيذية. كما اقتصرت عملية المراقبة الدولية على بعثة صغيرة من الاتحاد الإفريقي (من 7 إلى 16 أكتوبر) في ظل غياب بعثات أوروبية أو أممية كبرى، ما أضعف الشفافية المقارنة بمعايير المراقبة الإقليمية.
وعلى مستوى الترشّح، عكست القائمة النهائية اختلال ميزان التنافس؛ إذْ سُمح بتسجيل نحو أحد عشر مرشّحاً؛ لكنّ أبرز المنافسين، وهو موريس كامتو زعيم حزب الحركة من أجل نهضة الكاميرون (MRC)، الذي أُقصي من السباق بقرارٍ من المجلس الدستوري بدعوى “مخالفات تنظيمية”، وهو قرار أثار احتجاجات في ياوندي ودوالا واعتُبر رسالة مبكّرة عن محدودية الانفتاح السياسي.
ومع غياب كامتو، برز عيسى تشيروما باكاري، الوزير السابق والمتحدث باسم الحكومة، كأهمّ مرشح معارض، محاولًا الجمع بين الخطاب الإصلاحي والحذر المؤسسي، من دون أنْ يمتلك بنيةً حزبية تمكّنه من منافسة ماكينة الحزب الحاكم.
وظهر في الحملة الانتخابية تمايز واضح في الخطاب السياسي؛ فقد تمسّك بيا بشعار “الاستمرارية من أجل الاستقرار”، مستندًا إلى إرث الأمن ومكافحة التمرّد الأنجلوفوني في الشمال الغربي والجنوب الغربي، بينما ركّزتْ المعارضة على ملفات الركود الاقتصادي، وتدهور القدرة الشرائية، وتهميش الشباب.
ومع ذلك، ظلّ الحضور الميداني للرئيس محدوداً، واكتفتْ حملته بخطابات متلفزة ورسائل مصوّرة، في حين واجهت حملات المعارضة قيوداً متكرّرة على حرية التجمّع والتنقّل، خصوصاً في المناطق التي تشهد توترات أمنية.
فالمشهد الميداني عكسته تقارير إعلامية محلية ودولية تحدثتْ عن انتشار كثيف لقوات الأمن قرب مراكز الاقتراع، وعن تراجع الإقبال في المناطق الأنجلوفونية بسبب العنف وتهديدات الجماعات الانفصالية المسلحة.
وتشير تقديرات منظمات مدنية إلى أنّ ما يزيد على 700 ألف نازح داخليّاً في شمال غربي البلاد وجنوبها لم يتمكنوا من التصويت، فيما وُصفت العملية الانتخابية بأنها جرت “في ظلّ سلامٍ هشّ”.
وفي المحصّلة، بدتْ انتخابات 2025 امتدادًا للنمط الذي طبع الحياة السياسية الكاميرونية خلال العقدين الأخيرين: استقرار ظاهريّ يعكس انغلاقًا سياسيًا عميقًا، وتنافس انتخابي يخلو من المفاجآت، ومعارضة مُنهكة ومجزّأة عاجزة عن فرض معادلة جديدة.
غير أنّ السياق الاجتماعي المتوتر وتقدّم الرئيس في السن يجعلان من هذا الاقتراع محطةً فاصلة قد تفتح، عاجلاً أم آجلاً، نقاشاً حول مستقبل النظام ذاته، لا حول سياساته فحسب.
ثانيا: تحليل الاتجاهات
ولفهم الاتجاهات التي تحدّد ملامح المشهد الكاميروني عشية انتخابات 2025م، سنسلط الضوءَ هنا على أربع قضايا مهمة تُبرز طبيعة الأزمة السياسية في البلاد، وهي: تآكل الشرعية التاريخية للنظام، وتضييق الفضاء الديمقراطي، وتصاعد المخاطر الأمنية، وتحوّل المواقف الإقليمية والدولية.
1. تآكل الشرعية التقليدية
شكّلت الشرعية في النظام الكاميروني، منذ مطلع الثمانينيات، مزيجاً من الاستقرار السياسي والهيمنة البيروقراطية والتوازن المناطقي؛ لكنْ هذا النسق بدأ يتآكل تدريجيّاً خلال العقد الأخير. فالرئيس بول بيا، الذي تجاوز العقد الرابع في الحكم، بات يمثل جيلًا سياسيّاً منقرضاً أمام قاعدة اجتماعية شابة؛ إذْ تشير التقديرات إلى أنّ أكثر من ثلثي السكان لم يعيشوا سوى تحت حكمه، ما أفقد النظام رمزيته التاريخية لدى الأجيال الجديدة التي تواجه بطالة مرتفعة، وتدهوراً في الخدمات، وفرص الاندماج السياسي.
وتَرافَقَ ذلك مع تآكل الثقة المؤسسية؛ فاستطلاعات الرأي المحلية، ومنها مسح Afrobarometer 2023، أظهرتْ أنّ نسبة الثقة في الحكومة والبرلمان لم تتجاوز 25%، وهي الأدنى في منطقة وسط إفريقيا. كما أنّ الحزب الحاكم تحوّل من أداة تعبئة وطنية إلى شبكة مصالحٍ مغلقة تديرها النخبة الإدارية والأمنية، بينما صارت المعارضة إمّا محاصرة، أو مروَّضة عبر تحالفات شكلية.
أمّا القيادة ذاتها فتعاني ما يمكن تسميته “أزمة الحضور”. فالرئيس نادر الظهور في الحياة العامة، وتدار شؤون الدولة عبر دوائر ضيقة تضم مستشاريه العسكريين وعائلته المقربة. وقد كشفتْ وسائل إعلام فرنسية وأفريقية متطابقة أنه يقضي فترات طويلة في جنيف لأسباب صحية، ما جعل فكرة “الدولة الغائبة” جزءاً من الخطاب العام داخل الكاميرون نفسها.
هذا الانكماش في القيادة تَرافَقَ مع تراجع في شرعية الأداء الاقتصادي أيضاً. فبعد عقدٍ من النمو الذي تجاوز 5% مطلع الألفية، انخفض المعدل إلى نحو 2.8% بين عامي 2022 و2024 وفق البنك الدولي، في ظل تضخمٍ متصاعد تجاوز 7% ونسبة دينٍ عامٍ بلغت 46% من الناتج المحلي. ولم تعد مشاريع البنية التحتية الكبرى مثل ميناء كريبي أو خط كينشاسا–دوالا كافية لتغطية الفجوة الاجتماعية أو امتصاص البطالة بين الشباب.
وفوق ذلك كله، تسبّبت الأزمة الأنجلو فونية في ضرب الركيزة الوطنية التي استند إليها النظام طويلاً. فبدل أنْ يكون بيا حامي “الوحدة في التنوع”، أصبح في نظر جزءٍ من سكان الشمال الغربي والجنوب الغربي مسؤولًا عن قمعٍ ميداني خلّف آلاف القتلى والنازحين. وتحوّلت الدولة من مرجعٍ للاندماج الوطني إلى طرفٍ في نزاعٍ إثني–لغوي يستنزف رصيدها السياسي والمعنوي.
وبذلك، تتجلى أزمة الشرعية في ثلاثة مستويات متضافرة، وهي: قيادة فقدت رمزية الكفاءة والحضور، ومؤسسات أُفرغت من استقلالها، وقاعدة اجتماعية شابة فقدت الثقة في وعد الاستقرار.
هذه العناصر مجتمعة تجعل شرعية النظام اليوم قائمة على الجمود الذاتي (inertia) أكثر من الرضا، وعلى الخوف (fear) من الفوضى أكثر من الإيمان بجدوى الاستمرار. إنها شرعية تتهالك ببطء؛ لكنها تحمل في طيّاتها احتمال التحول المفاجئ متى ما اختلّتْ إحدى أعمدة السيطرة التقليدية.
2. تراجع الفضاء الديمقراطي
خلال العقد الأخير، شهدت البلاد انحساراً تدريجيّاً في فضائها السياسي؛ حيث انتقل النظام من تعددية مراقَبة إلى إدارة مغلقة للسياسة تُدار عبر القوانين والولاءات الأمنية.
فبعد انتخابات 2018 التي انتهتْ باحتجاجات واسعة واعتقال المئات، أعاد النظام هندسة المشهد القانوني والإداري بما يضمن السيطرة المسبقة على أيّ منافسة. فقد توسّعتْ صلاحيات وزارة الإدارة الإقليمية واللامركزية، وجرى تعديل قانون الجمعيات والأحزاب لفرض إجراءات ترخيص أكثر تعقيدًا، ما جعل من الصعب على القوى الجديدة خوض الانتخابات أو التحرك بحرية. فبهذه البيئة التشريعية، أُضْعِفتْ الحيوية السياسية، ورُسِّختْ فكرة أنّ المعارضة يُسمح لها بالوجود فقط لا بالتأثير.
وتجلّى هذا الانغلاق بوضوح خلال انتخابات 2025، فاستبعاد موريس كامتو من الترشح، وهو أبرز منافس للرئيس، مثّل ذروة هذا التوجّه، إذْ استخدم المجلس الدستوري سلطاته لتقليص المنافسة بحجة “مخالفات إجرائية”، في حين وصفته منظمات دولية كـ “هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية” بأنه استبعاد سياسي مقصود.
كما سُجّلت عمليات توقيف متكررة لناشطين وصحفيين، وجرى تفريق تجمعات معارضة بالقوة في دوالا وبافوسام. وفي المقابل، استفادت الحملة الحكومية من دعمٍ واسع من الإعلام الرسمي، في ظلّ فرض رقابة صارمة على القنوات الخاصة التي أُلزمتْ ببثّ موادّ “متوازنة” تحددها اللجنة الإعلامية الوطنية، بينما أُغلقت صفحات رقمية معارضة بتهم “نشر أخبار كاذبة”.
أما مؤسسات الوساطة الديمقراطية، من برلمانٍ وهيئاتٍ قضائية ومجتمع مدني، فقد تحولت إلى أدوات شكلية لإدارة التوافق لا إلى قنوات رقابة. فالبرلمان الذي يهيمن عليه الحزب الحاكم لم ينجح منذ 2018م في تعديل أيّ قانونٍ انتخابي أو تمرير مبادرة إصلاحية مستقلة، في حين بات القضاء محكوماً بولاءاتٍ شخصية للسلطة التنفيذية.
لقد جعلتْ هذه البنية المغلقة النظام السياسي الكاميروني يبدو مستقراً من الخارج؛ لكنه في جوهره يفتقد المرونة والقدرة على التجدد. فالديمقراطية التي كانتْ تُمارس في حدودٍ رمزية، تحولت اليوم إلى منظومة مراقَبة تُتيح الانتخابات كإجراءٍ دوري لا كممارسةٍ للسيادة الشعبية، وهو ما يعمّق العزلة بين الدولة ومجتمعها، ويزيد هشاشة التوازن الداخلي مع مرور الوقت.
3. المخاطر الأمنية وتداعياتها على العملية الانتخابية
أُجْرِيت الانتخابات الكاميرونية في بيئة أمنية شديدة التعقيد، تتقاطع فيها ثلاث جبهات مفتوحة، وهي: الأزمة الأنجلو فونية في الشمال الغربي والجنوب الغربي، والنشاط المتقطع لجماعة بوكو حرام في أقصى الشمال، والتوترات الاجتماعية في المدن الكبرى.
فمنذ اندلاع النزاع الأنجلو فوني عام 2016، تحولت المطالب الفيدرالية إلى صراعٍ مسلح خلّف أكثر من ستة آلاف قتيل وقرابة 700 ألف نازح داخلي، بحسب تقديرات الأمم المتحدة (2024). ورغم تنفيذ الحكومة برامج “العودة الطوعية” وإعلان عفوٍ محدود في 2023، فإنّ العمليات العسكرية والكمائن المتبادلة ظلت مستمرة خلال الحملة الانتخابية، مما جعل التصويت في تلك المناطق جزئيًا أو رمزيًا.
وفي أقصى الشمال، لا يزال التهديد الإرهابي حاضراً رغم تراجع حدته مقارنةً بعامَي 2014 و2015. فقد سجّلت السلطات خلال النصف الأول من 2025 نحو 25 هجوماً متفرقاً نُسبت إلى خلايا مرتبطة ببوكو حرام وتنظيم الدولة في غرب إفريقيا، مستهدفة مراكز أمنية وقرى حدودية قرب فوتوكول ومورا.
إذْ فرض هذا الوضع الأمني انتشاراً عسكرياً واسعاً يوم الاقتراع؛ حيث شارك أكثر من 30 ألف جندي وشرطي في تأمين العملية، وفق بيانات وزارة الدفاع، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الانتخابات الكاميرونية الحديثة. ورغم أنّ ذلك ساعد على منع هجمات كبيرة، إلا أنه خلق جوًّا من الترهيب وأضعف الثقة الشعبية في سرية التصويت وحريته.
أمّا في المدن الرئيسية، فقد اتخذت المخاطر طابعاً اجتماعيّاً–اقتصاديّاً، مع تصاعد احتجاجات متقطعة ضد ارتفاع الأسعار وتراجع الخدمات. وتخشى السلطات من تلاقي الغضب المعيشي مع الاحتقان السياسي لتشكيل موجة اضطرابات بعد إعلان النتائج، خاصة مع انتشار السلاح غير المرخّص في ضواحي دوالا وياوندي.
قد تجعل هذه البيئة الهشة الاستقرار الانتخابي مرهونًا بقدرة النظام على احتواء التوتر لا على معالجته؛ إذْ تبدو الكاميرون اليوم أمام معادلة دقيقة، وهي: الحفاظ على النظام العام عبر القبضة الأمنية، مقابل تآكل الإحساس بالطمأنينة المدنية، وهي معادلة تُضعف شرعية أيّ فوز انتخابي حتى وإنْ حَظِيَ بسلاسة إجرائية.
4. المواقف الإقليمية والدولية
قوبلت الانتخابات الكاميرونية بمزيج من التحفّظ الدبلوماسي واللامبالاة الاستراتيجية من الأطراف الإقليمية والدولية، على نحوٍ يعكس تراجع الاهتمام الدولي بالإصلاح السياسي في وسط إفريقيا؛ لصالح أولويات الأمن ومكافحة الإرهاب.
فقد اكتفى الاتحاد الإفريقي بإيفاد بعثةٍ محدودة من المراقبين (قرابة 40 عضوًا فقط)، اقتصرت مهمتها على متابعة الإجراءات الشكلية دون إصدار تقييم شامل للنزاهة، مكتفيّاً ببيان مقتضب في 13 أكتوبر دعا فيه إلى “الحفاظ على الاستقرار واحترام نتائج الصندوق”.
أما المجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا (ECCAS) فاكتفت بدورٍ بروتوكولي يعبّر عن “الالتزام بالسيادة الوطنية”، ما يعكس الحرج الإقليمي من انتقاد حاكم يُعدّ الأقدم في القارة.
وفي المقابل، تبنّت فرنسا، الشريك التاريخي الأبرز للكاميرون، موقفاً حذراً يتراوح بين الدعم الصامت والمراقبة الحذرة. فباريس التي ترى في بول بيا ضامناً لمصالحها الاقتصادية والأمنية في خليج غينيا، لم تُصدر أيّ موقفٍ رسمي قبل الانتخابات أو بعدها، مكتفية بإشارات دبلوماسية تشير إلى “أهمية الانتقال السلس” و”الاستقرار المؤسسي”.
وفي هذا الإطار، يرى مراقبون أنّ هذا الصمت يُترجِم استمرار المقاربة الواقعية الفرنسية التي تفضّل بقاء الأنظمة الموالية على فتح ملفات الإصلاح السياسي. أما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فقد عبّرا عن “قلقٍ محدود” إزاء اعتقالات المعارضة؛ لكن من دون إجراءاتٍ ملموسة، وهو ما فُسّر داخليّاً بأنه ضوءٌ أخضر غير معلن لاستمرار الوضع القائم.
أمّا على الصعيد الإفريقي الأوسع، يراقب تحالف دول الساحل (مالي، النيجر، بوركينا فاسو) التجربة الكاميرونية من زاويةٍ مغايرة، إذْ يُقدَّم الرئيس بول بيا في خطابهم كنموذجٍ لـ “الاستقرار المرتبط بالسيادة”، في مواجهة الضغوط الغربية. غير أنّ هذا التوظيف السياسي لا يخفي العزلة المتزايدة لياوندي داخل القارة؛ إذْ غابت الكاميرون عن قمم الإصلاح الديمقراطي وملفات الحكم الرشيد، وأصبح حضورها الإقليمي مقتصراً على التعاون الأمني فقط.
وفي المحصلة، تكشف المواقف الخارجية عن معادلة واضحة، مفادها: أنّ المجتمع الدولي يفضّل استقرار بول بيا على بديله؛ لكنه يفقد تدريجيّاً الثقة في قدرة نظامه على تجديد نفسه، ما يجعل الكاميرون عالقة بين الشرعية الخارجية الموروثة، والشرعية الداخلية المتآكلة.
ثالثا: الانعكاسات السياسية والإقليمية
تحمل انتخابات الكاميرون 2025م دلالاتٍ تتجاوز حدودها الوطنية؛ إذْ تعيد طرح سؤال الانتقال السياسي في الأنظمة الإفريقية الممتدة، وتكشف عن التحدي البنيوي الذي يواجه دول منطقة وسط إفريقيا بين مطلب الاستقرار ومطلب التجديد.
فاستمرار بول بيا، إنْ تأكد رسميّاً، لن يعني مجرد بقاء رئيسٍ في الحكم؛ بل ترسيخ نموذجٍ سلطويٍّ هرِم يقوم على مركزية القرار، وتآكل التمثيل الشعبي مقابل تحكّم الأجهزة. هذا النمط، وإنْ حافظ على هدوءٍ ظاهري في المدى القريب، يُفاقم هشاشة الدولة على المدى المتوسط، إذْ يعمّق الفجوة بين النخبة الحاكمة والمجتمع، ويؤجل التغيير بدل أن يمنعه. فالمجتمعات التي تُدار بمنطق “الإدارة من فوق” تنزلق تدريجيّاً نحو إدارة الأزمات لا نحو إدارة التنمية.
فعلى المستوى الإقليمي، تُشكّل الكاميرون ركيزة توازنٍ جيوسياسي في وسط القارة؛ إذْ تتشارك حدوداً مع ستّ دول مضطربة، وهي: نيجيريا، وتشاد، وجمهورية إفريقيا الوسطى، والكونغو، والغابون، وغينيا الاستوائية، ما يجعل أيّ اضطراب داخلي فيها عامل عدوى أمني محتمل للدول الأخرى.
فالجيش الكاميروني يشارك في قوات التحالف الإقليمي لمحاربة بوكو حرام، كما يشكّل عنصر توازن في معادلة الاستقرار الحدودي لتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى. لكن الانهاك المزمن في قيادته، وتزايد الإنفاق الأمني الداخلي قد يقلّص من قدرته على أداء هذا الدور. وفي حال تصاعدت التوترات الأنجلو فونية، أو الاحتجاجات الشعبية، فإنّ تدفق اللاجئين جنوبًا نحو الغابون، وغربًا نحو نيجيريا قد يشكّل ضغطًا إنسانيّاً جديداً على الإقليم برمّته.
أمّا على الصعيد الإفريقي الأوسع، فإنّ حالة الكاميرون تعيد إنتاج مفارقةٍ مألوفة، وهي: أنظمة تحظى باعترافٍ خارجي واسع رغم ضعف شرعيتها الداخلية. فالتسامح الدولي مع استمرار النظم العتيقة في المنطقة (وسط إفريقيا وغربها)، يضعف مصداقية خطاب الاتحاد الإفريقي حول “التحول الديمقراطي”، ويعطي مبرراً لأنظمةٍ أخرى لتمديد بقائها تحت شعار “الاستقرار الوطني”.
ومن جهةٍ أخرى، تُبرز التجربة الكاميرونية محدودية نموذج “الاستقرار الأمني” في ظل اقتصادٍ راكد ومجتمعٍ متململ، مما قد يشجع فاعلين مدنيين ودينيين على تبني خطاب الإصلاح الهادئ كبديلٍ عن المواجهة.
لذلك، فإنّ ما بعد 2025 سيكون مرحلة اختبارٍ حقيقية للنظام، بين خيار التكيّف عبر إصلاحٍ محسوب، أو خطر الانغلاق الذي قد يُفضي إلى انفجارٍ يصعب احتواؤه.
رابعا: الخيارات والسياسات المقترحة
تُبرز انتخابات الكاميرون 2025 الحاجة إلى مقاربة جديدة للتعامل مع الدولة والمجتمع، تتجاوز منطق الإبقاء على الاستقرار الشكلي نحو بناء استقرارٍ مستدامٍ يقوم على المشاركة والإصلاح. فالبلاد تقف عند مفترقٍ دقيق؛ حيث لم يعد استمرار الوضع الراهن كافياً، بينما يشكّل الانتقال غير المحسوب خطراً على تماسك الدولة والإقليم معًا. لذلك، تتطلّب المرحلة رؤيةً مشتركة تجمع بين صُنّاع القرار الكاميرونيين، والفاعلين الأفارقة، والشركاء الدوليين الذين تربطهم مصالح أمنية واقتصادية بالمنطق، يمكن تتلخص في النقاط التالية:
- ترميم العقد السياسي الداخلي: ينبغي فتح حوار وطني منظم يضمّ ممثلين عن الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني والقيادات الدينية، بهدف تحديث الإطار الدستوري والانتخابي بما يضمن استقلال المؤسسات وتوزيعًا عادلًا للسلطة بين المركز والأقاليم. ويُستحسن أن يتم هذا الحوار برعاية إفريقية صديقة لا وصاية خارجية، لضمان ملكيةٍ محليةٍ لمسار الإصلاح.
- تعزيز الحوكمة الأمنية والإدارية: تتطلب البيئة المتوترة في الشمال ومنطقة الأنجلو فون إصلاحاً عميقاً في بنية الأجهزة الأمنية وإعادة تعريف علاقتها بالمجتمع. فبدلًا من المقاربة الأمنية الصرفة، يجب تطوير نموذجٍ إداري–تنموي متكامل يربط الأمن بالخدمات والتعليم والبنية المحلية، بما يقلّل الاعتماد المفرط على الجيش في إدارة الشأن العام.
- توجيه التنمية نحو الأطراف المهمَّشة: على الحكومة وشركائها توجيه الموارد نحو مناطق التهميش التاريخي، خاصةً الشمال والجنوب الغربي، عبر برامج بنى تحتية محلية، ومشروعات تمويل صغيرة، وتعليمٍ مهنيٍّ للشباب. فالتنمية الموزعة جغرافيّاً ليستْ فقط مطلباً اقتصاديّاً؛ بل ضماناً للاستقرار الوطني، وتماسك الهوية المشتركة.
- إعادة تعريف الشراكات الإقليمية والدولية: ينبغي أنْ تتحول علاقات الكاميرون مع جيرانها وشركائها من منطق المساعدات الأمنية إلى منطق التكامل المتوازن والمساءلة المتبادلة. فالتعاون مع نيجيريا وتشاد والغابون يجب أنْ يركّز على التنمية الحدودية المشتركة ومكافحة التهريب، بينما على الشركاء الدوليين دعم الإصلاح المؤسسي، وليس الاكتفاء بتمويل الحملات الأمنية.
- تمكين النخب المدنية والدينية كمخزون توافقي: يملك المجتمع الكاميروني رصيداً قويّاً من المؤسسات الوسيطة، كـ “الكنائس الكبرى، الجمعيات الإسلامية، والنقابات المهنية”، القادرة على لعب دورٍ بنّاء في مرحلة ما بعد بول بيا. فتمكين هذه الأطراف عبر التدريب والتمويل المحلي يضمن انتقالًا سياسيّاً سلساً ويمنع انزلاق الفراغ نحو المواجهة.
وفي نهاية المطاف، لا يقتصر مستقبل الكاميرون على نتائج انتخابات 2025م فحسب؛ بل على قدرة الدولة والنخب وشركائها على تجديد أسس الشرعية، أيْ شرعية المشاركة لا الخضوع، والتنمية لا الولاء، والشراكة لا التبعية. فالاستقرار الحقيقي لن يتحقق بتوازن السلاح، ولا بخطاب القوة؛ ولكنْ بقدرة النظام والمجتمع على إنتاج عقدٍ جديدٍ يعيد الثقة بين الحاكم والمحكوم، ويحوّل الدولة من عبءٍ على الإقليم إلى رافعةٍ لاستقراره.
خامسا: الخاتمة واستشراف المشهد السياسي
بلا شك، إنّ انتخابات الكاميرون لعام 2025م تكشف عن نهاية مرحلة سياسية طويلة دون أن تفتح أفقًا جديدًا بعد. فالبلاد تدخل عقدها الخامس تحت حكمٍ واحدٍ أثبت قدرته على البقاء؛ لكنه فقد القدرة على التجدد. وما بدا لعقود ضمانة استقرار، يتحول اليوم إلى مصدر هشاشة بنيوية تهدد الدولة والمجتمع معًا. فالنظام الذي يُعيد إنتاج ذاته دون إصلاحٍ جوهريٍّ يعيش على هامش الزمن السياسي؛ وكلّ تأجيلٍ للتغيير يزيد كلفته.
فعلى المدى القريب، من المرجّح أنْ تواصل الكاميرون مسارها الحالي من الهدوء الحذر القائم على السيطرة الأمنية والإدارة المركزية؛ لكنّ هذا التوازن هشّ بطبيعته. فاحتقان الشباب، وتآكل الثقة المؤسسية، وتباطؤ الاقتصاد، عواملُ تتضافر؛ لتجعل أيّ أزمةٍ سياسية، أو انتقالٍ غير محسوب شرارة اضطرابٍ أوسع في عُقر منطقة وسط إفريقيا.
أمّا في المدى المتوسط، فإنّ بقاء الرئيس بول بيا، أو رحيله دون ترتيبٍ مؤسسيٍّ منضبط، سيحدّد شكل الدولة المقبلة. لذلك، فإنّ الرهان الحقيقي ليس على من يحكم الكاميرون؛ بل على كيف تُحكم.
فإما أنْ تنجح النخبة في هندسة انتقالٍ آمنٍ يعيد التوازن بين الدولة والمجتمع، أو تنزلق البلاد إلى فراغٍ سياسيٍّ تتكاثر فيه قوى العنف والمصالح المتقاطعة.
وفي كلتا الحالتين، ستظل الكاميرون مرآةً دقيقة لتحوّلات إفريقيا، تلك القارة التي تبحث عن استقرارٍ لا يُلغِي الإصلاح، وعن إصلاحٍ لا يُهدِّد الاستقرار.
_______________
المصادر
[1] https://www.reuters.com/world/africa/cameroon-holds-presidential-election-biya-seeks-extend-four-decade-iron-grip-2025-10-12/?utm_source=chatgpt.com
[2] https://aceproject.org/electoral-advice/archive/questions/replies/7798903/986792279/ELECTORAL-CODE-OF-CAMEROON.pdf?utm_source=chatgpt.com
[3] https://www.reuters.com/world/africa/cameroons-biya-vies-eighth-term-former-spokesperson-challenging-him-2025-10-09/?utm_source=chatgpt.com