شهدت مدغشقر في الرابع عشر من أكتوبر 2025 تحولًا سياسيًا مهمّاً، حين أعلن الجيش، بقيادة سلاح الأفراد والخدمات الإدارية والتقنية (CAPSAT)، الإطاحة بالرئيس أندري راجويلينا (Andry Rajoelina)، الذي غادر البلاد بعد تصاعد موجة احتجاجات شعبية واسعة اجتاحت العاصمة أنتاناناريفو وعددًا من المدن الأخرى.
وجاءت هذه الخطوة بعد أسابيع من التوتر السياسي والانهيار الاقتصادي المتسارع، إذْ سبق للرئيس أنْ أصدر قراراً بحلّ الجمعية الوطنية عبر منشور على “فيسبوك”، في محاولة لاحتواء الأزمة السياسية، غير أنّ البرلمان مضى في التصويت على عزله، ما عجّل بتدخل المؤسسة العسكرية وإعلانها تولي السلطة، حفاظًا على الأمن القومي واستقرار الدولة.
وفي أعقاب الانقلاب، أعلن الكولونيل مايكل راندراني رينا (Michael Randrianirina) نفسه رئيساً مؤقتًا للبلاد، مؤكداً على أنّ المرحلة الانتقالية ستستمر لعامين، يتم خلالها إعادة هيكلة مؤسسات الدولة والتحضير لانتخابات عامة جديدة.
كما تمّ تعليق الدستور، وتجميد أنشطة الحكومة السابقة، وتعيين حكومة مؤقتة بقيادة الجنرال ديموستين بيكولاس (Demosthène Pikulas) لإدارة الشؤون الأمنية والإدارية. وقد جاء ذلك بعد أيام قليلة من تعيين الرئيس المخلوع لوزير الدفاع السابق روفِن زافيسامبو (Ruphin Zafisambo) رئيسًا للوزراء، في محاولة فاشلة لتهدئة الشارع.
وتعود جذور الأزمة إلى احتجاجات شبابية اندلعتْ أواخر سبتمبر بسبب انقطاع الكهرباء والمياه، وتدهور الأوضاع المعيشية، قبل أنْ تتحول إلى حركة سياسية تطالب برحيل النظام، شارك فيها طلاب ونقابات مدنية تحت شعارات تدعو إلى “حكومة جديدة وكهرباء عادلة”.
ووفق تقديرات الأمم المتحدة، أدتْ المواجهات إلى مقتل 22 شخصاً، وإصابة أكثر من 100 آخرين. ومع تفاقم الأزمة، دخلت البلاد في فراغ دستوري أعاد إلى الأذهان أزمات الانقلابات السابقة في الجزيرة التي عَرَفتْ تاريخاً حافلًا بالتغييرات السياسية المفاجئة.
وقد أثار الحدث ردود فعل واسعة في الأوساط الإقليمية والدولية؛ حيث عقد مجلس السلم والأمن في الاتحاد الإفريقي اجتماعًا طارئاً لبحث ما وصفه بـ “التغيير غير الدستوري للحكم“، بينما دعتْ فرنسا والولايات المتحدة إلى ضبط النفس واستعادة المسار الديمقراطي.
وفي المقابل، برزتْ مواقف متباينة من بعض القوى الإفريقية التي فضّلت عدم وصف ما حدث بالانقلاب، داعيةً إلى “انتقال منظم يضمن الاستقرار”، حسب تعبيرها.
وفي ظل هذا المشهد المأزوم، يسعى فريق المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) إلى تقديم قراءة تحليلية أولية لهذا التحول السياسي من منظور شامل، وذلك من خلال تعليقات سياسية وتحليلية تسلّط الضوء على ثلاثة أبعاد رئيسة، وهي: التحول الجيوسياسي في مدغشقر، والانعكاسات الجيو اقتصادية، وأخيرً التعرف على تفاعلات القوى الإقليمية والدولية مع المشهد الجديد بين مواقف الاتحاد الإفريقي، وفرنسا، والصين، والهند.
أولًا: التحول الجيوسياسي في مدغشقر
أعاد الانقلاب العسكري في مدغشقر رسم خريطة التوازنات الجيوسياسية في المحيط الهندي وإفريقيا الجنوبية. فالجزيرة التي تمثل نقطة ربط بين الممرات البحرية القادمة من آسيا إلى إفريقيا، أصبحت اليوم ساحة تنافس بين قوى تبحث عن موطئ قدم في المحيط الحيوي الغربي للمحيط الهندي.
فسقوط حكومة راجويلينا أعاد النقاش حول علاقة مدغشقر بفرنسا من جهة، ومحاولات الصين والهند توسيع نفوذهما من جهة أخرى، ما يجعل مستقبل الجزيرة محورًا لمعادلة توازن دقيقة بين الاستقلال السياسي والارتهان للمصالح الإقليمية.
- تاريخيًا، حافظت فرنسا على نفوذ سياسي واقتصادي واضح في الجزيرة عبر الاستثمارات في قطاعات الطاقة والمعادن.
- بالمقابل، توسعت الصين في مشاريع البنية التحتية ضمن مبادرة “الحزام والطريق“، فيما دخلت الهند كفاعل صاعد في مجالات الأمن البحري والتكنولوجيا.
- اليوم، ومع تولي الجيش السلطة، تميل ملامح السياسة الخارجية نحو إعادة ترتيب الأولويات؛ حيث يتوقع أنْ تتبنى القيادة الانتقالية مقاربة أكثر حذراً تركز على استعادة الاستقرار الداخلي قبل إعادة رسم التحالفات.
ويُحتمل أنْ يؤدي هذا التحول إلى إعادة تموضع مدغشقر داخل المنظومة الإفريقية، خصوصًا في ظل توتر علاقتها مع الاتحاد الإفريقي، وتزايد اهتمام القوى الكبرى بمسارها السياسي الجديد الذي قد يعيد تشكيل التوازن الأمني في جنوب القارة.
ثانيًا: الانعكاسات الجيو-اقتصادية للانقلاب
من الناحية الاقتصادية، شكّل الانقلاب ضربة قوية لثقة المستثمرين المحليين والأجانب في بيئة الأعمال المدغشقرية. فالبلاد تعتمد على صادرات النيكل والفانيليا، إضافة إلى احتياطيات مهمة من الكوبالت والتيتانيوم، وهي موارد تشكّل العمود الفقري لاقتصادها الريعي.
ومع إعلان الجيش تعليق الدستور وتجميد العقود الحكومية، سارعت الشركات الأجنبية إلى تعليق أنشطتها بانتظار استقرار الأوضاع السياسية. ونتج عن ذلك ما يلي:
- تراجع سعر العملة المحلية وارتفعت أسعار السلع الأساسية نتيجة اضطراب سلاسل الإمداد.
- المؤسسات المانحة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي جمدتْ برامج التمويل مؤقتًا، ما زاد الضغط على ميزانية الدولة.
- في المقابل، يرى بعض الخبراء أنّ المرحلة الانتقالية قد تتيح مراجعة عقود الاستثمارات السابقة وتحسين شروطها بما يخدم المصالح الوطنية.
أمّا على المدى المتوسط، ستواجه القيادة الانتقالية معضلة الموازنة بين جذب الاستثمارات والحفاظ على السيادة الاقتصادية. وإذا لم تُصمم خطة إصلاح شفافة تعيد الثقة إلى الأسواق، فقد تجد البلاد نفسها في عزلة مالية تُفاقم من هشاشة اقتصادها، خصوصًا في ظل تراجع الإنتاج الزراعي وارتفاع معدلات الفقر.
ثالثًا: تفاعلات القوى الإقليمية والدولية
لقد أثار انقلاب مدغشقر تفاعلات متباينة بين القوى الإقليمية والدولية. فقد أدان الاتحاد الإفريقي ما وصفه بـ “التغيير غير الدستوري“، ملوّحاً بتعليق عضوية البلاد. أما فرنسا، صاحبة النفوذ التاريخي، فقد دعتْ إلى استعادة النظام الديمقراطي، في حين اكتفت الولايات المتحدة بالدعوة إلى ضبط النفس. وعلى الجانب الآخر، التزمت الصين والهند الحذر الصامت، مفضّلتين الحفاظ على علاقاتهما الاقتصادية دون الانحياز لأيّ طرف.
وتتابع دول جماعة التنمية لإفريقيا الجنوبية (SADC) التطورات بقلق، إذْ يمثل استقرار مدغشقر عنصراً أساسيّاً لأمن الملاحة، ومكافحة القرصنة في المحيط الهندي. وهناك مخاوف منْ أنْ يؤدي فرض عقوبات دولية إلى عزل البلاد، وهو ما قد تستغله قوى آسيوية أو شرق إفريقية لملء الفراغ السياسي. ورغم اختلاف المواقف، يبدو أنّ معظم الأطراف تتفق على أولوية الحفاظ على الاستقرار ومنع تحول الأزمة إلى صراع إقليمي.
وفي الوقت الذي يسعى فيه الجيش إلى تثبيت سلطته في الداخل، يجد نفسه مضطراً لإدارة توازن دقيق بين الداخل الضاغط، والخارج المترقب، في مشهد يُجسد تناقضات الجغرافيا السياسية لإحدى أهم الجزر الإفريقية في القرن الحادي والعشرين.
الخلاصة
يرى فريق المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) أنّ ما جرى في مدغشقر لا يمكن اختزاله في مجرد انقلاب عسكري أو انتقال مؤقت للسلطة؛ بل هو انعكاس لأزمة بنيوية في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين السيادة الوطنية والضغوط الخارجية.
فالاحتجاجات التي مهّدتْ للتدخل العسكري لم تكن مجرد حراكٍ سياسي؛ بل تعبيراً عن تراكم طويل من الفشل في إدارة التنمية، واحتكار النخبة للثروة، وضعف العدالة الاجتماعية في بلدٍ يملك موارد طبيعية هائلة؛ لكنه يعاني من فقرٍ مزمن، وعدم استقرار مؤسسي.
ويعتقد المركز أنّ موقف الجيش – وإنْ جاء تحت غطاء “استعادة النظام” – يمثل في جوهره تحولًا في طبيعة الفاعل السياسي الإفريقي؛ إذْ باتت المؤسسة العسكرية في العديد من الدول أداة لإعادة التوازن السياسي أكثر من كونها قوة انقلابية تقليدية.
ومع ذلك، فإنّ شرعية أيّ سلطة انتقالية ستظل مرهونة بقدرتها على بناء مسار واضح للعودة إلى الحكم المدني، وإعادة الثقة بالمؤسسات المنتخبة دون الوقوع في فخ “الشرعية المؤقتة المستدامة” التي جرّت القارة إلى دوامة الانقلابات السابقة.
ومن منظور أوسع، يّعتَبر أفروبوليسي أنّ ما يحدث في مدغشقر يُعيد طرح سؤال السيادة في إفريقيا، وهو: من يملك حق تحديد اتجاه التنمية؟ هل هي النخب السياسية، أم الشركاء الدوليون، أم الشعوب؟
إنّ الإجابة عن هذا السؤال ستحدد مستقبل العلاقة بين إفريقيا والعالم في العقد القادم. ولهذا يدعو المركز إلى مقاربة إفريقية جديدة تقوم على ثلاثة مرتكزات رئيسية، وهي:
- تعزيز الشرعية الداخلية عبر إعادة هيكلة العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن.
- تحصين القرار الاقتصادي من الهيمنة الخارجية وتحقيق شراكات عادلة قائمة على المصالح المتبادلة.
- إرساء آليات إقليمية فعّالة داخل الاتحاد الإفريقي لضمان انتقالات سلمية للسلطة تحترم الدستور ولا تترك فراغًا سياسيًا.
وبهذا المنظور، فإنّ أزمة مدغشقر ليست نهاية مرحلة؛ بل بداية اختبار جديد لقدرة القارة على بناء نموذجٍ خاص من الحكم الرشيد، يجمع بين الاستقرار والسيادة والتنمية المستقلة، بعيداً عن الوصاية الدولية، وعن الانقلابات المتكررة التي أنهكت طموحات الشعوب الإفريقية في التقدم والنماء والكرامة.