عقد المركز الأفريقي للبحوث ودراسات السياسات (أفروبوليسي) ندوة بعنوان “التحولات الجيوسياسية في القرن الأفريقي وأثرها على مستقبل استقرار الإقليم” ضمن سلسلة الندوات الشهرية للمركز، جمعت باحثين خبراء وأكاديميين بارزين لتحليل الديناميكيات الجيوسياسية المُعقّدة التي تُشكّل هذه المنطقة الأفريقية الحيوية. انعقدت الندوة عبر منصة (زووم) في 19 يوليو 2025 ودامت قرابة ساعتين ونصف.
وافتتح الدكتور محمد صالح عمر، مدير المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات “أفرو بوليسي”، الندوة بكلمة ترحيبية وأشار إلى الأهمية الاستراتيجية للقرن الأفريقي، والأبعاد المحلية والإقليمية والدولية المتشابكة التي ساهمت تاريخيًا في استمرار حالة عدم الاستقرار.
1.التنافس الدولي في القرن الأفريقي
افتتحت أولى فقرات الندوة بمداخلة للدكتور محمد طاهر، الباحث في الفكر السياسي المعاصر، حيث أكد على الأهمية الاستراتيجية للقرن الأفريقي في إطار النظريات الجيوسياسية البارزة، بما في ذلك نظرية “ريملاند” لنيكولاس سبيكمان، ونظرية “الفضاء الحي” لفريدريش راتزل، ونظرية “الهلال والنجم” لجمال حمدان. وتؤكد جميع هذه النظريات على المكانة المحورية للمنطقة في السياسة العالمية، لا سيما بفضل سيطرتها على المعابر البحرية الرئيسية مثل باب المندب، الذي يمر عبره ما يقرب من 10% من التجارة البحرية العالمية.
تتبع الدكتور طاهر المراحل التاريخية للتنافس الدولي، بدءًا من الصراعات البرتغالية العثمانية في القرن السادس عشر، مرورًا بالاستعمار الأوروبي عقب مؤتمر برلين عام ١٨٨٤، والتنافس الشديد خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وصولًا إلى تصاعد الوجود العسكري بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وقد تركت هذه المراحل المنطقة في حالة اشتعال دائم وعرضة للتدخل الخارجي.
ولخص الدكتور طاهر التداعيات الوخيمة للتنافس الدولي المستمر، بما في ذلك استمرار عدم الاستقرار، والفقر المدقع، واستغلال الموارد، والأنظمة السياسية القمعية، وهجرة الأدمغة المستمرة. واختتم حديثه بالإشارة إلى أن استراتيجيات القوى العظمى تتطور لتركز ليس فقط على استخراج الموارد، بل على الحفاظ على عدم الاستقرار الإقليمي لحماية المصالح الاستراتيجية والسيطرة على طرق التجارة البحرية. وحذّر من تزايد الوجود العسكري وتفاقم التنافس، متوقعًا استمرار التوترات في المستقبل المنظور.
2. التنافسات الإقليمية وديناميكيات الأمن
تناول الدكتور أسامة عيدروس، أكاديمي مختص بالشؤون الأمنية والاستراتيجية، المحور الثاني من محاور الندوة المتعلق بالتنافس الإقليمي في منطقة القرن الأفريقي، مشددًا على سرعة تغير الحقائق الجيوسياسية وديناميكيات الأمن. وسلط الضوء على التحول نحو منهجيات الحرب الحديثة – مثل الحرب السيبرانية، وحرب الطائرات بدون طيار، والحرب الهجينة – التي أحدثت تحولًا جذريًا في ديناميكيات الصراع.
ومن النقاط المهمة التي أثارها الدكتور عيدروس التنافس الاستراتيجي الناشئ على كابلات الإنترنت البحرية، والتي أصبحت ساحات معارك خفية بين الشركات الصينية ولا سيما (هواوي) والشركات الغربية. ويزيد هذا التعرض للتخريب أو التجسس من تعقيد المخاوف الأمنية الإقليمية.
كما انتقد الدكتور عيدروس عجز المنطقة عن دعم منظمات إقليمية فعّالة، مشيرًا تحديدًا إلى الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد)، التي تدهورت فعاليتها بعد الحرب الباردة. وجادل بأن القوى الأجنبية تستغل نقاط ضعف الدول بنشاط لتبرير التدخل واستخراج الموارد، مما يؤدي إلى تفاقم الصراعات المحلية. واختتم عيدروس حديثه بحثّ القادة الإقليميين على تبني رؤية أمنية تعاونية تُعلي من شأن الاستقرار الإقليمي على حساب مصالح الأنظمة الضيقة.
3. الديناميكيات المحلية والمساءلة
أما المحور الثالث في الندوة ركز فيه الدكتور عبد الرازق كرار، وهو الباحث في مجال الدمقرطة والانتقال الديمقراطي، على الجهات الفاعلة المحلية، منتقدًا الميل السائد بين النخب الإقليمية لإلقاء اللوم كليًا على القوى الأجنبية في استمرار عدم الاستقرار. وأكد أنه بعد عقود من الاستعمار والحرب الباردة، يجب على النخب المحلية تحمّل مسؤولية إخفاقات الحكم.
كما طرح الدكتور كرار مفارقةً مُلِحّة: تحافظ جيبوتي على استقرارٍ ملحوظ رغم استضافتها ثماني قواعد عسكرية أجنبية من قوى عالمية مُتنافسة، مُشيرًا إلى أن الأهمية الاستراتيجية وحدها لا تُسبب عدم الاستقرار بالضرورة. بل عزا عدم الاستقرار في المقام الأول إلى إعطاء الأنظمة الأولوية لبقائها على حساب أمن الدولة والإقليم.
ولمعالجة هذا الوضع، اقترح الدكتور كرار إنشاء اتحادٍ إقليميٍّ مُستوحى من الأطر الفكرية السابقة لمفكرين أفارقة مثل أبو القاسم حاج حمد، بهدف حل التناقضات الكامنة من خلال التعاون. كما أكد على ضرورة مواجهة سياسات الهوية الانقسامية التي تغذيها جاليات الشتات في الخارج، وحثّ أفراد الشتات على القيام بأدوار إيجابية في تعزيز التكامل ونقل المعرفة والتنمية المستدامة.
4. سيناريوهات المستقبل والتوصيات الاستراتيجية
قدم الأستاذ الشافعي أبتيدون المحور الرابع في الندوة، وهو كاتب صحفي ومتخصص في الشأن الأفريقي، سيناريوهات مستقبلية محتملة للمنطقة بناءً على الديناميكيات الجيوسياسية الحالية. وأشار إلى العديد من الأزمات الملحة، بما في ذلك الحرب الأهلية الدائرة في السودان، وهجمات الحوثيين في البحر الأحمر، وسعي إثيوبيا للوصول البحري الذي يُفاقم التوترات الإقليمية، وتزايد المنافسة العسكرية بين قوى الشرق الأوسط مثل الإمارات العربية المتحدة وتركيا وإيران والمملكة العربية السعودية.
وحدد أبتيدون ثلاثة مسارات محتملة:
استمرار الاستقطاب الإقليمي: صراعات بالوكالة مستمرة تُفاقمها التدخلات الخارجية.
التكامل الاقتصادي: سيناريو يدعمه قادة مثل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ويدعو إلى التعاون الاقتصادي الإقليمي وتطوير البنية التحتية.
إعادة رسم الحدود السياسية: إن الظهور المحتمل للحركات الانفصالية أو تنامي قوتها قد يُعيد تشكيل الخرائط السياسية، ويُغير الاستقرار الإقليمي جذريًا.
كما قدّم توصيات ملموسة لتحقيق الاستقرار الإقليمي، بما في ذلك تعزيز الحوار الإقليمي الشامل، وتقوية هياكل الحوكمة الداخلية، وتنظيم الوجود العسكري الأجنبي، والاستثمار في تطوير البنية التحتية، والدعوة إلى ترتيبات عادلة لتقاسم الموارد.
المناقشات والتوصيات
تم فتح باب التعقيبات والمداخلات لحضور الندوة، إذ تناولت هذه المناقشة أسئلة تتعلق بإمكانية وصول إثيوبيا إلى الموارد البحرية والدور البناء الذي يمكن أن تلعبه مجتمعات الشتات. واتفق المتحدثون والمشاركون على أن أفضل طريقة لمواجهة التحديات البحرية التي تواجهها إثيوبيا هي من خلال المفاوضات الثنائية والمتعددة الأطراف، والتعاون الاقتصادي الإقليمي، والتواصل الدبلوماسي، وخاصةً فيما يتعلق بالوصول إلى الموانئ الإريترية، على الرغم من أن التوترات السياسية القائمة تُشكل عقبات كبيرة.
وتم التأكيد بقوة على التأثير الإيجابي المحتمل للشتات، مع التأكيد على دوره في التكامل الإقليمي، والاستثمارات الاقتصادية، والدعوة المتوازنة، وتعزيز السلام المستدام.
اختُتمت الندوة بالتأكيد على الحاجة المُلحة لقادة ونخب المنطقة إلى تبني استراتيجيات شاملة وتعاونية لتحقيق الاستقرار. تُهدد الانقسامات الداخلية المستمرة والتدخل الخارجي غير المُقيّد بترسيخ هشاشة القرن الأفريقي. وأكد المشاركون أن السلام المستدام يتطلب معالجة مواطن الضعف التاريخية الكامنة، وتعزيز التكامل الإقليمي، وتطوير هياكل حوكمة مرنة قادرة على مواجهة عوامل زعزعة الاستقرار الداخلية والخارجية.
كشفت هذه المناقشة الحاسمة عن كفاح القرن الأفريقي المستمر ضد مواطن الضعف التاريخية، والديناميكيات الإقليمية المعقدة، والمصالح الدولية المكثفة. وقدمت الندوة رؤى استراتيجية قيّمة، مشجعةً على إيجاد حلول إقليمية تعاونية و أخرى لتعزيز المرونة الداخلية باعتبارها كلها مفاتيح للاستقرار والتنمية في المستقبل.
لمشاهدة الندوة اضغط هنا
ندوات المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات