مقدمة:
تهدف العقوبات المفروضة من الاتحاد الأفريقى، إلى جانب العقوبات الدولية، وغيرها من المنظمات الإقليمية الفرعية فى أقاليم أفريقيا؛ إلى تقييد الانقلابات العسكرية فى أفريقيا، لكنها بالرغم من ذلك لم تنجح فى القضاء عليها، بسبب تجذر المحفزات التى تُعزز الانقلابات العسكرية فى الدولة نفسها، فالاتجاهات التقليدية التى تناولت الظاهرة ترجعها إلى عوامل داخلية، كالثروة، ومستوى الديمقراطية، وتاريخ الانقلابات السابقة، والمصالح المؤسسية للمؤسسة العسكرية، فى حين ينظر آخرون إلى الدور الخارجى المعزز لهذه الانقلابات كالدور الروسى الصاعد مثلًا فى غرب أفريقيا.
وبالنظر إلى دوافع قادة الانقلابات، يُنظر إلى تحركاتهم على أنها عقلانية: أى محسوبة من حيث التكلفة والعائد، فالعقوبات المفروضة من الاتحاد الأفريقى وإن كانت تستهدف قادة الانقلابات، إلا أن أغلبها يستهدف الدولة نفسها، وليس المتورطين فى الانقلاب كتجميد الأرصدة، أو منع الاستثمار والتبادل التجارى، وحظر الطيران…إلخ، ومن ثم فالعائد_تولى السلطة_أكبر من التكلفة، خاصة وأن ممثلى الاتحاد الأفريقى دائمًا ما يتفاوضوا مع قادة الانقلابات العسكرية، وغالبًا ما يتسامحون معهم، بل ويتعهدوا بضمان عدم ملاحقتهم، أو تأمين سفرهم لدول أخرى. بالتالى التدابير التى يتخذها الاتحاد الأفريقى، والمنظمات الإقليمية الفرعية، تهدف لتهديد العسكريين من ارتفاع التكلفة فى مقابل العوائد، عبر الإجرءات المختلفة، والمواثيق التى تتبناها، حيث تسعى لردع هذه المحاولات قبل وقوعها بالأساس، لكن مازالت هذه الاجراءات عاجزة عن تحقيق هذا الهدف.
وتُعد حالة الجابون؛ أبرز الأمثلة على عدم فعالية التدابير التى يتخذها الاتحاد الأفريقى للتصدى للانقلابات العسكرية، ورفع تكلفة قادة الانقلابات، مع فوز قائد الانقلاب؛ الجنرال”بريس أوليغى أنغيما”فى الانتخابات الرئاسية التى أُجريت فى أبريل 2025، ولمدة سبع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط، فى ظل تفشى الانقلابات الدستورية/التعديلات الدستورية لفترة الحكم، والتى تُمكن الرؤساء من الاستمرار فى السلطة لفترات حكم طويلة، فيما يُطلق عليه”الملكيات الرئاسية فى أفريقيا”.
تسعى هذه المقالة لتحليل المرحلة الانتقالية فى الجابون، للتعرف على مدى اتساق العسكريين فى الجابون مع ميثاق الاتحاد الأفريقى، وغيرها من المواثيق الأفريقية ذات الصلة، وإذا ما كانت المرحلة الانتقالية فى الجابون عززت الانتقال الديمقراطى للسلطة، عبر ضمان انتخابات حرة وتنافسية، أم مجرد مرحلة لتهيئة الساحة الداخلية لتولى العسكريين السلطة.
أولًا: الانقلابات الدستورية وتعزيز المكليات الرئاسية فى أفريقيا:
تُعانى بلدان أفريقيا عمومًا، والفرانكفونية_وبالأخص غرب أفريقيا_ خصوصًا من تفشى ظاهرة الملكيات الرئاسية؛ فى إشارة إلى تولى رؤساء الدول الأفريقية السلطة مدى الحياة، والتحايل على حدود الولاية المنصوص عليها فى الدستور، سواء بإلغائها، أو تعديلها، وبالرغم من الضغوط العالمية، والإقليمية من أجل القضاء على هذه الظاهرة، إلا أنها كمشكلة مازالت مستمرة[1].
تُشير مشكلة الملكيات الرئاسية، أو الرئاسة مدى الحياة إلى أزمة الحكم التى تُعانى منها بلدان أفريقيا عمومًا، وأفريقيا الفرانكفونية خصوصًا، وعلى رأسها بلدان غرب أفريقيا، حيث يميل الرئيس لاستخدام القمع والاستبداد للاستمرار فى السلطة لأطول فترة زمنية ممكنة، فى ظل عدم الاستقرار، وفشل التنمية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وانتهاكات حقوق الإنسان، وضعف المؤسسات، ومنذ التسعينيات، وفى ظل ربط المساعدات والقروض المالية الدولية بتبنى البلدان الأفريقية للديمقراطية الليبرالية، وما نتج عنه من تعددية حزبية، وانتخابات وإن كانت غير حرة، ومجتمع مدنى دائم المطالبة بالديمقراطية عبر المظاهرات، بدأت البلدان الأفريقية فى وضع حدود لفترة ولاية الرئيس، لمنع استمراره مدى الحياة، واعتبر تحديد ولاية الرئيس فى الدستور عنصرًا هامًا من عناصر الضوابط والتوازنات فى ظل ضعف المؤسسات التشريعية، والإعلام، والقضاء، والأحزاب السياسية.
وبالرغم من تردد بلدان غرب أفريقيا فى تحديد مدة ولاية الرئيس فى الدستور؛ نظرًا لعدم تحديد فترة الرئيس فى الدستور الفرنسى حتى عام 2008 فى ظل رفض الرئيس”جاك شيراك”الترشح لولاية ثالثة، بالرغم من عدم مخالفة ذلك للدستور الفرنسى، ومن ثم انتهج الدستور الفرنسى تحديد فترة الحكم فى ولايتين فقط، وهذا يفسر عدم ضغط فرنسا على حكام غرب أفريقيا، وغيرها من البلدان الفرانكفونية لتحديد فترة الحكم فى الدستور، بالرغم من دورها الكبير لوقف الانقلابات الدستورية فى مناطق نفوذها، ولرغبة فرنسا أيضًا فى الاحتفاظ بالحلفاء بما يضمن الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والسياسية؛ إلا أن بلدان غرب أفريقيا كانت من أهم الدول استجابة لموجة الديمقراطية الثالثة، وتحديد فترة الحكم فى الدستور الوطنى، كحالة توغو 1963، السنغال 1970، مالى 1974، ثم بنين التى دعت لمؤتمر وطنى لكتابة دستور جديد تضمن التعددية الحزبية؛ بدلًا من الحزب الواحد، وحدد مدة ولاية الرئيس عام 1990، وتبعتها الكونغو الديمقراطية عام 1997، والتى عانت من حكم” موبوتو سيسي سيكو”لمدة 32 عام من 1965-1997، حيث رسخت حدود ولاية الحكم أيضًا، وبشكل عام التزمت هذه الدول بفترتين رئاسيتين، لكن وبالرغم من انتشار تحديد فترة ولاية الرئيس على نطاق واسع فى كافة بلدان أفريقيا، وتدعيمها من قبل الاتحاد الأفريقى، إلا أن الرؤساء بدءوا فى التحايل على هذا النص الدستورى، سواء بتعديله أو إلغاؤه للاستمرار فى الحكم لفترات أخرى[2].
وهنا بدأت الانقلابات الدستورية تأخذ نمطين: إما اتباع مدرسة”سام نجوما”أول رئيس لناميبيا بعد الاستقلال، والذى يُعد رائد أفريقيا فى الانقلابات الدستورية، فهو أول من تبنى نهج تعديل الدستور للسماح بتولى فترات رئاسية أخرى؛ عبر تصفير العداد عند بلوغ نهاية الفترتين الرئاسيتين، وتأثر به فى غرب أفريقيا “ألفا كوندى” فى غينيا عام 2020، و”الحسن واتارا”فى كوت يفوار عام 2020، “كابيلا” فى الكونغو الديمقراطية عام 2015، أما المدرسة الثانية فتمثلت فى إلغاء فترة الولاية من الدستور، للسماح للرئيس بالاستمرار فى الحكم لفترات غير محدودة، أخذت بها فى غرب أفريقيا عدة بلدان مثل غينيا كوناكرى 2001، توجو 2002، الجابون 2003، تشاد 2005، الكاميرون 2008، النيجر 2009، جيبوتى 2010[3].
أظهرت هذه النظم رغبة جامحة في البقاء في السلطة، والعمل على إضعاف القيود الدستورية والقانونية الأخرى كالبرلمانات، والمحاكم لضمان بقاءهم في السلطة، وتوريثها لأبنائهم من بعدهم: أي برز شكل جديد من الملكيات الرئاسية، إلى الملكيات الأسرية، وهذا ما عزز إطلاق الملكيات الرئاسية على الهيئات التنفيذية الاستبدادية في أفريقيا، حيث سعى الحكام لتوريث السلطة لأبنائهم عبر تعديل الدستور أيضًا كحالة توجو؛ حيث عدل الرئيس” Gnassingbé Eyadéma”الدستور فيما يتعلق بالحد الأدنى لسن الرئاسة_37 بدلا من 45_حتى يتمكن إبنه من خلافته، وبعد وفاة”إياديما”بعد حكم توجو لمدة 33عامًا، تولى الحكم ابنه”Faure Gnassingbé”، ونظرًا لرفض الاتحاد الأفريقى، والجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا التوريث، تنحى”Faure Gnassingbé “، وتولى نائب رئيس البرلمان الحكم حتى إجراء انتخابات رئاسية، فاز فيها” Faure”بنسبة 60%من الأصوات.
حدث أيضًا نفس السيناريو فى الجابون؛ حيث ورث الرئيس”عمر بونغو”الحكم لابنه”على بونغو” بعد 42 عامًا فى السلطة، لكن بالاستفادة من تجربة توجو، وتجنبًا لردود الفعل المحلية، والإقليمية، والدولية، تولت رئيسة البرلمان الحكم حتى إجراء انتخابات رئاسية فاز بها”على بونغو” عام 2009، وهكذا أعد “على بونغو”ابنه”نور الدين”لخلافته بعد اصابته بسكته دماغية، لكن تم الانقلاب عليه بعد اعلان فوز الرئيس”على بونغو”بولاية رابعة فى عام 2023، وإعلان الجنرال”برايس أوليغى”رئيسًا مؤقتًا[4].
بينما فى تشاد، مثل وصول”محمد إدريس”انقلابًا دستوريًا بعد خلافة والده، حيث ترأس المجلس العسكرى الانتقالى، الذى وضع خطة زمنية لمرحلة انتقالية، لإجراء انتخابات مدنية لم يلتزم بها لمدة 18 شهرًا، لكن تم عقد الانتخابات فى مايو 2024، وفاز بها”محمد إدريس[5]“. وهكذا أيضًا “جوزيف كابيلا” الذى حكم خلفًا لوالده بعد اغتياله عام 2001 في الكونغو الديمقراطية، كما عدل الرئيس” Teodoro Obian”فى غينيا الاستوائية الدستور عام 2011؛ ليٌمكن ابنه من خلافته فى الحكم، وهكذا الكاميرون حاليا؛ حيث يُعد الرئيس”بول بيا”البالغ من العمر 90عامًا ابنه”فرانك بيا”لخلافته، عبر ترويج الإعلام، وحركات مجهولة”حركة المواطنين”، بأن “فرانك”هو الرئيس القادم للكاميرون فى انتخابات 2025.
لكن هذه الصورة القاتمة يشوبها تفاؤلات؛ بسبب التزام العديد من الرؤساء أيضًا بالدستور، وتسليم السلطة بعد انتهاء فترة ولايتهم كما فى السنغال، و بنين، وليبيريا، والرأس الأخضر، وسيراليون، وغانا، ونيجيريا.
ثانيًا: سياق الانقلاب العسكرى فى الجابون:
تمت الإطاحة بالرئيس”على بونغو”فى أغسطس2023، فى انقلاب عسكرى قاده الجنرال”نغيما”ضد واحد من أبرز الملكيات الرئاسية فى أفريقيا، حظى بدعم واسع من السياسيين، والمجتمع المدنى، والشعب، بجانب الجيش وقوات الأمن، لهذا أُطلق عليه المراقبين؛ بالانقلاب الأبيض، وبعد الإطاحة بالرئيس”بونغو”؛ تولى الجنرال”نغيما”رئاسة الحكومة الانتقالية المؤقتة، ووعد بالعودة للحكم الديمقراطى سريعًا، وإجراء انتخابات مدنية، لكن لم يُحدد فترة زمنية محددة لنهاية المرحلة الانتقالية[6].
أنهى الانقلاب العسكرى حكم آل “بونغو”الذى استمر لعقود فى الجابون، فى ظل التعديلات الدستورية المتتالية التى مكنت الرئيس”عمر بونغو”من الاستمرار فى الحكم لمدة 42 عامًا، ثم توريث السلطة لابنه”على بونغو” الذى مكث فى السلطة منذ 2009 وحتى عام 2023، عبر التعديلات الدستورية أيضًا التى مكنته من خوض أربعة انتخابات رئاسية، تمت الإطاحة به بعد إعلانه الفوز فى الرابعة، لينهى الانقلاب ظاهرة الملكيات الرئاسية أو الحكم الأسرى فى الجابون.
بداية تولى الرئيس”عمر بونغو”رئاسة الجابون عام 1967 خلفًا للرئيس”ليون إمبا”، وأسس الحزب الديمقراطى الجابونى كحزب واحد حاكم للبلاد، كما ألغى منصب نائب الرئيس، واستبدله بمنصب رئيس الوزراء، والذى لا يحق له تولى رئاسة الدولة فى حالة وفاة الرئيس، أحكم”بونغو”قبضته على الجابون، مستمدًا قوته أيضًا من الدعم الفرنسى له، والذى وفر بحكم الاتفاقيات الثنائية ضمانة رئيسية ضد تهديدات الانقلابات العسكرية لحكمه، لكن شهدت الجابون فى التسعينيات اضطرابات شعبية، تطالب بإصلاحات ديمقراطية، فرضت على “عمر بونغو” أن يقدم اصلاحات دستورية، وأبرزها إدخال تحديد فترة الحكم فى دستور 1991_خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط_ بعد عقد المؤتمر الوطنى فى الجابون، لكنه تمكن من تجاوز هذه المادة، عبر الانقلابات الدستورية، ما مكنه من الحكم لمدة 42 عامًا، وخوض خمسة انتخابات رئاسية؛ 1993، 1998، 2005، 2009، 2016، شابتها جميعًا شكوك بعدم نزاهتها، وعدم شفافيتها، كما تمكن من توريث الحكم لابنه”على عمر بونغو”بعد وفاته عام 2009. بالتالى يُمكن القول بأنه لم تكن موجة الديمقراطية وحدها منذ بداية التسعينيات، وسقوط الاتحاد السوفيتى هى السبب فى التحول باتجاه تحديد فترة الحكم، والتعددية الحزبية، وغيرها من مبادىء الديمقراطية فى أفريقيا؛ بل إن الأزمات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية التى شهدتها بلدان أفريقيا، وفشل الأنظمة الاستبدادية القائمة على الحزب الواحد فى حل هذه الأزمات، قادت لضغوطات شعبية، ومن المعارضة السياسية _غير القانونية آنذاك_ لإحداث تغيير حقيقى، ومن ثم عٌقدت مؤتمرات وطنية، صيغت بموجبها دساتير جديدة فى العديد من البلدان كبنين فبراير 1991، والتى ألهمت تجربتها الجابون، والكونغو، وتوجو، ومالى، والنيجر، وتشاد[7].
قام”عمر بونغو”بأول انقلاب دستورى عام 1977: أى قبل عام من الانتخابات الرئاسية؛ عبر تعديل فترة الولاية فى الدستور؛ زادت فيها فترة الولاية من خمس سنوات إلى سبع سنوات، ولفترتين فقط، لكنه قام أيضًا بإعادة تصفير العداد: أى اعتبر أن فترة حكمه قبل التعديلات الأخيرة غير محسوبة لسبب أنه لا يُعد قانونيًا أو دستوريًا أن تحسب له فترتين مختلفتين، ومن دستورين مختلفين_دستور 1991، 1997_، وهذا ما فتح له إمكانية الاستمرار فى الحكم لمدة سبعة عشر عامًا أخرى، ثم قام بإلغاء حدود فترة الولاية نهائيًا فى تعديلات 2003، بجانب تعديل النظام الانتخابى من نظام الجولتين، إلى نظام الجولة الواحدة، التى يحسمها أكثر عدد من الأصوات[8].
اعتمد الرئيس”عمر بونغو”؛ على القمع، والاستبداد، فى ظل وحشية الشرطة، والجيش، وتآكل الحريات المدنية، وحرية الصحافة، بجانب الاعتماد على شبكة المحسوبية، والتى انعكست فى تعيين المقربين له فى المناصب الحساسة فى الدولة، كتعيين”مارى مادلين”فى رئاسة المحكمة الدستورية_عشيقة الرئيس، وأم لاثنين من أبنائه_مما مكنه من تمرير تعديلات قانون الانتخابات، والتعديلات الدستورية، فى ظل ضعف السلطتين التشريعية، والقضائية، وفى ظل الانتخابات غير الحرة، والتى تفتقر للنزاهة، والشفافية؛ فاز”عمر بونغو” فى الانتخابات الرئاسية حتى وفاته، تلاه ابنه”على بونغو”والذى فاز بثلاث جولات انتخابية، أخرهما انتخابات 2023، وسط اتهامات بالتزوير، مما دفع بالشعب الجابونى لعدم الثقة فى العملية الانتخابية برمتها، وعزوفه عن المشاركة فيها، وهذا ما توضحه تدهور نسب المشاركة فى الانتخابات؛ ففى انتخابات 2005 فاز “عمر بونغو” بنسبة 67% من نسبة مشاركة تتراوح بين 20-30% من الأصوات التى يحق لها الانتخاب، وهكذا فى انتخابات 2016 المزورة التى حسمها ابنه”على بونغو” بنسبة 41.7%، فقد بلغت نسبة المشاركة 46% فقط، ووفقًا لمصادر فرنسية، فقد كان الفائز فى هذه الانتخابات المعارض”أندريه مبا أوبامى”، وليس نجل الرئيس[9].
كثف”عمر بونغو”جهوده لإضعاف الحياة الحزبية، باعتبارها أهم المؤسسات التى تقف أمام طموحه بالبقاء فى السلطة لأطول فترة ممكنة، عبر إنفاق ملايين الفرنكات على شراء قادة المعارضة، وبناء أحزاب وهمية أو غير فاعلة هدفها فقط الحصول على تمويل حكومى، تحت شعار تعزيز قدرة الأحزاب على العمل، حالة الفساد هذه قادت إلى نجاحه فى خلق انشقاقات فى صفوف المعارضة، ومن ثم تراجعت ثقة الشعب بالمعارضة أيضًا، وفى ظل هذا الفساد فشلت الخطط الرامية لتحقيق التنمية فى البلاد، وانهارت الحياة الاقتصادية، والسياسية، وهذا ما تبرهن عليه أوضاع الدولة وفقًا لمؤشرات مدركات الفساد، والديمقراطية، والتى أوضحت تدنى الحريات والحقوق المدنية والسياسية فى الجابون[10]. كما أن هذا الانغلاق السياسى خلق قناعة لدى الشعب الجابونى بضرورة حدوث ثورة من أجل تغيير حكم أسرة “آل بونغو”، لأنه لن ينجح أى مسار آخر للتغيير السلمى، وربما هذا سبب الاحتفال بالانقلاب الأخير فى 2023.
ثالثًا: الاتحاد الأفريقى، والانقلاب العسكرى فى الجابون:
يرفض الاتحاد الأفريقى أى شكل من أشكال الانقلابات العسكرية، فى إطار سعيه للتصدى لهذه الظاهرة التى تُهدد السلم والأمن فى أفريقيا، وتُدخل بلدانها فى نفق مظلم من الصراعات، وعدم الاستقرار، لهذا يُحدد الميثاق بدقة الممارسات التى تُعد انقلابًا عسكريًا فيما يلى؛ كل استيلاء على السلطة عبر انقلاب عسكرى ضد حكومة منتخبة ديمقراطيًا، وكل تدخل من قبل مجموعة من المنشقين المسلحين أو حركات متمردة لقلب حكومة منتخبة ديمقراطيًا، وكل رفض من حكومة قائمة تسليم السلطة للحزب أو المرشح الفائز فى انتخابات حرة وعادلة ونزيهة، وكل تعديل أو مراجعة الدساتير و الوثائق القانونية بالصورة التى تتعارض مع مبدأ التناوب الديمقراطى على السلطة.
وتنص المادة الرابعة من الميثاق على إدانة ورفض التغييرات غير الدستورية للحكومات، ومن ثم لا يُسمح للحكومات التى وصلت للسلطة بطرق غير شرعية بالمشاركة فى أنشطة الاتحاد الأفريقى، وتعليق عضويتها كعقوبة كما تنص المادة 30 من الميثاق[11].
وتجدر الإشارة إلى أن الميثاق الأفريقى ليس فقط الإجراء الوحيد للاتحاد الأفريقى للتصدى للانقلابات العسكرية؛ بل تتعدد التدابير والاجراءات والمواثيق التى تهدف للتصدى للانقلابات كالتالى:
1. الميثاق الأفريقى للديمقراطية والانتخابات والحكم:
يُعالج الميثاق الأفريقى للديمقراطية والانتخابات والحكم قضيتين حيويتين بالنسبة لكافة بلدان أفريقيا؛ وهما قضية التنمية، والحكم الرشيد، باعتبارهما متطلبًا لاغنى عنه لتحقيق التنمية المنشودة لبلدان أفريقيا، وهنا يُمكن القول أن تناول الميثاق للقضيتين يحسم الخلاف حول جدلية التنمية أولًا، أم الديمقراطية أولًا، حيث يعكس الميثاق الإرادة الجماعية_لأفريقيا_للعمل بلا هوادة لتعميق وتعزيز سيادة القانون والسلام والأمن والتنمية فى القارة، عبر توطيد مؤسسات الحكم الرشيدة والوحدة القارية والتضامن، فى ضوء الالتزام بتعزيز القيم والمبادىء العالمية للديمقراطية والحكم الرشيد وحقوق الإنسان والحق فى التنمية كما تتضمنه ديباجة الميثاق. كما يُشير الميثاق أيضًا إلى السعى لترسيخ ثقافة التداول السلمى للسلطة، عبر الانتخابات المنتظمة، والحرة والنزيهة والشفافة التى تُجريها هيئات انتخابية وطنية مختصة ومستقلة ومحايدة، فى ضوء القلق من تنامى التغييرات غير الدستورية للحكومات، والتى تُشكل أحد الأسباب الرئيسية لانعدام الأمن والاستقرار، وتحفيز الصراعات العنيفة فى أفريقيا، والعمل على تحقيق التناغم فى العلاقات المدنية العسكرية[12].
يهدف الميثاق لتحقيق مجموعة من الأهداف، كما ينص الباب الثانى؛ أبرزها حظر ورفض وإدانة التغيير غير الدستورى للحكومة فى أى دولة عضو باعتباره تهديدًا خطيرًا للاستقرار والسلام والأمن والتنمية، وتعزيز عقد انتخابات منتظمة حرة ونزيهة لتأسيس السلطة الشرعية للحكومة التمثيلية فضلًا عن التغيير الديمقراطى للحكومات، بجانب تعزيز احترام حقوق الإنسان، وسيادة القانون، واحترام النظام الدستورى، ولتحقيق ذلك، تنص المادة 14 من الميثاق على الآتى:
- تعمل الدول الأطراف على تعزيز وتأسيس الرقابة المدنية الدستورية على القوات المسلحة وقوات الأمن لضمان ترسيخ الديمقراطية والنظام الدستورى.
- تتخذ الدول الأطراف التدابير التشريعية والتنظيمية لضمان التعامل مع أولئك الذين يحاولون إزاحة حكومة منتخبة بوسائل غير دستورية وفقًا للقانون.
- تتعاون الدول الأطراف مع بعضها البعض لضمان التعامل مع أولئك الذين إزاحة حكومة منتخبة بوسائل غير دستورية وفقًا للقانون[13].
وأخيرًا ينص الباب الثامن للميثاق على العقوبات فى حالات التغييرات غير الدستورية، حيث تنص المادة 23 على أنه” تتفق الدول الأطراف على أن استخدام الوسائل غير القانونية التالية، من بين أمور أخرى، للوصول إلى السلطة أو الاحتفاظ بها يشكل تغييرًا غير دستورى للحكومة ويجب أن يستتبع عقوبات مناسبة من قبل الاتحاد”:
- أى انقلاب أو تمرد ضد حكومة منتخبة ديمقراطيًا.
- أى تدخل من قبل المرتزقة لاستبدال حكومة منتخبة ديمقراطيا.
- أى استبدال لحكومة منتخبة ديمقراطيًا من قبل معارضين أو متمردين مسلحين.
- أى رفض من جانب الحكومة القائمة للتخلى عن السلطة للحزب أو المرشح الفائز بعد انتخابات حرة ونزيهة ومنتظمة.
- أى تعديل أو مراجعة للدستور أو الأدوات القانونية، وهو ما يشكل انتهاكًا لمبادىء التغيير الديمقراطى للحكومة.
وتنص المادة 25، على أنه عندما يُلاحظ مجلس السلم والأمن أنه حدث تغيير غير دستورى للحكومة فى دولة طرف، وأن المبادرات الدبلوماسية فشلت، فإنه يعلق عضوية الدولة الطرف المذكورة فى الاتحاد الأفريقى:
- لا يُسمح لمرتكبى التغييرات غير الدستورى للحكومة بالمشاركة فى الانتخابات التى تُعقد لاستعادة النظام الديمقراطى، أو تولى منصب مسئول فى المؤسسات السياسية.
- يجوز أيضًا محاكمة مرتكبى التغيير غير الدستورى للحكومة أمام المحكمة المختصة فى الاتحاد.
- تفرض الجمعية العمومية للاتحاد الأفريقى عقوبات على أى دولة عضو يثبت أنها حرضت أو دعمت التغيير غير الدستورى للحكومة فى دولة أخرى.
- يجوز للجمعية العمومية أن تقرر تطبيق أشكال أخرى من العقوبات على مرتكبى التغيير غير الدستورى للحكومة بما فى ذلك التدابير الاقتصادية العقابية.
- لايجوز للدول الأطراف إيواء أو توفير ملاذ لمرتكبى التغيير غير الدستورى للحكومة.
- تتولى الدول الأطراف تقديم مرتكبى التغييرات غير الدستورية للحكومة للعدالة، أو تتخذ الاجراءات اللازمة لتنفيذ تسليمهم.
- تشجع الدول الأطراف إبرام اتفاقيات ثنائية لتسليم المجرمين فضلًا عن اعتماد الصكوك القانونية المتعلقة بتسليم المجرمين والمساعدة القانونية المتبادلة.
وفيما يتعلق برفع العقوبات؛ تنص المادة 26 على أنه؛ يرفع مجلس السلم والأمن العقوبات بمجرد حل الوضع الذى أدى إلى التعليق[14].
2. إطار عمل إيزولوينى :
يُعد إطار عمل إيزولوينى_Ezulwini framework_؛ أحد التدابير التى تبناها مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقى التى تم اعتمادها فى عام 2009 فى سبيل تحقيق هذا الهدف، وقد تضمن إطار العمل مجموعة من التوصيات:
- تعزيز فعالية الإطار القانونى فى تنفيذ أدوات الاتحاد الأفريقى ضد التغييرات غير الدستورية للأنظمة السياسية فى أفريقيا.
- بموجب إعلان “لومى”، والنصوص التى تعززه الوارده بالميثاق التأسيسى للاتحاد الأفريقى، وبرتوكول مجلس السلم والأمن، يسعى الاتحاد الأفريقى لوضع إطار مؤسسى لمعالجة التغييرات غير الدستورية للأنظمة السياسة، ومع الاتجاهات والمظاهر الجديدة للتغييرات غير الديموقراطية للحكومات فى أفريقيا؛ أصبح من الضرورى وضع استراتيجيات وتدابير عملية أخرى بهدف تعزيز الترتيبات المؤسسية القائمة لمنع ومكافحة التغييرات غير الدستورية للأنظمة السياسية.
- أكد الإطار على مركزية الميثاق الأفريقى للديمقراطية والانتخابات والحكم فى التصدى لآفة التغييرات غير الدستورية للنظم السياسية، مع ضرورة دخول الميثاق حيز التنفيذ بما يضمن عدم التسامح مطلقًا مع هذه التغييرات، وما يتطلبه ذلك من اتخاذ تدابير عاجلة تتسع لتشمل:
- الانقلابات غير قانونية، وغير مقبولة على الإطلاق.
- ينبغى منح المحكمة الأفريقية للعدل وحقوق الإنسان الاختصاص اللازم لمحاكمة مرتكبى التغييرات غير الدستورية للأنظمة السياسية(تٌعد هذه الرؤية إحدى المقاربات التى يتم تبنيها بشكل كبير فى إطار معالجة الانقلابات، باعتبار أن ضمان قادة الانقلاب إفلاتهم من العقاب إما بالاستمرار فى السلطة، أو عبر الوساطات المختلفة التى يتبناها الاتحاد الأفريقى دائمًا، والتى تضمن عدم محاسبة المتورطين فى الانقلابات، تشجع العسكريون على الإقدام على هذه الخطوة).
- يكون مرتكبو الانقلاب مسؤولين عن الملاحقة القضائية أمام المحكمة الأفريقية للعدل وحقوق الإنسان.
- لا يجوز لمرتكبى الانقلابات الترشح للانتخابات التى تجرى من أجل العودة إلى النظام الدستورى. يتعارض الواقع السياسى للجابون مع هذه التوصية، فى ظل فوز قائد الانقلاب”بريس نغيما”فى الانتخابات الرئاسية التى تلت انتهاء المرحلة الانتقالية.
- لا يجوز لمرتكبى الانقلاب أن يشكلوا عائقًا من خلال التأثير سلبًا على سير عملية الانتقال نحو العودة إلى النظام الدستورى.
- لا يجوز التلاعب بالدساتير بهدف التمسك بالسلطة ضد إرادة الشعب.
- لا يجوز أن تكون عمليات وضع الدستور أو تعديله مدفوعة بمصالح شخصية، وجهود تهدف لتقويض التطلعات الشعبية.
- لا يجوز للقوات العسكرية/الأمنية التدخل فى عملية الانتقال نحو العودة للنظام الدستورى، أيضًا تتعارض تجربة المرحلة الانتقالية فى الجابون مع هذه التوصية؛ بسبب هيمنة المؤسسة العسكرية على المرحلة الانتقالية.
- تعزيز الظروف المواتية للعودة للنظام الدستورى.
- تطبق العقوبات بشكل تدريجى منذ لحظة حدوث تغيير غير دستورى للحكومة[15].
كما تضمن إطار العمل مجموعة من التدابير فى إطار التصميم على تعزيز قدرة أفريقيا على منع ومكافحة التغييرات غير الدستورية، أهمها:
- تقصير فترة تجميد العضوية التى تنص عليها معاهدة لومى من ستة إلى ثلاثة أشهر فقط، لاستعادة منفذى الانقلابات النظام الدستورى.
- مراجعة الإشارة فى إعلان”لومى”إلى نظام يرفض بعناد استعادة النظام الدستورى؛ من أجل جعل كل نظام غير دستورى/سلطة فعلية دون أى تحفظ؛ مسؤولًا بشكل كامل فى إطار أدوات الاتحاد الأفريقى لمكافحة ومنع التغييرات غير الدستورية للنظم السياسية.
- تهيئة الظروف لفرض العقوبات المستهدفة وتنفيذها بالكامل دون أى تخفيف أو تآكل فى كل حالة للتغيير غير الدستورى للحكم.
- إجراء مشاورات سياسية بشأن الانتقال نحو العودة إلى النظام الدستورى بطريقة بناءة وغير تنافسية_دون أن تؤدى إلى صراعات أو تنافس حاد_أو بطريقة لا تعرض آلية العقوبات المستهدفة للخطر.
- تسريع التصديق من قبل الدول الأعضاء على الميثاق الأفريقى للديمقراطية والانتخابات والحكم كأداة تدعم بشكل أكبر الجهود الأفريقية الدؤوبة ضد الانقلابات.
- السعى للحصول على دعم وتعاون البرلمانات الوطنية من خلال البرلمان الأفريقى فى عملية تنفيذ العقوبات، وخاصة من خلال اعتماد التشريعات الوطنية التمكينية.
- تعزيز التنسيق والتعاون بين أجهزة الاتحاد الأفريقى، والتكتلات الاقتصادية الإقليمية فى تنفيذ العقوبات المستهدفة[16].
3. إعلان لومى:
نصت وثيقة إعلان”لومى”على الممارسات التى تُعد انقلابات عسكرية، تستوجب عقوبة من الاتحاد الأفريقى كما يلى:
- أى استيلاء من خلال المرتزقة أو الفصائل المسلحة على الحكم.
- أى استيلاء على السلطة عبر تمردات مسلحة.
- رفض الحكومة القائمة للانتقال السلمى للسلطة.
- أى تعديل أو مراجعة للدستور أو الأدوات القانونية، والتى تُشكل انتهاكًا لمبادىء التغيير الديمقراطى للحكومة[17].
ومن ثم تبنى الاتحاد الأفريقى عقوبات على هذه الممارسات شملت؛ تعليق أنشطة الدولة فى الاتحاد الأفريقى، وفرض عقوبات اقتصادية عليها، بالاضافة لمنع قادة الانقلابات من الترشح فى الانتخابات التى تهدف لاستعادة الحكم المدنى، أو تولى أى مناصب سياسية، لكن لجنة السلم والأمن الموكول لها متابعة الانقلابات العسكرية، والتدخل لمعالجتها، أو فرض عقوبات عليها، وجهت لها انتقادات مؤخرًا بسبب موقفها تجاه الانقلاب الأخير فى تشاد، بسبب تأييدها للفترة الانتقالية للمجلس العسكرى الانتقالى/TMC التى تمتد لثمانى عشر شهرًا بسبب ظروف البلاد الأمنية، ومن ثم عدم فرض عقوبات على تشاد، بما فى ذلك أنشطتها داخل الاتحاد الأفريقى[18].
لذلك كانت استجابة الاتحاد الأفريقى سريعة_اليوم التالى للانقلاب_، حيث أدان مجلس السلم والأمن بشدة الانقلاب العسكرى فى الجابون، وقرر تعليق مشاركة جمهورية الجابون فورًا فى جميع أنشطة الاتحاد الأفريقى وأجهزته ومؤسساته حتى استعادة النظام الدستورى فى البلاد، تماشيًا مع صكوك الاتحاد الأفريقى ذات الصلة، كما طالب مجلس السلم والأمن باستعادة النظام الدستورى فورًا من خلال إجراء انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية وشفافة، تراقبها بعثة مراقبى الانتخابات التابعة للاتحاد الأفريقى، والمنطقة المعنية”فى إشارة للمنظمة الإقليمية الفرعية؛ المجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا”، كما طالب المجلس الجيش بضرورة العودة لثكناته فورًا، وإعادة السلطة المدنية دون قيد أو شرط_وهذا ما لم يتم الاستجابة له_والامتناع عن التدخل فى العملية السياسية_وهذا لم يتم أيضًا_وإلا فسيتخذ المجلس التدابير العقابية اللازمة بما فيها، بما فىذلك فرض عقوبات محددة ضد منفذى الانقلاب[19].
بالإضافة لذلك؛ طالب مجلس السلم والأمن الجيش بضرورة الإفراج عن الرئيس”على بونغو” وأفراد أسرته، وأعضاء حكومته، وضمان حقوقهم الأساسية، وسلامتهم الشخصية، وأدان المجلس أى اعتقالات بدوافع سياسية تتم فى هذه الظروف، مؤكدًا تضامن الاتحاد الأفريقى مع الشعب الجابونى فى تطلعاته نحو ترسيخ الديمقراطية والحكم الرشيد. وأخيرًا أعلن المجلس رفضه بشده أى تدخلات خارجية من أى جهة أو دولة من خارج القارة فى مسائل السلام والأمن فى أفريقيا، بما فى ذلك وجود الشركات العسكرية الخاصة فى القارة بما يتماشى مع اتفاقية منظمة الوحدة الأفريقية لعام 1977 للقضاء على المرتزقة فى أفريقيا[20].
رابعًا: تقييم المرحلة الانتقالية فى الجابون:
وعد”نغيما”بإعادة البلاد لحكم مدنى بعد انتهاء الفترة الانتقالية غير المحددة زمنيًا، وقد شكل”نغيما”حكومة انتقالية مكونة من معارضين سابقين لنظام على بونغو، ووزراء سابقين، كما عين أربعة نواب من المعارضين، والمؤيدين لبونغو أيضًا، ومن الجيش.
وبالرغم من أن الميثاق الانتقالى يحظر على أعضاء الحكومة الانتقالية، ومجلس النواب، والشيوخ الانتقاليين؛ الترشح فى الانتخابات الرئاسية التى تلى انتهاء المرحلة الانتقالية، إلا أن الرئيس الانتقالى يُستثنى من ذلك، وهو ما يُعد تمهيدًا للمستقبل السياسى للجنرال”نغيما”.
واتسمت تعيينات”نغيما”لأعضاء الحكومة، والمؤسسات الانتقالية؛ بالانفتاح على المعارضة، حيث قام بتعيين معارضين بارزين فى منصب نواب الرئيس الانتقالى، ورئاسة مجلس النواب، والشيوخ، كما قام بتعيين شخصيات بارزة من المجتمع المدنى؛ أبرزهم الناشط الحقوقى”مارك أونا إسانغى” كنائب لرئيس مجلس الشيوخ، وليس ذلك فقط، بل قام بتعيين شخصيات من الحزب الديمقراطى الجابونى الحاكم_The Gabonese Democratic Party (PDG) _ مثل “جان فرانسوا ندونغو”وزير الداخلية السابق، كرئيس للجمعية الوطنية الانتقالية، وحظى انفتاح”نغيما”على مكونات المجتمع، وعدم استثناء أحد بتفاؤل وترحيب شديد من المجتمع، إلا أن الرأى العام تحفظ آنذاك على التساهل مع عائلة “بونغو”، وشخصيات بارزة متهمة بالفساد[21].
وهنا يُثار تساؤل هام؛ ما مدى اتساق المرحلة الانتقالية فى الجابون مع ميثاق الاتحاد الأفريقى، والمواثيق الأخرى ذات الصلة بالانقلابات العسكرية؟
بداية بعد الانقلاب العسكرى، قام الجنرال”نغيما”بأداء اليمين الدستورية كرئيس انتقالى مؤقت، وقام بتعيين حكومة ومؤسسات انتقالية من كافة مكونات المجتمع_معارضين سابقين، ناشطين مجتمع مدنى، وحتى مؤيدين للنظام السابق من الحزب الديمقراطى، وضباط جيش أيضًا_، لكن هذا يعنى هيمنة المؤسسة العسكرية على المرحلة الانتقالية فى الجابون، فى تعارض واضح مع ميثاق الاتحاد الأفريقى، والميثاق الأفريقى للانتخابات والديمقراطية والحكم، واتفاقية لومى، وحتى قرارات مجلس السلم والأمن التابعة للاتحاد الأفريقى المتعلقة بالجابون، والتى تنص جميعًا على ضرورة انسحاب الجيش لثكناته، وعدم مشاركة قادة الانقلاب فى المرحلة الانتقالية، أو التأثير عليها .
ومن جانب آخر ينُص ميثاق الاتحاد الأفريقى، والمواثيق السابق الإشارة إليها؛ على منع أعضاء الحكومة والمؤسسات الانتقالية من الترشح فى الانتخابات التى تلى انتهاء المرحلة الانتقالية، وبالنظر لحالة الجابون؛ يُمكن القول بأن استجابة المؤسسة العسكرية كانت جزئية؛ فقد تم بالفعل حظر ترشح أعضاء الحكومة والمؤسسات الانتقالية فى الانتخابات الرئاسية التى تلى المرحلة الانتقالية كما نص الميثاق الانتقالى، لكنه فى نفس الوقت استثنى الرئيس الانتقالى فى تعارض واضح مع المواثيق الأفريقية الحاكمة، على العكس مثلًا من المواثيق الانتقالية فى انقلابى مالى، وبوركينا فاسو التى تضمنت صراحة منع ترشح كافة أعضاء الحكومة والمؤسسات الانتقالية من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التى تلى انتهاء المرحلة الانتقالية.
كما اتسم الميثاق الانتقالى بعدم وجود فترة زمنية محددة لانتهاء المرحلة الانتقالية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، فالميثاق نص على تصور استرشادى غير ملزم سواء فيما يتعلق بالحوار الوطنى، أو الانتخابات الرئاسية، أو حتى كتابة دستور جديد، حيث أكد الميثاق على أن كافة المراحل الزمنية قابلة للتغيير.
هذه التناقضات قادت لفوز الرئيس”بريس أوليغى نغيما”بالانتخابات الرئاسية التى أُجريت فى أبريل 2025، وبنسبة تقارب 95% من الأصوات، وبفارق كبير عن أقرب منافسيه؛ رئيس الوزراء السابق فى عهد”على بونغو” المرشح”آلان كلود بيلى بى-نزى”، وبالرغم من أن الانتخابات جرت فى أجواء احتفالية، وبتغطية كاملة ولأول مرة لوسائل الإعلام، التى حضرت عملية فرز الأصوات، وبدون قمع من قوات الشرطة، أو تعطيل شبكات التليفون، ووسائل التواصل الاجتماعى، وبالرغم من اعتراف”آلان كلود”بهزيمته فى الانتخابات؛ إلا أن هناك مزاعم يإساءة استخدام موارد الدولة لصالح”نغيما”، بجانب مزاعم أخرى متعلقة بتزوير الانتخابات، وعدم نزاهتها، لكن بشكل عام بلغن نسبت الإقبال على الانتخابات 70.11%، مما اعتبره البعض دليلًا على نجاح “نغيما”فى توحيد الناخبين، وخصوصًا الشباب، كما اعتبروا خسارة”آلان كلودى”أمرًا طبيعيًا؛ لكونه رئيسًا للوزراء فى الحقبة البائدة منذ 2009 وحتى 2023[22].
مما سبق يُمكن القول بأن المرحلة الانتقالية الجابونية اتسمت بالعديد من الخروقات الخطيرة للمواثيق الأفريقية الرئيسية، التى سبق وأن وقعتها الجابون: أى أن هذه المواثيق ملزمة لها، فلم تلتزم المؤسسة العسكرية الجابونية بهذه المواثيق سوى فى الجوانب التى لا تؤثر على إعادة إنتاج نظام عسكرى حاكم، فلا يمكن القول بأن الانقلاب الجابونى كان انقلابًا من أجل الديمقراطية؛ فهو مجرد إعادة انتاج للنظام القديم، مما يعنى أن هذا الانقلاب يمكن وصفة بانقلاب نهاية اللعبة(End Game coup)؛ والذى يتسم بتحالفات مؤقتة بين المعارضة السياسية، والمؤسسة العسكرية فى ظل حالة الانغلاق السياسى، والتكلفة الكبيرة للانقلاب على نظم عتيقة وراسخة بجذورها فى الحكم، هذه التحالفات مؤقتة؛ لأن المؤسسة العسكرية تتوافق فقط مع الحراك الشعبى أو المعارضة فى جزئية التخلص من النظام الحاكم، لكنها فى نفس الوقت لا ترغب فى وصول نظم مدنية للحكم؛ باعتبار أن ذلك تهديدًا لامتيازاتها.
لهذا فإن الانتقادات التى توجه للاتحاد الأفريقى، ومجلس الأمن والسلم التابع له، وأجهزة الانذار المبكر القارية، والتى ترى ضعف السياسات التى تتبناها المنظمة، وعدم فعاليتها فيما يتعلق بالتصدى للانقلابات العسكرية، بل واعتبارها تشجع بالأساس العسكريين الطموحين للحكم، للقيام بانقلابات عسكرية؛ يُمكن القول، بأنه وفقًا للحالة الجابونية صحيحة إلى حد كبير، خصوصًا فى ظل قرار مجلس السلم والأمن الأخير فيما يتعلق بنجاح المرحلة الانتقالية فى الجابون، ورفع العقوبات عنها، بعد الانتخابات الأخيرة التى حسمها قائد الانقلاب.
المصادر والمراجع:
[1] باه، هارون(2023)، سلطات الرئيس فى الدساتير الإفريقية:دراسة تحليلية، مجلة قراءات سياسية، ع56، ص.ص48-63.
[2] Awasom, Nicodemus Fru, and Hlengiwe Portia Dlamini ,Editors (2024), The Making, Unmaking and Remaking of Africa’s Independence and Post-Independence, Springer, Switzerland.
[3] Awasom, Nicodemus Fru, and Hlengiwe Portia Dlamini ,Editors (2024), The Making, Unmaking and Remaking of Africa’s Independence and Post-Independence, Springer, Switzerland.
[4] Gabon’s military regime announces August 2025 elections(2023), LE Monde, Gabon’s military regime announces August 2025 elections Date8-5-2025 Time 1:20 AM
[5] Anon. (2021), Chad President’s Death: Rivals condemn ‘Dynastic Coup’, Chad president’s death: Rivals condemn ‘dynastic coup’ Time 5:04PM Date 26-12-2024.
[6] Gabon’s military regime announces August 2025 elections(2023), LE Monde, Gabon’s military regime announces August 2025 elections Date8-5-2025 Time 1:20 AM
[7] Mangala, Jack R. (2020), the politics of challenging presidential term limits in Africa, Palgrave Macmillan, USA.
[8] Mangala, Jack R. (2020), the politics of challenging presidential term limits in Africa, Palgrave Macmillan, USA, pp.80-81.
[9] Mangala, Jack R. (2020), the politics of challenging presidential term limits in Africa, Palgrave Macmillan, USA, pp.95.
[10] https://freedomhouse.org/countries/freedom-world/scores
[11] AU Charter, Ethiopia, 2000, ART4, P.10.
[12] AFRICAN CHARTER ON DEMOCRACY, ELECTIONS AND GOVERNANCE, Ethiopia, 2007, pp.1-2
[13] AFRICAN CHARTER ON DEMOCRACY, ELECTIONS AND GOVERNANCE, Ethiopia, 2007, ART 14, p.6.
[14] AFRICAN CHARTER ON DEMOCRACY, ELECTIONS AND GOVERNANCE, Ethiopia, 2007, ART 23, 25, 26, pp.10-11
[15] Peace and Security Council, AU, Ezulwini framework for the enhancement of the implementation of measures if the African union in situation of unconstitutional changes of government in Africa, Addis Ababa, 2009, pp.1-2
[16] Peace and Security Council, AU, Ezulwini framework for the enhancement of the implementation of measures if the African union in situation of unconstitutional changes of government in Africa, Addis Ababa, 2009, pp.3-4
[17] Akinola, Adeoye O., and Emmaculate Asige Liaga (2024), Development and Regional Stability in Africa: Unlocking potential, Palgrave Macmillan, Switzerland, p.155
[18] Akinola, Adeoye O., and Emmaculate Asige Liaga (2024), Development and Regional Stability in Africa: Unlocking potential, Palgrave Macmillan, Switzerland, p.156
[19] African Union, Peace and Security Council, meeting held on 31 August 2023, on the situation in the Republic of Gabon, Addis Ababa, 2023, p.1
[20] African Union, Peace and Security Council, meeting held on 31 August 2023, on the situation in the Republic of Gabon, Addis Ababa, 2023, p.2
[21] Châtelot, Christophe(2023), After the coup in Gabon, the transition of power is in search of balance, LE Monde, After the coup in Gabon, the transition of power is in search of balance Date 7-5-2025 Time 3:59 AM
[22] الاتحاد الأفريقى يرفع تعليق عضوية الجابون ويعتبر المرحلة الانتقالية”ناجحة”، مجلة قراءات أفريقية، الاتحاد الإفريقي يرفع تعليق عضوية الغابون ويعتبر المرحلة الانتقالية “ناجحة” — قراءات إفريقية تاريخ الزيارة 7-5-2025 الساعة 2:51 ص.