تحليلات

عودة نشاط تنظيم الدولة في شمال موزمبيق:

الدوافع الاستراتيجية والتداعيات الأمنية والإنسانية

مقدمة

لا تُشير الهجمات الأخيرة لتنظيم ولاية وسط إفريقيا في شمال الموزمبيق وتحديدا بمنطقة كابو ديلجادو ونياسا على الحدود مع تنزانيا منذ أواخر يوليو 2025 إلى تكرار الهجمات فحسب، بل تُمثل أيضًا تحولًا في الاستراتيجية العملياتية للتنظيم، والبيئة الأمنية، والتوازن الإقليمي. تدرس هذه النظرة التحليلية تصاعد نشاط تنظيم الدولة ولاية موزمبيق في شمالي البلاد، مستكشفةً الدوافع الهيكلية، والمحفزات المباشرة، والعواقب المتوقعة على الأمن والحوكمة والاستقرار الإقليمي.

السياق العملياتي

تقود حركة تمرد شمال موزمبيق (تحديدا كابو ديلجادو معقل الرئيسي ومنشأ التنظيم)، النشطة منذ عام 2017، جماعة أهل السنة والجماعة (ASWJ) أو أنصار الشريعة، التي اندمجت لاحقا في هيكل ولاية وسط أفريقيا ISCAP التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية تحت مسمى ولاية موزمبيق ISMP. وقد اتسم مسار هذه الجماعة بالتقلبات الدورية – مراحل من المكاسب الإقليمية، والرد العسكري، والانسحاب التكتيكي. وبين عامي 2021 و2023، عطّلت عمليات الانتشار المشتركة لقوات رواندا وتنزانيا والجماعة الإقليمية لتنمية جنوب أفريقيا (SADC) التابعة لقوة ساميم (SAMIM) سيطرة التنظيم المسلح على مناطق استراتيجية مثل موكيمبوا دا برايا. إلا أن هذا النجاح كان جزئيًا فقط.

وبحلول منتصف عام 2024، خلق انسحاب قوة ساميم فجوة أمنية ملحوظة. وبينما حافظت القوات الرواندية والتنزانية على وجودها، كان نطاق تغطيتها الجغرافية وقدرتها اللوجستية محدودين، لا سيما في المناطق الوعرة مثل ماكوميا وممرات الغابات الكثيفة (وهذا تحديدا هو المكان الذي عاد فيه التنظيم للظهور بقوة في عام 2025).

انتكاسات الجماعة في الموزمبيق وصعودها في الكونغو، دفع بالعديد من المتابعين والمختصين في الشأن الأمني والجماعات المسلحة بالذهاب إلى أن التنظيم شمال موزمبيق لم تعد له أية أهمية وأنه وجب تركيز الجهود أكثر على الفرع الرئيسي المتواجد في جمهورية الكونغو الديمقراطية.

طبيعة الظهور: بين 20 يوليو وأوائل أغسطس 2025، نفّذ التنظيم غارات على عدة مقاطعات شمال موزمبيق – مويدومبي، وأنكوبي، وكيوري، وبالما، وميلوكو، وكويسانغا، ونانغادي، وبالاما – مما أدى إلى نزوح ما يقرب من 57,000 شخص في أقل من أسبوعين. وإن تم وصف هذا التصعيد بالاعتباطي والانتهازي للفراغ الأمني الحاصل، لكنه في الحقيقة كان حملة منسقة تستهدف المراكز السكانية والنقاط الأمنية.
كما أن التنظيم لم يكتفي بالعمل العسكري فقط، وأصدر في 11 أغسطس شريط دعائي لعملياته تحت عنوان “نور الجهاد”، سرد التنظيم في المقطه تاريخه من النشأة ومراحل التي مربها، كما صور فيه هجماته الأخيرة على منتجع سياحي بمنطقة نياسا ومعسكرات للجيش الموزمبيقي وتجمع لمقاتليه يعلنون فيه عن تجديد البيعة لزعيم التنظيم المركزي أبي حفص الهاشمي القرشي، وهو ما أراد به تنظيم إيصال العديد من الرسائل داخليا وخارجيا بصفة أخص.

الملامح الرئيسية:

التنوع الجغرافي: توسع الهجمات في مناطق لم تشهد تاريخيا هجمات كبرى (مثل كيوري) وهو توسيع لنطاق الصراع.

العنف الرمزي: قطع رؤوس أعضاء الميليشيات، وحرق الكنائس، وتدمير منازل قادة الميليشيات، توظيف العنف المادي لخدمة عنف رمزي لإبراز قوة التنظيم وقذف الرعب أكثر.

المداهمات اللوجستية: تؤكد عمليات نهب المواد الغذائية في ناكوتا (ميتوغ) والاختطاف لأجل الفدية وحمل البضائع المسروقة إلى عمليات موجهة نحو الإمدادات.

استغلال إعلامي: لم تمر أيام قليلة عن هذه العمليات حتى أصدر التنظيم شريط دعائي لعملياته، وتهدف هنا بروبغندا التنظيم الدعائية السريعة إلى إعادة تصوير كابو ديلجادو ونياسا كجبهة نشطة ضمن مسرح العمليات الجهادية العالمية.

دوافع العودة

الفراغ الأمني بعد انسحاب قوات ساميم

أدى رحيل قوات ساميم في يوليو 2024 إلى إزالة طبقة استقرار من الأمن الإقليمي. فقد أجبر وجود قوات ساميم عناصر التنظيم على الانسحاب إلى مناطق نائية والغابات الكثيفة؛ ومما مكّنها من التنقل بين المقاطعات بسهولة. وعلى الرغم من أن قوة رواندا لا تزال قوية نسبيا، إلا أن مناطق تركيزها لا تغطي كامل ممرات المقاتلين، مما يترك فجوات قابلة للاستغلال. كما أن القراءات الخاطئة والتحليلات التي أنقصت من أهمية فرع الموزمبيق وأكدت على انتكاسته ووجوب تركيو الجهود الإقليمية على الفرع الرئيسي الذي اعتبرته الأكثر خطورة نظرا لتصاعد نشاطاته في الآونة الأخيرة وباعتباره الفرع الأم وهو فرع كونغو الديمقراطية.

تكيف المتمردين

أظهر تنظيم ولاية موزمبيق قدرة على إعادة الهيكلة – بالانقسام إلى وحدات أصغر وأكثر قدرة على الحركة، بارعة في التنقل عبر الغابات. تُعقّد هذه اللامركزية عملية التتبع وتسمح بشن هجمات متزامنة متعددة النقاط، مما يُرهق قوات الأمن. وتشير عمليات الاستيلاء الأخيرة على أسلحة مثل بنادق جليل ACE-32 التي ظهرت لدى مقاتلي التنظيم في معاركه الأخيرة والتي يُحتمل أنها صودرت من وحدات رواندية – إلى انتهازية ميدانية وزيادة في فتك التنظيم.

 استمرارية المظالم الاجتماعية والاقتصادية

لا تزال عوامل التهميش وغياب العدالة الاجتماعية مغذية للتجنيد، فالتهميش الاقتصادي، وسلب الأراضي، وغياب خدمات الدولة ومؤسساتها في شمال موزمبيق. ولا يزال مشروع الغاز الطبيعي المسال وصناعات استخراج الموارد تُمثّلان استخراج الثروة دون تحقيق منفعة أو تنمية محلية، عوامل توفر للتنظيم خطابًا دعائيًا قويًا وجاذب للعديدين.

 التوقيت الاستراتيجي

تزامنت هذه الهجمات مع الإعلانات التي تُشير إلى إمكانية إعادة تشغيل مشروع الغاز الطبيعي المسال التابع لشركة توتال إنرجيز بحلول أواخر سبتمبر ٢٠٢٥. ولدى التنظيم حافز استراتيجي واضح للإشارة إلى انعدام الأمن للمستثمرين الأجانب، وتقويض مصداقية الدولة، وهو تكرار التأثير لهجوم بالما الكبير عام ٢٠٢١.

الأبعاد الإنسانية والاجتماعية

التأثير الإنساني شديد ومتعدد الجوانب:

التركيبة السكانية للنزوح: حوالي ٦٠٪ من النازحين الجدد هم من الأطفال (حوالي ٣٣ ألف فرد)، مع الإبلاغ عن فصل العشرات عن عائلاتهم.

اختطاف الأطفال: تشير روايات من رجال دين مسيحيين عمليات الاختطاف لأغراض القتال أو التجنيد القسري.

الصدمة والنزوح المتكرر: تشردت العديد من العائلات عدة مرات، مما أدى إلى تآكل قدرتها على الصمود وتعميق حلقات الفقر.

المخاطر الصحية: تُعدّ المخيمات المكتظة في كيوري (مثل مدرستي ناميسير وميكوني) بؤر لانتشار الكوليرا وغيرها من الأوبئة. كما انتقدت الكنيسة الكاثوليكية، من خلال شخصيات مثل الأب كويريوي فونسيكا، الإهمال الدولي والإقليمي ودعت إلى مشاركة إنسانية مستدامة.

الاستجابة العسكرية ونقاط الضعف الهيكلية

أقرّ وزير دفاع موزمبيق بتوسع المتمردين في مناطق كانت آمنة سابقًا. وتعتمد الاستجابة العسكرية الرسمية على:

قوات الرد السريع: وحدات موزمبيقية-رواندية مشتركة معدة للانتشار السريع في المناطق الساخنة.

الدعم التنزاني: التنسيق عبر الحدود في الشمال.

الميليشيات المحلية: تشكيلات “ناباراماس”، على الرغم من استهدافها المتزايد من قبل مقاتلي التنظيم.

ومع ذلك، تواجه هذه المقاربة الأمنية قيودًا:

التوسع المفرط: تعدد الجبهات النشطة يضعف تركيز القوات.

ميزة التضاريس: يستغل المسلحون الغطاء الغابي والمعرفة المحلية للمنطقة.

مشكلة التصورات: ينتقد المجتمع المدني غموض القرارات مثل توجيه تمويل الاتحاد الأوروبي إلى القوات الرواندية بدلاً من الجيش الوطني الموزمبيقي، مما يعزز الشكوك حول الأولويات الاستراتيجية.

العواقب والمخاطر

إطالة أمد الصراع

إن عودة التمرد تُبطل الادعاءات السابقة بأمن شبه كامل. ويرتفع خطر اندلاع حرب عصابات طويلة الأمد ومنخفضة الشدة، خاصةً إذا حافظ المتمردون على قدرتهم على التنقل وقنوات الدعم الخارجية.

التداعيات الأمنية الإقليمية

شهد جنوب تنزانيا بالفعل حوادث امتداد؛ وقد يتطور تمرد كابو ديلجادو ونياسا تنشيطه بالكامل إلى بيئة تمردية عابرة للحدود.

 الاضطراب الاقتصادي

سيتعرض الجدول الزمني لبعث مشروع الغاز الطبيعي المسال للخطر. وستتآكل ثقة المستثمرين مع كل حادث أمني، وقد تتأخر عائدات الغاز المتوقعة لاقتصاد موزمبيق إلى أجل غير مسمى. كما يتعطل الإنتاج الزراعي المحلي بشدة. وهذه الرسالة التي هدف التنظيم بإيصالها للجهات الخارجية عبر عماليته والفيديوهات الدعائية.

مصداقية الحوكمة

إن استمرار العنف رغم الوجود العسكري الأجنبي الكثيف، سيقوض ثقة الأطراف الخارجية والمحلية في القدرة الأمنية للحكومة. وحاليا يتفاقم هذا الوضع بسبب تصور السرية والتبعية الخارجية في الاستراتيجية العسكرية.

التقييم الاستراتيجي

من منظور تحليلي، يعتبر انتعاش التنظيم إعادة تموضع استراتيجي أكثر منه عودة. ويمر التنظيم الآن بمرحلة اضطراب، حيث يعطي الأولوية لما يلي:

  • إثبات استمرارية القدرات العملياتية.
  • تقويض سرديات الاستقرار والسيطرة الأمنية التي تقودها الدولة.
  • الحفاظ على قاعدة تجنيد من خلال الدعاية المرتبطة بالمظالم المحلية كالتهميش والإقصاء.
  • استغلال العنف للتأثير على الجداول الزمنية الاقتصادية ذات المخاطر العالية.

التداعيات السياسية والاستراتيجية

بالنسبة لموزمبيق:

نهج أمني تنموي متكامل: الاعتماد الكامل على القمع العسكري والمقاربة الأمنية أمر غير مستدام وأثبت عدم نجاعته. اذ تعد إصلاحات الحوكمة، والإدارة العادلة للموارد، وتقديم الخدمات بشكل واضح في الولايات الشمالية أمورًا ضرورية لتقويض جاذبية التنظيم.

الشفافية: إن توضيح ترتيبات الدعم الأجنبي قد يُفنّد روايات عدم الشرعية أو السيطرة الاستعمارية الجديدة.

الشركاء الإقليميين والدوليين:

الالتزام المستدام: تُنذر عمليات النشر قصيرة الأجل بخلق دورات اعتماد دون معالجة نقاط الضعف الهيكلية.

التدريب واللوجستيات: التركيز على تعزيز القدرة العملياتية المستقلة للقوات الموزمبيقية.

الربط الإنساني: ينبغي أن يُصاحب الاستقرار العسكري مساعدات إنسانية ومساعدات إعادة إعمار واسعة النطاق لمنع أزمات النزوح الدورية.

الخلاصة

يعكس التصعيد في منتصف عام 2025 في كابو ديلجادو ونياسا تمردًا تكيف مع النكسات، واستغل الفرص الاستراتيجية، ولا يزال غارقًا في خطوط صدع اجتماعية وسياسية لم تُحل. إن الجمع بين الفراغ الأمني بعد عملية ساميم، والعمليات التخريبية المُستهدفة، واستغلال الرمزية الاقتصادية، يُبرز المرونة الاستراتيجية للتمرد.

بالنسبة لموزمبيق وشركائها، لا يكمن التحدي في المقاربة الأمنية والعسكرية فحسب، بل في تغيير البيئة الهيكلية التي تسمح بتجدد التمرد. فبدون تقدم موازٍ في الإصلاح الأمني، والإدماج الاقتصادي، وبناء الثقة المجتمعية، من المرجح أن يظل شمال الموزمبيق بؤرة توتر، قد يمتد تأثير عدم استقرارها إلى ما وراء حدود موزمبيق.

إيهاب العاشق

باحث مختص في العلوم السياسية والعلاقات الدولية والدراسات الأمنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى