حدث وتعليق

قمة العشرين في جنوب إفريقيا: اختبارٌ لمكانة القارّة وفرصها في عالم متعدد الأقطاب

في سابقة هي الأولى من نوعها منذ تأسيس مجموعة العشرين، احتضنت مدينة جوهانسبيرغ في جنوب إفريقيا قمة المجموعة في نوفمبر (2025م)، لتتحول القارّة الإفريقية – وللمرة الأولى – من متلقٍّ لقرارات المجموعة إلى منصّةٍ لصياغة النقاشات الكبرى حول الاقتصاد العالمي، وإصلاح المنظومة المالية، والانتقال الطاقي.

وقد صاحب انعقاد القمة زخمٌ دبلوماسي كبير؛ لكنّه لم يخلُ من الجدل؛ إذْ غابت الولايات المتحدة عن الاجتماع بعد إعلان الرئيس دونالد ترامب مقاطعة الحدث، في خطوةٍ أربكت حسابات القوى الكبرى وأعادت طرح أسئلة جوهرية حول توازنات النفوذ داخل هذا التجمع الدولي.

ولم يكن الجدل محصورًا في غياب واشنطن فحسب؛ بل شمل أيضاً بنية الخلافات داخل المجموعة بين القوى الصناعية التقليدية من ناحية، وصوت الجنوب العالمي الصاعد من ناحية أخرى، وهو صوت أرادت جنوب أفريقيا – بصفتها الدولة المضيفة – أن ترفعه إلى صدارة الأجندة عبر التركيز على ملفات الديون، العدالة الطاقية، وإصلاح النظام المالي الدولي.

وقد اختارت بريتوريا اعتماد “إعلان القادة” في اليوم الافتتاحي، في خطوة وُصفتْ بأنها محاولة لتثبيت الحد الأدنى من التوافق قبل أن تطغى الانقسامات على أعمال القمة.

وتأتي هذه التطورات في سياق عالمي شديد السيولة؛ عالم تتراجع فيه المركزية الغربية أمام صعود تكتلات جديدة، وتتسع فيه الفجوة بين الاقتصادات الكبرى والدول النامية التي تطالب بتمثيل أكثر عدالة.

ومن هنا، تبرز قمة العشرين في إفريقيا بوصفها اختبارًا عمليًا لمكانة القارة في عالمٍ يتجه نحو التعددية القطبية، وفرصة لإثبات قدرتها على التأثير في هندسة السياسات الاقتصادية الدولية، أو – في المقابل – انكشاف حدود تأثيرها في ظل توازناتٍ لا تزال تُدار من خارجها.

وفي هذا السياق، يقدّم فريق أفروبوليسي تعليقات سريعة حول دلالات القمة وما حملته من إشارات سياسية واقتصادية للقارّة، عبر تناول أربع نقاط أساسية، وهي:

1- قيادة جنوب إفريقيا للقمة وحدود تأثيرها.

أظهرت استضافة جنوب أفريقيا لقمة العشرين قدرة ملحوظة على إدارة حدث دولي معقّد، مع تقديم القارّة في صورة طرف يسعى إلى توسيع مشاركته في الحوكمة الاقتصادية العالمية. وقد جاء تركيز بريتوريا على ملفات مثل إصلاح نظام الديون والانتقال الطاقي منسجمًا مع أولوياتها الداخلية وطموحها لتعزيز موقعها ضمن دول الجنوب العالمي.

وفي الوقت نفسه، حرصت القيادة الجنوب أفريقية على الحفاظ على توازن دبلوماسي بين القوى الكبرى المشاركة، في محاولة لضمان نجاح القمة بعيدًا عن التوترات الجيوسياسية المتصاعدة.

هذا الطموح اصطدم بتحديات موضوعية، أبرزها محدودية التوافق الإفريقي حول أولويات الإصلاح الاقتصادي، وغياب موقف موحد من ملفات التمويل الدولي. ورغم ذلك، وفّرت القمة فرصة لجنوب أفريقيا لإبراز خبرتها الدبلوماسية، خاصة بعد حصول الاتحاد الإفريقي على مقعد دائم في المجموعة، وهو تطور يسهم في تحسين مستوى تمثيل القارّة في النقاشات الاقتصادية العالمية.

ومع أن القمة لم تُحدِث تحولًا نوعيًا في بنية النظام المالي الدولي، إلا أنها عزّزت حضور إفريقيا في واجهة نقاشات الاقتصاد العالمي، وقدّمت نموذجًا لإدارة حدث متعدد الأطراف من داخل القارّة، في سياق دولي يتسم بتزايد أهمية الشراكات غير التقليدية.

2-المقاطعة الأمريكية وتداعياتها السياسية

سلّط غياب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن القمة الضوء على تباينات متصاعدة في مواقف القوى الكبرى تجاه التعاون المتعدد الأطراف. وبرّرت الإدارة الأمريكية القرار بالاعتراض على مسار الأجندة، لكنّ التوقيت والسياق يشيران إلى توجّه أوسع نحو تقليص الحضور الأمريكي في المنتديات الدولية، خاصة تلك التي تشهد صعودًا لدول الجنوب العالمي.

هذا الغياب أوجد فراغًا نسبيًا في النقاشات الاقتصادية، سمح لدول مثل الصين والهند والبرازيل بتعزيز حضورها داخل مسار القمة، في ظل اهتمامها بمسائل التمويل والتنمية وإصلاح المؤسسات الاقتصادية الدولية. وقد تعاملت جنوب أفريقيا مع هذا التحول بحذر، بينما سعى الشركاء الأوروبيون إلى منع انزلاق القمة نحو اصطفافات سياسية حادّة.

ومع أن واشنطن لم تقطع مشاركتها المؤسسية في المجموعة، إلا أن غياب الرئيس أثار تساؤلات حول مستقبل دور الولايات المتحدة داخل مجموعة العشرين (G20)، ومدى قدرتها على قيادة ملفات الاقتصاد العالمي في ظل الواقع الدولي الحالي. وبذلك شكّلت المقاطعة جزءًا من مشهد أوسع يعكس تراجعًا نسبيًا في مركزية الدور الأمريكي داخل المؤسسات متعددة الأطراف.

3- أجندة القمة ووزن الجنوب العالمي

حملت أجندة القمة هذا العام تركيزًا واضحًا على التحديات المرتبطة بالديون، وتمويل التنمية، وقضايا التحول الطاقي، وهي ملفات تكتسب أهمية خاصة لدى الدول الإفريقية والنامية.

وقد شهدت النقاشات مطالبات بإعادة النظر في شروط الإقراض الدولي، وتحسين آليات تمويل مشروعات البنية التحتية والطاقة المتجددة، وتخفيف الأعباء المرتبطة بالتمويل المناخي.

وللمرة الأولى، حظيت قضية “الانتقال الطاقي العادل” بمساحة بارزة في قمة العشرين، مع تأكيد دول الجنوب العالمي على الحاجة إلى نماذج تمويل مرنة تتناسب مع قدراتها الاقتصادية. ورغم اختلاف أولويات الدول الكبرى حول آليات التنفيذ، فإن مجمل النقاشات أظهر إدراكًا متزايدًا لأهمية معالجة الفجوة بين الاقتصادات المتقدمة والنامية في مسارات التحول الأخضر.

كما أعادت القمة طرح قضية إصلاح المؤسسات المالية الدولية، خاصة فيما يتعلق بالحصة التصويتية والدور التمثيلي للدول الإفريقية، وهو نقاش ظلّ محدود التقدم لكنه يعكس مسارًا تدريجيًا نحو إعادة تقييم البنية الحاكمة للنظام المالي العالمي.

4- دلالات الاستضافة الإفريقية للقمة

يحمل انعقاد القمة في إفريقيا للمرة الأولى دلالات سياسية واقتصادية مهمة. فمن الناحية الرمزية، أتاح الحدث للقارّة فرصة للتأكيد على حقها في المشاركة في صياغة قواعد الاقتصاد العالمي، بعيدًا عن الصورة التقليدية التي تختزلها في دور المتلقي للمساعدات. ومن الناحية العملية، وفرت القمة منصة لعرض الفرص الاستثمارية الإفريقية في مجالات الطاقة، والبنى التحتية، والمعادن الاستراتيجية.

كما أسهمت القمة في تعزيز الحوار بين إفريقيا والدول الصاعدة داخل مجموعة بريكس، ومع القوى الغربية على حدّ سواء، في سياق دولي يتّسم بتعدّد مراكز النفوذ. وعلى الرغم من التحديات المتعلقة بتفاوت المصالح داخل القارّة، فقد مثّل الحدث خطوة إضافية نحو بناء حضور إفريقي أكثر توازنًا داخل المؤسسات الدولية.

وفي المحصلة، تعكس الاستضافة مسارًا طويل المدى تسعى إفريقيا من خلاله إلى إعادة بناء موقعها داخل النظام الدولي، بوسائل أكثر فاعلية واستقلالية، وباتجاه ينسجم مع تحولات النظام العالمي نحو تعددية أكبر في مراكز القرار.

الخاتمة

تكشف قمة العشرين التي استضافتها جنوب أفريقيا عن تحوّلٍ تدريجي في موقع القارّة داخل منظومة الحوكمة الاقتصادية العالمية، ليس من ناحية الرمزية فحسب، بل أيضًا من حيث قدرتها على التأثير في النقاشات المتصلة بالديون والتنمية والانتقال الطاقي. وقد أبرزت القمة حجم الفرص التي يتيحها عالمٌ يميل نحو تعددية الأقطاب، مقابل تحديات واقعية ما تزال قائمة في بنية التمثيل الدولي وآليات التمويل.

وفي خلفية هذا المشهد، ترك غياب الولايات المتحدة عن أعلى مستوى تمثيلي أثرًا واضحًا على توازنات القمة، لكنه في الوقت ذاته أتاح مساحات أوسع لدول الجنوب العالمي لبلورة رؤيتها ومطالبها. أما جنوب أفريقيا، فقد استطاعت أن تدير القمة في لحظة إقليمية ودولية حساسة، مع محاولة الحفاظ على توازن دبلوماسي بين القوى الكبرى، وإن ظلّ تأثيرها محدودًا بحجم التباينات داخل القارّة نفسها.

وتبعًا لذلك، يوضّح تحليل القمة أن مستقبل الحضور الإفريقي في مجموعة العشرين سيعتمد على قدرة القارّة على تحويل هذا الزخم الرمزي إلى مكاسب عملية: تحسين شروط التمويل، تعزيز دور الاتحاد الإفريقي في صنع القرار، وتطوير شراكات اقتصادية تتناسب مع تحولات النظام الدولي. فبين الفرص المتاحة والقيود البنيوية، تظل قمة العشرين خطوة مهمة في بناء موقع إفريقي أكثر فاعلية في عالمٍ يتغير بسرعة.

المصدر

 

أفروبوليسي

المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) مؤسسة مستقلة تقدم دراسات وأبحاثاً حول القضايا الأفريقية لدعم صناع القرار بمعرفة دقيقة وموثوقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى