في الساعات الأولى من صباح الأحد 10 أغسطس 2025، شهدت مالي محاولة انقلاب انتهت باعتقال جنرالين وأكثر من 45 ضابطاً في محيط العاصمة باماكو، في عملية أمنية نفذتها السلطات العسكرية. وأفادت مصادر برلمانية أنّ المعتقلين كانوا يخططون للإطاحة بالمجلس العسكري الحاكم بقيادة الكولونيل عاصمي غويتا.
ومن بين أبرز الأسماء التي طالتها الاعتقالات اللواء عباس ديمبيلي، الحاكم السابق لمنطقة موبتي وأحد الوجوه المؤثرة داخل المؤسسة العسكرية، واللواء نِمَه ساغارا، وهي من القيادات النسائية القليلة التي وصلت إلى رتب عليا في الجيش المالي وتشغل منصبًا بارزًا في سلاح الجو.
وتُعَدُّ هذه الحادثة أحدث فصول المشهد السياسي المتقلب في مالي، الذي بدأ مع انقلاب 18 أغسطس 2020، حين أطاح ضباط بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا بعد موجة احتجاجات شعبية على خلفية تدهور الوضع الأمني وفشل الحكومة في احتواء الجماعات الجهادية. بعد أقل من عام، في مايو 2021، وقع انقلاب ثانٍ أطاح بالرئيس الانتقالي باه نداو، ليتولى غويتا مقاليد الحكم، معلنًا عن فترة انتقالية نحو الحكم المدني، لكنها سرعان ما تمددت إلى أفق أبعد بكثير مما كان معلنًا.
منذ ذلك الحين، اتسمت المرحلة الانتقالية بتأجيل الانتخابات الرئاسية إلى عام 2027، وحلّ جميع الأحزاب السياسية في مايو 2025، ما أدى إلى احتجاجات نادرة في باماكو وتصاعد الانتقادات الدولية بشأن تقييد الحياة السياسية. بالتوازي، واجهت البلاد تصاعدًا غير مسبوق في هجمات الجماعات الجهادية، وعلى رأسها تنظيم “نصرة الإسلام والمسلمين”، الذي نفذ هجمات دامية في مناطق الوسط والشمال، كان أبرزها في قاعدة بولكِسّي مطلع يونيو 2025 وأوقع أكثر من 30 قتيلًا في صفوف الجيش.
ولأهمية هذا الحدث، يسعى فريق المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) إلى تقديم قراءة أولية لهذه التطورات، مع التركيز على أبعادها السياسية والأمنية، عبر أربعة محاور رئيسة، هي: توازنات السلطة داخل المجلس العسكري، دلالات استهداف قيادات بارزة في الجيش، الانعكاسات الأمنية الإقليمية، وآفاق المرحلة الانتقالية في ضوء المستجدات.
أولًا: توازنات السلطة داخل المجلس العسكري
تشير الاعتقالات الأخيرة إلى أن المجلس العسكري الحاكم في مالي يواجه تحديات داخلية تتعلق بالحفاظ على وحدة صفه وضبط توازنات الولاء بين كبار الضباط.
فمنذ 2020، تمكنت القيادة، بقيادة الكولونيل عاصمي غويتا، من إحكام قبضتها عبر إعادة هيكلة مراكز النفوذ في الجيش، إلا أن بروز شخصيات مؤثرة مثل اللواء عباس ديمبيلي أعاد فتح ملف النفوذ العسكري الموازي الذي قد يشكل تهديدًا لاستقرار القيادة. هذه التطورات توحي بأن المجلس، رغم تماسكه الظاهري، يدرك حساسية اللحظة ويعتمد سياسة الضربات الاستباقية لمنع أي إعادة تشكيل لمراكز القوى.
كما تكشف الأحداث عن احتمالية وجود تيارات متباينة داخل المجلس، بعضها قد لا يتفق مع إطالة أمد المرحلة الانتقالية أو طريقة إدارة الملف الأمني. في بيئة كهذه، قد تصبح التوازنات الداخلية أكثر هشاشة، خصوصًا إذا ترافق ذلك مع ضغوط خارجية أو مطالبات داخلية بالإصلاح السياسي.
ثانيًا: دلالات استهداف قيادات بارزة في الجيش
إن توقيف شخصيات ذات ثقل مهني ورمزي، مثل اللواء ديمبيلي واللواء ساغارا، يعكس توجّه القيادة نحو تحجيم أي نفوذ قد يتطور خارج دائرة السيطرة المباشرة. فديمبيلي يتمتع بشبكة واسعة من العلاقات داخل الجيش، وساغارا تمثل رمزًا للقيادات النسائية النادرة في المؤسسة العسكرية، ما يجعل استهدافهما رسالة مزدوجة: ردع أي تحرك منظم وإظهار أن المكانة العسكرية أو الرمزية لا تحصّن من المحاسبة أو التهم.
هذا النوع من الإجراءات قد يحقق ردعًا سريعًا، لكنه يحمل أيضًا مخاطر بعيدة المدى، إذ يمكن أن يولّد شعورًا بالاستياء لدى فئات من الجيش ترى أن القرارات تحمل طابعًا سياسيًا أكثر من كونها مهنية، وهو ما قد يخلق بيئة خصبة لمزيد من الانقسامات في المستقبل.
ثالثًا: الانعكاسات الأمنية الإقليمية
تأتي محاولة انقلاب في مالي في وقت يشهد الساحل الإفريقي تصاعدًا غير مسبوق في التهديدات الأمنية العابرة للحدود. الجماعات الجهادية النشطة في شمال ووسط مالي، مثل “نصرة الإسلام والمسلمين”، تتحرك في مسارح عمليات تمتد إلى بوركينا فاسو والنيجر، ما يجعل أي اضطراب في القيادة السياسية أو العسكرية داخل مالي مؤثرًا على المعادلة الإقليمية برمتها.
الانشغال بالأزمات الداخلية قد ينعكس مباشرة على الأداء الميداني للجيش المالي، ويترك فراغًا أمنيًا تستفيد منه هذه الجماعات في توسيع نفوذها ورفع وتيرة عملياتها. وهذا بدوره يضع شركاء مالي الإقليميين والدوليين أمام معضلة: دعم القيادة الحالية رغم أزماتها، أو البحث عن صيغ بديلة لضمان استمرار الجهد الأمني المشترك.
رابعًا: آفاق المرحلة الانتقالية في ضوء المستجدات
تكشف التطورات الأخيرة أن مسار المرحلة الانتقالية أصبح أكثر تعقيدًا، وأن العودة إلى الحكم المدني قبل 2027 تبدو شبه مستبعدة في ظل هذه الأجواء. الاعتقالات وما رافقها من إغلاق المجال السياسي قد تؤدي إلى زيادة العزلة السياسية للنظام، ما يعقّد أي حوار داخلي أو خارجي حول الإصلاحات.
وفي غياب خطوات ملموسة لإعادة بناء الثقة بين السلطة والمجتمع، قد تتعزز قناعة فئات واسعة بأن المرحلة الانتقالية تحولت إلى صيغة حكم مفتوحة بلا أفق واضح، وهو ما قد يُنتج ضغوطًا داخلية متزايدة، سواء في شكل احتجاجات أو محاولات تحدٍ جديدة من داخل أو خارج المؤسسة العسكرية.
الخاتمة
تؤكد التطورات الأخيرة أن محاولة انقلاب في مالي لم تكن حدثًا معزولًا، بل حلقة في سلسلة من التحولات السياسية والأمنية التي تعيد تشكيل المشهد في البلاد منذ 2020. فالتوازنات الهشة داخل المؤسسة العسكرية، وتزايد القيود على الحياة السياسية، وتنامي التهديدات الجهادية، جميعها عوامل تتفاعل في بيئة إقليمية مضطربة، حيث يتقاطع المحلي مع الإقليمي على نحو يصعّب الفصل بينهما.
في هذا السياق، يصبح استقرار مالي رهينًا بقدرة السلطة على إعادة ضبط أولوياتها، مثل: معالجة الانقسامات الداخلية قبل أن تتحول إلى أزمة مفتوحة، وتبني مقاربة أمنية لا تكتفي برد الفعل، وفتح قنوات سياسية تقلل من جاذبية الخيارات غير الدستورية.
هذه، ليست وصفة جاهزة بقدر ما هي إطار للتفكير في خيارات واقعية، قد تحدد ما إذا كانت المرحلة المقبلة ستشهد تماسكًا حذرًا أم انزلاقًا جديدًا نحو دورة عدم الاستقرار.