تشهد الانتخابات الغينية 2025 محطةً سياسية فارقة؛ إذْ تمثل أول استحقاقٍ وطنيٍّ بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس ألفا كوندي في سبتمبر (2021م) على يد العقيد مامادي دومبويا (Mamady Doumbouya)، الذي وعد آنذاك بإعادة السلطة إلى المدنيين خلال مرحلةٍ انتقالية محدودة.
لكنْ قرار المحكمة العليا في كوناكري بالسماح لدومبويا بالترشح للرئاسة قلب معادلة الانتقال رأسًا على عقب، وأثار جدلًا واسعًا حول مغزى هذه العودة الانتخابية للعسكر، ومدى صدقية الوعود السابقة بالإصلاح والانفتاح.
وبناء عليه، يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على مسار تضاؤل الفضاء التعددي في غينيا قبيل الانتخابات، والتعرف على ما إذا كانت صناديق الاقتراع المقبلة ستفتح باب التحول الديمقراطي، أم ستكرّس شكلًا جديدًا من الشرعية العسكرية المغلّفة بخطابٍ انتخابي. وعلى هذا الأساس، ينطلق المقال من سؤالٍ محوريٍّ، ألا وهو: هل يمكن لعمليةٍ انتخابية خالية من المنافسة الحقيقية أنْ تُعيد الشرعية لنظامٍ وصل إلى السلطة عبر القوة؟
ولتحقيق ذلك، سيتناول المقال أربعة محاور أساسية، وهي:
- الخلفية التاريخية لمسار السلطة الانتقالية والوعود المؤجلة.
- التعرف على بنية الإقصاء السياسي وتجريم الأحزاب المعارضة.
- تحليل الرهانات الإقليمية والدولية في ظل صعود الحكم العسكري في غرب إفريقيا؛ وأخيرًا،
- استشراف ما تحمله الانتخابات الغينية 2025 من دلالاتٍ أوسع حول مستقبل الشرعية والديمقراطية في القارة.
خلفية السلطة الانتقالية ومسار الوعود المؤجّلة
منذ أنْ أطاح العقيد مامادي دومبويا (Mamady Doumbouya) بالرئيس السابق ألفا كوندي في سبتمبر (2021م)، بدت غينيا وكأنها دخلت مرحلة إعادة تأسيسٍ سياسيٍّ ترفع شعارات الإصلاح ومحاربة الفساد. وقد وعد دومبويا، في خطاب تولّيه السلطة، بإعادة الحكم إلى المدنيين بعد فترةٍ انتقالية قصيرة، مؤكدًا أن الجيش “لن يحكم، بل سيُعيد بناء الدولة.” غير أنّ السنوات اللاحقة أثبتت أن هذه الوعود كانت أقرب إلى تكتيكٍ مرحليٍّ منها إلى التزامٍ سياسيٍّ، إذ تحوّل المجلس الانتقالي تدريجيًا إلى واجهةٍ لسلطةٍ عسكريةٍ متماسكة تمسك بكل مفاصل القرار.
فخلال ثلاث سنوات، أُعيد تشكيل المؤسسات الانتقالية بطريقة تكرّس المركزية التنفيذية؛ جرى حلّ البرلمان المؤقت، وإعادة تنظيم المجلس الوطني للانتقال بما يضمن الولاء، وتوسيع صلاحيات الرئيس بقراراتٍ لا تخضع للمراجعة القضائية. وبالتوازي، اتسعت رقابة الدولة على الإعلام والمجتمع المدني، فيما تراجعت مؤشرات الحريات العامة إلى أدنى مستوياتها منذ عقدٍ من الزمن (France24, 2025). وهكذا تحوّل مسار “العودة إلى الحكم الدستوري” إلى عمليةٍ دائرية يُعاد فيها إنتاج النظام العسكري في هيئةٍ مدنيةٍ محكومةٍ بقبضةٍ واحدة.
هذا التراجع عن التعهّدات الأولى أحدث خيبةً في الأوساط الشعبية والمدنية، إذ باتت قطاعاتٌ واسعة من الغينيين ترى في المرحلة الانتقالية زمنًا معطّلًا لتداول السلطة أكثر من كونه جسرًا نحو الديمقراطية. كما أن التهميش المنهجي للنقابات ومنظمات المراقبة المستقلة أضعف أيّ توازنٍ محتمل بين الدولة والمجتمع، ما جعل انتخابات (2025م) تبدو – قبل انعقادها – استمرارًا للحكم العسكري بوسائل انتخابية لا أكثر.
تضاؤل الفضاء التعددي وإقصاء المعارضة
مع اقتراب موعد الانتخابات الغينية 2025، بدا المشهد السياسي مغلقًا على نحوٍ شبه كامل. فالقائمة التي أعلنتها المحكمة العليا ضمّت تسعة مرشحين، لكنّها استبعدت أبرز وجوه المعارضة بذريعة “نواقص إجرائية” أو “مخالفات قانونية.” من بين هؤلاء لا نسانا كوياتيه، رئيس الوزراء الأسبق، وعثمان كابا، الوزير السابق، وهما شخصيتان تمتلكان رصيدًا سياسيًا مؤثرًا في الداخل والخارج. واعتبر مراقبون هذا الإقصاء مؤشرًا على تصميمٍ مؤسسيٍّ لتفريغ الانتخابات من معناها التعددي، وتحويلها إلى منافسة رمزية يُحدّد سقفها سلفًا (Reuters, 2025).
لكن المقلق أكثر من إقصاء الأفراد هو تجريم الكيانات الحزبية ذاتها. ففي عام (2024م)، أصدرت السلطات مرسومًا بحلّ أكثر من ثمانين حزبًا سياسيًا، وتعليق أنشطة أبرز ثلاثة أحزاب معارضة بحججٍ تتعلق بـ“مخالفة القوانين” و“تهديد الأمن العام.” وقد ترتب على ذلك فراغٌ سياسي غير مسبوق، جعل الساحة الحزبية أقرب إلى حديقةٍ مغلقة لا يُسمح بدخولها إلا للمقرّبين من المؤسسة العسكرية (Jeune Afrique, 2025).
وفي ظل هذا الانكماش، تحوّلت الانتخابات إلى اختبارٍ لمدى قدرة النظام على فرض نموذجٍ جديد من “الشرعية المنضبطة”؛ شرعيةٍ تستند إلى المشاركة المحدودة والرقابة الشاملة. فالمظاهرات محظورة، والتغطيات الإعلامية خاضعة للترخيص المسبق، والفضاء الرقمي مراقَب بدقة. وبينما تصرّ الحكومة على أن الاقتراع المقبل “حرّ ونزيه”، يتحدث ناشطون عن مشهدٍ سياسي بلا معارضة حقيقية، وعن صناديقٍ تُملأ بالأصوات لكن تفتقر إلى الخيار.
الرهانات الإقليمية والدولية في ظل عودة العسكر للسياسة
لا يمكن فهم الانتخابات الغينية 2025 بمعزلٍ عن الموجة الانقلابية التي تعصف بغرب إفريقيا منذ مطلع العقد الراهن. فقد أصبحت مالي والنيجر وبوركينا فاسو نماذج متكررة لتحوّل الجيوش إلى فاعلٍ سياسيٍّ دائم تحت شعار “المرحلة الانتقالية المفتوحة.”
وفي هذا السياق، تسعى غينيا إلى تقديم نفسها بوصفها نموذجًا “معتدلًا” لإعادة الشرعية عبر الاقتراع، حتى وإن كان قائد الانقلاب هو المرشح الأول للمنصب الأعلى.
إقليميًا، تجد منظمة الإيكواس (ECOWAS) نفسها أمام معضلةٍ مزدوجة، فالتصعيد ضد العسكر يهدد بخسارة النفوذ في المنطقة، أما التساهل فيُكرّس عودة “السلطة العسكرية الشرعية.” لقد تأخرت الانتخابات عامًا عن الموعد المتفق عليه مع المنظمة، ومع ذلك اكتفت الإيكواس ببياناتٍ عامة تدعو إلى احترام الجدول الانتخابي، في موقفٍ يعكس تراجع قدرتها على التأثير الميداني. وهكذا تمضي غينيا على خطى جيرانها نحو تطبيعٍ تدريجيٍّ للحكم العسكري بوسائل دستورية.
أما على الصعيد الدولي، فقد اختارت القوى الغربية الحذر والبراغماتية. فالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أعربا عن “القلق” من تراجع الحريات السياسية، لكنهما فضّلا الحفاظ على علاقاتٍ مستقرة مع كوناكري، نظرًا إلى موقعها الاستراتيجي وثرواتها المعدنية، ولا سيما احتياطات البوكسيت التي تعد الأكبر عالميًا (Reuters, 2025). وبينما يتعامل الغرب مع دومبويا كـ“قائدٍ ضروري” في محيطٍ هشّ، يتعامل الأخير مع الانتخابات كوسيلةٍ لتكريس شرعيةٍ جديدة تُعلن نهاية الانقلاب رسميًا، وتؤسس لمرحلةٍ عسكرية-مدنية تحت قناع الديمقراطية.
خاتمة:
بين شرعية الصندوق وشرعية القوة
تكشف الانتخابات الغينية 2025 عن مشهدٍ سياسيٍّ يتجاوز حدود المنافسة الانتخابية إلى إعادة تعريفٍ شاملة لمفهوم الشرعية في إفريقيا الغربية. فبينما ترفع السلطات شعار “العودة إلى الحكم المدني”، تتجه البلاد في الواقع نحو نموذجٍ مختلطٍ من الحكم العسكري المُقنَّع بالديمقراطية، حيث تُستبدل صناديق الاقتراع بالولاء المؤسساتي، ويُعاد إنتاج السلطة تحت لافتةٍ انتخابيةٍ محكمة الضبط. في هذا السياق، لا يبدو فوز العقيد مامادي دومبويا – إن تحقق – حدثًا انتخابيًا بقدر ما هو تتويجٌ لمسارٍ طويل من تحييد المعارضة وتطبيع القوة كأداةٍ للحكم.
إن أخطر ما تفرزه الانتخابات الغينية 2025 ليس فقط إقصاء الخصوم السياسيين، بل تآكل الثقة في العملية الديمقراطية نفسها. فحين تُفرغ الانتخابات من مضمونها التعددي، تتحول إلى طقسٍ إداري يمنح شرعيةً شكليةً لسلطةٍ أمر واقع. وهذه الديناميكية، إذا استمرت، ستعمّق الانغلاق السياسي وتضع البلاد أمام خطر “الركود السلطوي” الذي يجمّد أي إمكانيةٍ للتداول السلمي على السلطة. ويُضاف إلى ذلك بُعدٌ إقليميٌّ خطير، إذ يُتوقّع أن يشكّل النموذج الغيني حافزًا ضمنيًا للأنظمة العسكرية المجاورة لإعادة إنتاج السلطة بذات الآلية الانتخابية الموجَّهة.
في المحصلة، لا تختبر الانتخابات الغينية 2025 شرعية المرشحين فحسب، بل مصداقية الفكرة الديمقراطية في غرب إفريقيا بأسرها. فإما أن تنجح النخب الوطنية في تحويل الاستحقاق إلى خطوةٍ نحو إصلاحٍ حقيقيٍّ يعيد بناء الثقة، أو تظل البلاد أسيرة دائرةٍ مغلقة من الوعود المؤجلة والانقلابات المبرّرة. والاختيار – كما يبدو – لم يعد بين العسكر والمدنيين فحسب، بل بين مستقبلٍ يفتح باب المشاركة، وآخر يعيد إنتاج الاستقرار بالقوة.
مصادر يمكن الرجوع إليها
- ABC News. 2025. “Guinea Protests Turn Deadly amid Election Disputes.” ABC News Africa Desk, November 2, 2025. https://abcnews.go.com
- Agence France-Presse (AFP) / Le Monde. 2025. “Guinée : la Cour suprême valide la candidature de Mamadi Doumbouya.” Le Monde Afrique, November 10, 2025. https://www.lemonde.fr/afrique
- Al Jazeera. 2025. “Guinea’s Junta Leader Cleared to Run in Presidential Election.” Al Jazeera English, November 10, 2025. https://www.aljazeera.com
- Associated Press (AP). 2025. “Guinea Court Allows Coup Leader Doumbouya to Contest Elections.” AP News, November 10, 2025. https://apnews.com
- France 24. 2025. “Guinea’s Transition: From Military Promises to Political Reality.” France24 Afrique, October 30, 2025. https://www.france24.com/en/africa
- Internet Society Pulse. 2025. “Internet Shutdowns in Africa: Guinea’s 2025 Election Blackout.” Internet Society Pulse Reports, November 1, 2025. https://pulse.internetsociety.org
- Jeune Afrique. 2025. “Guinée : Mamadi Doumbouya, de la transition au pouvoir électoral.” Jeune Afrique, November 9, 2025. https://www.jeuneafrique.com
- Reuters. 2025. “Guinea’s Supreme Court Clears Junta Leader to Run in 2025 Election.” Reuters Africa, November 10, 2025. https://www.reuters.com
- Xinhua / China.org.cn. 2025. “Hussein Ali Mwinyi Re-elected as President of Zanzibar.” China.org.cn, October 31, 2025. https://www.china.org.cn
- Access Now / #KeepItOn Coalition. 2025. “#KeepItOn 2025 Report: Internet Shutdowns and Election Transparency in Africa.” Access Now, November 3, 2025. https://www.accessnow.org





