تحليلات

الانتخابات الأمريكية لعام 2024 وتأثيرها على أفريقيا: ما الذي قد تكسبه القارة أو تخسره

تُعتبر الانتخابات الأمريكية لعام 2024 من بين أكثر الأحداث حساسيةً في تاريخ الولايات المتحدة، وتتجه أنظار إفريقيا نحو هذا الحدث بترقب كبير، إدراكاً للتأثيرات المحتملة التي قد تحملها تحولات السياسة الأمريكية على مستقبل القارة. فلم تعد إفريقيا ذلك الطرف البعيد عن دائرة الاهتمام الدولي؛ بل أصبحت اليوم محور تركيز القوى الكبرى، نظراً لما تملكه من موارد طبيعية هائلة، وقوة بشرية شابة، ونمو اقتصادي متسارع.

وقد ساهم هذا التحول في تعزيز موقع إفريقيا الاستراتيجي على الساحة العالمية، مما دفع العديد من الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، إلى إعادة تقييم سياساتها تجاه القارة، بهدف بناء شراكات جديدة وضمان المصالح المشتركة. ومع اقتراب الانتخابات الأمريكية لعام 2024، تتعاظم أهمية هذه الديناميكيات في تحديد مسار العلاقات الأمريكية الإفريقية.

ويخوض المرشح الجمهوري دونالد ترامب، والمرشحة الديمقراطية كمالا هاريس سباقًا شديد المنافسة، وكل منهما يحمل توجهات تختلف جذريّاً في تعاطيه مع القضايا الإفريقية. فالحزب الجمهوري، الذي يميل إلى السياسات التجارية القائمة على تقوية القطاع الخاص، قد يضع إفريقيا في إطار شراكات اقتصادية ثنائية تعود بالنفع على الاقتصاد الأمريكي، مع التركيز على استثمارات موجهة نحو القطاعات الاستراتيجية كالمعادن والطاقة في الدرجة الأولى.

وبينما يسعى الديمقراطيون، تقليديّاً، إلى دعم مبادئ حقوق الإنسان، وتعزيز الشفافية، وتمكين المجتمعات من بناء مؤسسات قوية ومستدامة، ما قد يدفع إدارة هاريس المحتملة إلى التركيز على النمو المستدام، ومحاربة الفساد، وتعزيز الحوكمة الرشيدة.

وفي هذه اللحظة الفارقة، تجد إفريقيا نفسها أمام مفترق طرقٍ قد يحمل في طياته فرصاً وتحديات على حدٍّ سواء. وقد تتركز هذه الرهانات حول أربعة محاور رئيسية، ستحدد مستقبل العلاقات الإفريقية الأمريكية، وهي: الشراكات الاقتصادية التي تتطلع نحو التنمية، والتعاون الأمني في مواجهة التحديات الإقليمية، وتأثير التنافس المتزايد بين الولايات المتحدة والصين على القارة، وأخيرًا الفرصة المتاحة لإفريقيا لتأكيد سيادتها وتعزيز موقعها في النظام العالمي، أو على الأقل تحقيق مكاسب لم تتح لها من قبل.

وبناء عليه، سيتناول هذا المقال تلك المحاور الأربعة بشيء من التفصيل، محللًا كيف يمكن للقادة الأفارقة اغتنام هذه المتغيرات؛ لتطوير مستقبل قارتهم، في ظل نظام عالمي سريع التغير، لا يرحم المتباطئين عن ركبه.

أولا: الشراكة الاقتصادية، نمو أم اعتماد؟

تشكل الشراكة الاقتصادية بين الولايات المتحدة وإفريقيا حجر الأساس في العلاقة بين الطرفين، وتتبلور في صورة صفقات تجارية، واستثمارات خاصة، ومبادرات تنموية تهدف إلى تحقيق المصالح المتبادلة. ومع اقتراب الانتخابات الأمريكية لعام 2024 المقبلة، تَبْرُز رؤيتان مختلفتان تماماً تجاه إفريقيا؛ واحدة يتبناها الجمهوري دونالد ترامب، والأخرى قد تأتي بها الديمقراطية كمالا هاريس. هذه الرؤى المتباينة تحمل انعكاسات عميقة على مسار النمو الاقتصادي واستقلال القارة الإفريقية، وما إذا كانت ستتمكن من تحقيق تنمية حقيقية ومستدامة، أو ستظل رهينة الاعتماد على قوى خارجية.

في حال عودة ترامب إلى البيت الأبيض، يُتوقع أنْ يركز على تعزيز السياسات الاقتصادية القائمة على السوق الحرة، بهدف تمكين الشركات الأمريكية من الاستثمار في القطاعات الإفريقية الغنية بالموارد الطبيعية، وتقليل القيود التنظيمية. فمن المعروف عن الجمهوريين ميلهم لسياسات تحررية تشجع القطاع الخاص، وتقلل تدخل الحكومة، وهو ما قد يدفع ترامب لعقد صفقات ثنائية تعود بالنفع على الاقتصاد الأمريكي أولًا.

ومن خلال هذه المقاربة، قد يسعى ترامب لإبرام اتفاقيات مباشرة مع الدول الإفريقية التي تمتلك احتياطيات ضخمة من المعادن والطاقة والزراعة. إلا أنّ هذا النهج الثنائي، قد يفتح الباب أمام الدول الإفريقية ذات الموارد الوفيرة، فيما قد يترك بقية الدول الأقل ثراءً في موقف ضعيف، مما يعزز تفاوت النمو الاقتصادي داخل القارة، ويزيد من عدم التوازن، وقد يخلق مشكلات بنيوية في اقتصادات بعض الدول.

وقد تستمر مبادرة “قانون النمو والفرص في إفريقيا “(AGOA)، التي توفر للدول الإفريقية دخولًا معفى من الرسوم إلى الأسواق الأمريكية، في حال انتخاب ترامب. ومع ذلك، فإنّ إعادة تقييم هذا القانون في عام 2025 ستعتمد إلى حدٍّ كبير على أولويات الإدارة، ما يجعل مستقبله غير مؤكد.

وبدون وجود رؤية شاملة وطويلة المدى، قد تظل مقاربة ترامب تركز على الصفقات قصيرة الأجل، التي قد لا تشمل جوانب أساسية للتنمية المستدامة في إفريقيا، مثل التحول الرقمي، والتعليم، والتصنيع، وهي ركائز حيوية للنمو الشامل والمستدام.

في المقابل، من المتوقع أن تتبنى هاريس، كمرشحة للحزب الديمقراطي، نهجًا أكثر شمولية واستدامة نحو التنمية الاقتصادية في إفريقيا. فالديمقراطيون يُعرَفون بتفضيلهم لسياسات تهدف إلى تحسين حقوق الإنسان، والحوكمة الرشيدة، ومحاربة الفساد، مما يعني أنّ إدارة هاريس قد تعمل على دعم المؤسسات الإفريقية الصغيرة، وتوسيع البرامج التعليمية، وتنمية قطاعات التكنولوجيا والإبداع. ومن خلال مبادرات مثل “ازدهار إفريقيا”، قد تتجه هاريس إلى تشجيع الاستثمارات في مجموعة واسعة من الصناعات، لتوفير فرص اقتصادية تدعم الشركات المحلية وتزيد من مرونتها.

إلا أنّ تحقيق هذه الطموحات يحتاج إلى أكثر من مجرد وعود وخطابات تحملها دعايات الانتخابات الأمريكية لعام 2024. ولكي تُثمر هذه الاستراتيجية، ينبغي على إدارة هاريس أنْ تخصص موارد وتنفيذات ملموسة تصل مباشرة إلى القطاعات التي تُسْهِم في بناء بنية اقتصادية إفريقية قوية ومستدامة. ويتطلب ذلك تخصيص تمويلات كبيرة، والتعاون مع المؤسسات الإفريقية لضمان أنْ تكون الاستثمارات في خدمة تنمية طويلة الأمد، تدعم قدرات القارة، وتعزز استقلالها، مما يضع إفريقيا في موقف أقوى على الساحة العالمية.

الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يتحدث في نادي مار إيه لاغو في بالم بيتش بولاية فلوريدا، 15 نوفمبر 2022. (صورة أرشيفية لوكالة فرانس برس)
الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يتحدث في نادي مار إيه لاغو في بالم بيتش بولاية فلوريدا، 15 نوفمبر 2022. (صورة أرشيفية لوكالة فرانس برس)

ثانيا: التعاون الأمني، استقرار أم مكاسب قصيرة الأجل؟

يُعدُّ الأمن عنصراً حيوياً في العلاقات بين الولايات المتحدة وإفريقيا، لا سيما في ظل التحديات المعقدة التي تفرضها الجماعات الإرهابية، وتصاعد حالة عدم الاستقرار في مناطق حساسة مثل الساحل الإفريقي، وحوض بحيرة تشاد، وشرق القارة.

قد تتبنى كمالا هاريس، المرشحة الديمقراطية، نهجاً أكثر شمولية وتركيزاً على بناء القدرات المحلية. فالديمقراطيون، الذين يفضلون عادةً السياسات التي تعزز الشراكات طويلة الأمد وتقوي الحوكمة المحلية، قد يعملون على دعم الهياكل الأمنية الداخلية للدول الإفريقية عوضاً عن التدخل المباشر.

وتواجه إفريقيا تهديدات متعددة تتطلب استراتيجيات متكاملة، وعلى الرغم من اتفاق المرشحان الرئاسيان في الانتخابات الأمريكية لعام 2024، الجمهوري دونالد ترامب والديمقراطية كمالا هاريس، على أهمية التصدي لقضايا الأمن والإرهاب؛ فإنّ الطرق التي قد يتبناها كل منهما تختلف جذرياً.

ففي حال فوز ترامب بفترة رئاسية جديدة، من المتوقع أنْ يتبنى مقاربة صارمة ومباشرة في مكافحة الإرهاب، عبر توسيع عمل القيادة الأمريكية في إفريقيا (AFRICOM) وزيادة الدعم العسكري للحلفاء الأفارقة. فالحزب الجمهوري، الذي يميل إلى تعزيز القوة العسكرية كوسيلة أساسية لتحقيق الأمن، قد يسعى إلى إمداد إفريقيا بموارد عسكرية ودعم تكتيكي مباشر في مواجهة التنظيمات المتطرفة مثل “بوكو حرام” و”الشباب”.

هذا النهج قد يوفر استجابة سريعة للتهديدات؛ لكنه يحمل في طياته مخاطر تعزيز الاعتماد الإفريقي على الولايات المتحدة، وتهميش الحلول المحلية. فالتركيز المفرط على الحلول العسكرية قد يغفل الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار، مثل البطالة المرتفعة، الفساد المستشري، وضعف الهياكل الحكومية، ما يؤدي في النهاية إلى استقرار مؤقت دون معالجة أساسية للمشاكل.

وفي المقابل، قد تتبنى كمالا هاريس، المرشحة الديمقراطية، نهجاً أكثر شمولية وتركيزاً على بناء القدرات المحلية. فالديمقراطيون، الذين يفضلون عادةً السياسات التي تعزز الشراكات طويلة الأمد وتقوي الحوكمة المحلية، قد يعملون على دعم الهياكل الأمنية الداخلية للدول الإفريقية عوضاً عن التدخل المباشر.

فمن خلال دعم الإصلاحات الحكومية، وبرامج بناء القدرات، وتعزيز التعاون مع الهيئات الإقليمية مثل الاتحاد الإفريقي، يمكن لهاريس أنْ تسهم في تمكين الدول الإفريقية من إدارة التهديدات الأمنية بفاعلية أكبر، مما يخلق بيئة أمنية أكثر استدامة واستقلالية على المدى الطويل.

ومع أنّ نَهْج بناء القدرات قد لا يقدم حلولاً فورية، إلا أنّه يمهد الطريق أمام الدول الإفريقية لتطوير استراتيجيات أمنية تنبثق من احتياجاتها الخاصة وتعتمد على قدراتها الذاتية. ولتحقيق هذا الهدف، يتطلب هذا النهج دعماً مستمراً من الولايات المتحدة، والتزاماً دبلوماسياً طويل الأمد يضمن أنْ تبقى إفريقيا شريكاً حقيقياً في مواجهة التحديات الأمنية الإقليمية، وليس وعود رنانة تبرق في حملات المرشحين في الانتخابات الأمريكية لعام 2024.

إذا أعيد انتخاب دونالد ترامب لفترة رئاسية ثانية، من المحتمل أنْ يشدد من موقفه تجاه الصين، مما يزيد من التوترات بين القوتين العظميين، ويجعل الوضع أكثر تعقيداً بالنسبة لإفريقيا.

 

في حين أنّ الحلول العسكرية قد تكون فعّالة على المدى القصير، فإنّ بناء مؤسسات محلية قوية ومستدامة هو ما يضمن استقراراً دائماً يعكس مصالح القارة ويمكّنها من مواجهة التحديات بشروطها الخاصة.

كيف سيؤثر التنافس بين أمريكا والصين على إفريقيا في ظل الانتخابات الأمريكية لعام 2024؟

يُشكل التنافس الحادّ بين الولايات المتحدة والصين عنصراً محورياً في إعادة تشكيل البيئة الجيوسياسية في إفريقيا؛ حيث تضطلع الصين بدور اقتصادي متزايد في القارة، يتجلى في مشاريع ضخمة تشمل البنية التحتية، والاتصالات، والتعدين، وموارد الطاقة. ويضع هذا النفوذ المتنامي الدول الإفريقية أمام ضغوط متزايدة لاختيار الشراكات بحكمة؛ إذْ تسعى إلى تحقيق مصالحها دون الانحياز إلى طرف بعينه في هذا الصراع بين العملاقين.

فإذا أعيد انتخاب دونالد ترامب لفترة رئاسية ثانية، من المحتمل أنْ يشدد من موقفه تجاه الصين، مما يزيد من التوترات بين القوتين العظميين، ويجعل الوضع أكثر تعقيداً بالنسبة لإفريقيا. فمن المعروف أنّ إدارة ترامب تعتمد سياسة مواجهة صريحة للحدّ من النفوذ الصيني، ومن المتوقع أنْ تُمارس ضغوطاً على الدول الإفريقية؛ لتبني مواقف مؤيدة للولايات المتحدة، خاصةً في القطاعات الحساسة مثل الاتصالات، وتقنيات الجيل الرابع والخامس.

ومن الأمثلة الواقعية على هذا التوجه، الضغط الذي مارسته الإدارة الأمريكية على العديد من الدول لعدم التعامل مع شركة “هواوي” الصينية في بناء شبكات الجيل الخامس (5G)، بدعوى أنّ تقنيات الشركة تشكل تهديداً لأمن البيانات. وقد أثّر هذا الضغط بشكل مباشر على دول إفريقية مثل كينيا وغانا؛ حيث تواجه هذه الدول صعوبة في تلبية حاجاتها التكنولوجية دون خسارة علاقتها مع الولايات المتحدة.

كما أنّ سياسة ترامب القائمة على فرض التعريفات الجمركية، والعقوبات التجارية على الصين، قد تؤدي إلى تعقيد علاقات إفريقيا مع بكين، خاصة بالنسبة للدول التي تعتمد على الاستثمارات الصينية في مشاريع بنية تحتية حيوية.

فالصين، من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، قامت بتمويل مشاريع كبرى في إفريقيا، مثل ميناء مومباسا في كينيا وخطوط السكك الحديدية في إثيوبيا. وهذه المشاريع، على الرغم منْ أهميتها التنموية، قد تضع هذه الدول أمام معضلة: إما مواصلة الاستفادة من التمويل الصيني والمخاطرة بعلاقاتها مع الولايات المتحدة، أو الانحياز لأمريكا والتخلي عن فرص استثمارية حيوية.

أمّا في حال فوز كمالا هاريس بالرئاسة فس الانتخابات الأمريكية لعام 2024، فقد تتبنى نهجاً متعدد الأطراف، وأكثر مرونةً في التعامل مع ملف التنافس الصيني، مما قد يوفر للدول الإفريقية هامشاً أوسع للمناورة. فالديمقراطيون، بصفة عامة، يميلون إلى سياسة الشراكات المتوازنة والدبلوماسية الشفافة، وقد تسعى هاريس إلى تعزيز العلاقات مع إفريقيا دون إجبارها على الانحياز لطرف دون الآخر. هذا النهج سيتماشى مع رغبة إفريقيا في الحفاظ على استقلالية سياساتها، ويسمح لها بالاستفادة من الفرص الاقتصادية والتكنولوجية التي تقدمها كل من الولايات المتحدة والصين.

فعلى سبيل المثال، قد تشجع هاريس على إقامة مشاريع تنموية مشتركة تتسم بالشفافية والاستدامة، مثل مبادرة “ازدهار إفريقيا” التي تركز على دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتعزيز التعاون التجاري بين القارتين. هذا النوع من التعاون من شأنه أنْ يعزز الاقتصاد الإفريقي دون التضحية بشراكاته مع الصين، ويمنح الدول الإفريقية خياراً وسطاً بين الشراكتين.

اليوم، تجد إفريقيا نفسها في موقع حساس؛ فهي بحاجة للاستثمارات والتكنولوجيا من الصين، وفي نفس الوقت تتطلع لدعم أمريكا لبناء مؤسساتها وتعزيز حوكمتها. وفي خضم هذا التنافس الشرس، سيكون على الدول الإفريقية اتخاذ قرارات حكيمة، توازن بين الشراكات الخارجية، وتؤكد على استقلالية القارة وتطلعاتها للنمو والتنمية المستدامة.

نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس تتحدث في مؤتمر صحفي عقب اجتماعاتها مع الرئيس الغاني نانا أكوفو أدو في أكرا، غانا، في 27 مارس 2023. زيارة هاريس التي استمرت سبعة أيام إلى إفريقيا والتي أخذتها أيضًا إلى تنزانيا وزامبيا [Misper Apawu/AP Photo]
نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس تتحدث في مؤتمر صحفي عقب اجتماعاتها مع الرئيس الغاني نانا أكوفو أدو في أكرا، غانا، في 27 مارس 2023. زيارة هاريس التي استمرت سبعة أيام إلى إفريقيا والتي أخذتها أيضًا إلى تنزانيا وزامبيا [Misper Apawu/AP Photo]

رابعا: كيف تقود إفريقيا مستقبلها وتؤكد سيادتها؟

في ضوء ما سبق من مخاض الانتخابات الأمريكية لعام 2024، وفي ظل التحديات العالمية والتحولات الجيوسياسية المتسارعة، تمتلك إفريقيا اليوم فرصة تاريخية لتعزيز سيادتها وبناء مستقبلها التنموي بطريقة تتوافق مع تطلعات شعوبها، وتدعم استقلالها الحقيقي. إنّ الزّخَم العالمي المتزايد نحو إفريقيا، وتنامي الاهتمام بمواردها وطاقاتها الشابة، يضع القادة الأفارقة أمام مسؤولية كبيرة لاستثمار هذا الوضع الاستثنائي في سبيل تحقيق رؤية تنموية طموحة للقارة. ولكي تتمكن إفريقيا من استغلال هذه اللحظة التاريخية، يتعين على قادتها تبني موقف موحد ورؤية استراتيجية تضع مصالح القارة في المقام الأول.

فالسبيل الأمثل لتعزيز هذا التوجه يتمثل في تعميق التعاون الإقليمي عبر منظمات مثل الاتحاد الإفريقي، الذي يمثل جبهة قوية تمكّن الدول الإفريقية من التفاوض بفعالية مع القوى العالمية، وتحقيق شراكات تحقق مصالح شعوبها.

فمن خلال بناء توافق جماعي حول القضايا الأساسية، يمكن لإفريقيا أنْ تَفرُض شروطاً شفافة في علاقاتها الدولية، وتضمن أنّ الاستثمارات الأجنبية تلبي احتياجاتها التنموية، ولا تهدد استقلالها. هذا التعاون الإقليمي أو القارّي، يمنح القارة مرونة تفاوضية أكبر، ما يتيح لها وضع قواعد صارمة للحفاظ على سيادتها، والتحكم في مواردها، وتجنب التدخلات الخارجية التي قد تَفْرِض شروطًا لا تتناسب مع مصالحها.

وبفضل مواردها الغنية، وارتفاع معدلات النمو السكاني والاقتصادي، تتمتع إفريقيا بفرص لتعزيز صناعاتها المحلية، وبناء قاعدة اقتصادية قوية ومستدامة. فعبر الاستثمار في الصناعات المحلية، يمكن للقارة جذب استثمارات أجنبية تدعم هذا النمو دون فرض تبعية طويلة الأمد.

فعلى سبيل المثال، يمكن تعزيز البنية التحتية عبر مشاريع وطنية وإقليمية تتيح تكاملًا اقتصاديًا بين الدول الإفريقية، ما يقلل من الاعتماد على التمويلات الخارجية. ويعد مشروع منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية خطوة استراتيجية نحو تكامل الأسواق الإفريقية؛ إذْ يمنحها قدرة أكبر على تحقيق اكتفاء ذاتي وتوجيه مواردها لصالح تطوير القارة.

وفي الوقت ذاته، تواجه إفريقيا تحديات تتطلب اتخاذ قرارات دقيقة وواقعية. فمن جهة، يمكن أنْ تسعى الدول الإفريقية إلى تعزيز التعاون مع قوى كبرى مثل الولايات المتحدة والصين وأوروبا؛ لكن بشرط فرض حدود واضحة تضمن استقلالها السياسي، وتركز على نقل المعرفة، وبناء القدرات المحلية، بدلاً منَ الاعتماد المفرط على هذه القوى. ومن جهة أخرى، يمكن أنْ تستفيد من تنامي علاقاتها مع دول الجنوب العالمي، كالهند وتركيا والبرازيل؛ لبناء شراكات متنوعة تفتح أمامها فرصاً جديدة بعيداً عن الهيمنة التقليدية.

ورغم كل هذه البدائل، يبقى الخيار الأكثر استدامة هو تطوير الذات من الداخل، عبر الاستثمار في التعليم وتعزيز الابتكار وإعداد الأجيال الشابة؛ لتكون قادرة على قيادة مستقبل القارة. ولتحقيق هذه الرؤية، ينبغي على القادة الأفارقة التركيز على بناء بنية تحتية تكنولوجية متقدمة، وتطوير صناعات محلية قوية، بحيث يصبح التمكين الذاتي ركيزة أساسية للسياسة الإفريقية، ويضمنُ أنْ يكون مستقبل القارة في أيدي أبنائها، بعيداً عن سيطرة المصالح الأجنبية.

الخاتمة

في ظل التغيرات العالمية المتسارعة، والمنافسات الجيوسياسية المحتدمة، وفي فترة مخاض الانتخابات الأمريكية لعام 2024، تقف إفريقيا أمام لحظة تاريخية تتطلب من قادتها نظرة ثاقبة وقرارات مدروسة لرسم ملامح المستقبل. ومع اقتراب الانتخابات الأمريكية، تتاح لإفريقيا فرصة نادرة لإعادة صياغة دورها على الساحة الدولية، سواء عبر بناء شراكات اقتصادية مستدامة، أو تطوير منظومة أمنية متكاملة، أو تعزيز استقلالها أمام الضغوط الناتجة عن التنافس بين القوى العظمى.

وبينما يسعى الجمهوريون بقيادة دونالد ترامب إلى تعزيز مصالح الولايات المتحدة من خلال صفقات ثنائية تجارية مباشرة، يفضل الديمقراطيون، بزعامة كمالا هاريس، دعم الحوكمة الرشيدة والتنمية الشاملة التي تخدم مصلحة إفريقيا على المدى الطويل. ولطالما شكلت هذه الاختلافات التاريخية بين الحزبين ملامح العلاقات مع إفريقيا؛ حيث يميل الجمهوريون إلى تركيز استثماراتهم في القطاعات ذات العائد السريع، بينما يفضل الديمقراطيون دعم سياسات طويلة الأمد تُعزز الاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي المتوازن.

وفي ظل هذه التغيرات، وخاصة في ظل الانتخابات الأمريكية لعام 2024، يظهر عصر جديد من الوحدة الإفريقية والتكامل الإقليمي؛ حيث يتمتع القادة الأفارقة بفرصة توجيه دفة القارة نحو مسار يعزز السيادة الحقيقية ويحقق التنمية المستدامة إذا ما استثمرت الجهود بشكل إيجابي. هذا المسار، الذي يعتمد على موقف جماعي، ورؤية استراتيجية شاملة، يمكن أن يجعل من إفريقيا ليس مجرد ساحة تتنازع فيها القوى، بل قوة مستقلة فاعلة في النظام العالمي، تدير مواردها وشراكاتها وفقًا لمصالحها الخاصة وطموحات شعوبها. لتبقى إفريقيا ليست فقط شاهدة على التغيرات العالمية، بل محركاً رئيسياً لها، وقوة مؤثرة تتطلع نحو مستقبل أكثر استقلالاً وازدهاراً.
_________________________

تصفح ايضا: تحليلات المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)، وصفحة المركز على الفيسبوك: المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات

محمد زكريا فضل

أكاديمي اقتصادي، مهتم بقضايا إفريقيا الاقتصادية والاجتماعية. مدير الأبحاث والدراسات بالمركز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى