تحليلات

تجدد الأزمة الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا

 طرد ديبلوماسيين وأجواء ثنائية متوترة

بالرغم من الاتصال الهاتفي المطول الذي جمع كل من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بنظره الفرنسي إيمانويل ماكرون مطلع شهر أبريل 2025 والذي تلته مباشرة زيارة وزير الخارجية الفرنسية جان نويل بارو إلى الجزائر يوم 6 أبريل 2025، وكانت مخرجات الزيارة من عودة التنسيق الأمني والاستخباراتي بين البلدين وإطلاق حوار استراتيجي حول منطقة الساحل والصحراء والعديد من النقاط الاقتصادية وقضايا المتعلقة بالهجرة، كلها بشرت بعودة العلاقات بعد جمودها طيلة ما يقارب 8 أشهر بين البلدين على خلفية الإعلان الفرنسي باعترافه بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، إلا أنه بعد يومين من زيارة بارو إلى الجزائر وفي 8 يوم  أبريل ألقت السلطات الفرنسية القبض على موظف قنصلي جزائري و ما أعاد تدهور العلاقات بين الجزائر وفرنسا بشكل حاد عقب تصعيد دراماتيكي بين البلدين تمثل في الطرد المتبادل لاثني عشر مسؤولا قنصليا ودبلوماسيا من كلا البلدين واستدعاء باريس لسفيرها في الجزائر لتشاور. شكل هذا الحادث تدهورا جديدا في علاقة هشة أصلا، تأثرت بمظالم تاريخية، ونزاعات حول الهجرة، وتباين المصالح الجيوسياسية.

خلفيات الأزمة: قضية بوخرص

كان الشرارة المباشرة للأزمة هي محاولة اختطاف أمير بوخرص، الناشط السياسي الجزائري المعروف وهو شخصية بارزة على مواقع التواصل الاجتماعي خلال ما عرف بالحراك الجزائري سنة 2019، والمقيم في فرنسا. منح بوخرص، الذي لطالما انتقد الحكومة الجزائرية، اللجوء السياسي في فرنسا عام 2023. وفي أبريل 2024، ورد أنه اختطف بالقرب من باريس على يد رجال انتحلوا صفة ضباط شرطة. وادعى أنه احتجز، وخدر، واحتجز لمدة 27 ساعة.

لم تتحرك السلطات الفرنسية في هذه القضية في حينها، ولكن في 8 أبريل عام 2025 بعد مرور عام كامل من ادعاءات بوخرص، ألقت السلطات الفرنسية القبض على ثلاثة مشتبه بهم على صلة بعملية الاختطاف. وتم التعرف على أحدهم على أنه موظف في القنصلية الجزائرية. وأثار اعتقال مسؤول قنصلي غضبًا في الجزائر، التي أنكرت أي تورط للدولة وأدانت ما اعتبرته انتهاكا للبروتوكول الدبلوماسي.

التداعيات الدبلوماسية وعمليات الطرد

في 14 أبريل 2025، أعلنت الجزائر طرد 12 مسؤولا دبلوماسيا وأمنيا فرنسيا، ومنحتهم 48 ساعة للمغادرة. وبعد يومين 16 أبريل، ردت فرنسا بطرد 12 دبلوماسيا جزائريا واستدعاء سفيرها للتشاور. وصفت الحكومتان إجراءاتهما بأنها ردود فعل ضرورية على الاستفزاز، حيث دافعت فرنسا عن إجراءاتها القانونية، بينما نددت الجزائر بما وصفته بـ “السلوك العدائي وغير المتناسب”.

لم يكن هذا أول خلاف دبلوماسي بين البلدين في السنوات الأخيرة، لكن حجم عمليات الطرد والسحب الرمزي لسفير فرنسا عكسا شرخا خطيرا غير معتاد في العلاقات.

لمحة عن مصادر التوتر الهيكلية بين البلدين

يندرج النزاع الحالي في إطار نمط أوسع من الاحتكاك المتكرر بين الجزائر وباريس. ولا تزال العديد من القضايا العالقة تغذي انعدام الثقة:

الهجرة والتعاون الأمني:

لطالما اشتكت فرنسا من رفض الجزائر استعادة مواطنيها المُرحَلين، وخاصة المدانين بجرائم أو المشتبه في تطرفهم. ردا على ذلك، قلصت فرنسا في الماضي إصدار التأشيرات، وهددت مؤخرًا بمراجعة اتفاقية الهجرة لعام 1967 التي تمنح الجزائريين وضعا خاصا.

صراع الصحراء الغربية:

 أثار تأييد فرنسا لخطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء الغربية عام 2024 غضبا شديدا لدى الجزائر، التي تدعم مطلب جبهة البوليساريو بالاستقلال. وقد دفعت هذه الخطوة الجزائر إلى استدعاء سفيرها وتجميد الزيارات الثنائية رفيعة المستوى.

مظالم تاريخية:

لا تزال الجزائر تطالب فرنسا بالاعتراف الكامل والاعتذار عن انتهاكات الحقبة الاستعمارية. وبينما أقر الرئيس ماكرون ببعض جوانب العنف الاستعماري، يرى الجزائريون أن هذه المبادرات غير كافية. ولا تزال سياسة الذاكرة بؤرة اشتعال متكررة.

المعارضون السياسيون في فرنسا:

اتهمت الجزائر فرنسا مرارا وتكرارا بحماية شخصيات معارضة للحكومة، مثل بوخرص، الذي تتهمه الجزائر بزعزعة استقرار الدولة. مع ذلك، ترى فرنسا أن حماية حق اللجوء التي توفرها جزء من التزامها بالحريات المدنية واستقلال القضاء.

ردود الفعل والحسابات الاستراتيجية

عكس رد فعل الجزائر على اعتقال موظفها القنصلي توجها أوسع نطاقا لتأكيد السيادة والمعاملة بالمثل. ومثل طرد الدبلوماسيين بيان تحد ورسالة قوة داخلية ووجهت الجزائر تهم للدبلوماسيين وهم موظفي تابعيين لجهاز الأمن الفرنسي الداخلي، المطرودين بوقوفهم خلف التخطيط لعمليات إرهابية في الجزائر، معززا بذلك خطاب الكرامة الوطنية، ووجهت الجزائر الاتهامات بصفة مباشرة إلى وقوف وزير الداخلية الفرنسية وراء هذه الأزمة بين البلديين.

وأكد العديدون وقوف وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو خلف الأزمة، ففي فرنسا ثلاث أطراف رئيسية فاعلة على مسرح السياسي الفرنسي، اليمين (يضم اليمين المتطرف واليمين الفرنسي التقليدي) والماكرونيين واليسار الفرنسي، ويتبع برونو ريتايو حزب الجمهوريين الذي يقود حملة لتولي رئاسته وهو يمثل النهج المتشدد داخل الحزب، وقد لوح برونو ريتايو باستقالته من منصب وزير الداخلية في 16 مارس 2025 اذا قامت بتريس بتليين موقفها من قضية إعادة المهاجرين الجزائريين، ومن خلال هذه الضربة الأخيرة التي وجهها برنو عبر تصعيد الأزمة بعيد انفراجها بيومين فقط من زيارة وزير الخارجية بارو إلى الجزائر وإعلانه عن عودة العلاقات إلى طبيعتها وعودة التنسيق بين البلديين، اتخذ وزير الداخلية هذه الخطوة وذلك لعدة اعتبارات:

• هذه الحركة ستعزز من شعبية برونو داخل حزبه وستخدم مساعيه في الوصول إلى رئاسة الحزب وتوحيد الطيف اليميني في فرنسا وخاصة الانقسامات داخل الجمهوريين نفسهم.

• بالرغم من أن حزب برنو حليف لحزب ماكرون في الحكم إلا أن هناك منافسة كبرى بين الطرفيين ووضع الرئيس ماكرون في مأزق سياسي يخدم مصالحه في الوقت الحالي.

• الرؤية اليمنية للعلاقات الفرنسية الجزائرية في غاية الحساسية، وخاصة ارتكاز هذه الرؤية على تحميل الجزائر مسؤولية أزمات الهوية والهجرة، رفض الاعتذار والاعتراف بالحقبة الاستعمارية، ولا يخفي وزير داخلية برنو عدائه ضد المهاجريين وانتشار الإسلام في فرنسا.

أما من الجانب الرسمي، أكدت فرنسا على خطورة محاولة الاختطاف على أراضيها. وجادل مسؤولون بضرورة معالجة التهم الجنائية بغض النظر عن الوضع الدبلوماسي، لا سيما عندما يكون القانون والأمن الفرنسيان على المحك. واعتبرت فرنسا رد الجزائر غير متناسب وذا دوافع سياسية.

على الرغم من الخطاب العلني، لدى كلا الجانبين دوافع لتجنب انهيار دائم. تقدر فرنسا تعاون الجزائر في مجال الأمن الإقليمي، لا سيما في منطقة الساحل، وتسعى إلى الحفاظ على نفوذها في شمال أفريقيا. في غضون ذلك، تحتاج الجزائر إلى استثمارات أجنبية وشراكات في مجال الطاقة، ولا يمكنها تحمل عزلة طويلة الأمد عن القوى الأوروبية.

التوقعات

دفعت حادثة أبريل 2025 العلاقات الثنائية إلى أشدّ نقاط المواجهة في الذاكرة الحديثة. القنوات الدبلوماسية محدودة، والثقة المتبادلة متدنية، والاتصالات رفيعة المستوى معلّقة. ومع ذلك، تشير الأحداث الماضية إلى أن الحكومتين قد تسعيان في نهاية المطاف إلى تهدئة التوتر.

تعتمد آفاق المصالحة على المدى القصير إلى حد كبير على النتيجة القانونية لقضية بوخرص، ومدى استعداد أي من الجانبين لتقديم تنازلات رمزية. قد تُستأنف الدبلوماسية الهادئة في شكل مفاوضات سرية لحل قضية اعتقال القنصل واستعادة الوجود الدبلوماسي.

ومع ذلك، لا تزال التوترات الكامنة – بشأن الهجرة، والذاكرة التاريخية، والتحالفات الاستراتيجية المتباينة – دون حل. تعني هذه القضايا الهيكلية أنه، حتى لو تمت إدارة النزاع الحالي، فمن المرجح أن تظل العلاقات هشة وعرضة لانفجارات مستقبلية.

الخلاصة

تشير عمليات الطرد المتبادلة في أبريل 2025 إلى تقلب العلاقات الجزائرية الفرنسية. فالأزمة، التي اندلعت بسبب اعتقال مثير للجدل، تعكس مظالم أعمق وانعدام ثقة متجذر في التاريخ، ومخاوف السيادة، والروايات السياسية المتضاربة. في حين أن المصالح العملية قد تدفع البلدين في نهاية المطاف إلى استئناف الحوار، إلا أن هذه الحادثة تبرز مدى سهولة انزلاق علاقتهما من التعاون إلى المواجهة. وستختبر الأشهر المقبلة ما إذا كانت الدبلوماسية قادرة على استعادة الاستقرار أم أن تباعدا أعمق ينتظرهما.

تحليلات المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات

أفروبوليسي

المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) مؤسسة مستقلة تقدم دراسات وأبحاثاً حول القضايا الأفريقية لدعم صناع القرار بمعرفة دقيقة وموثوقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى