في التاسع عشر من نوفمبر الجاري استخدمت روسيا الاتحادية حق النقض ضد مشروع قرار طرحته بريطانيا وسيراليون في مجلس الأمن الدولي في الشأن السوداني، تضمن 15 بنداً يهدف إلى وقف الأعمال العدائية على الفور والانخراط في حوار للاتفاق على تهدئة الصراع، والتنفيذ الكامل للالتزامات التي تم التعهد بها لحماية المدنيين في اتفاق جدة في مايو العام الماضي، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية من دون عوائق إلى جميع أنحاء البلاد، بالإضافة إلى تجنب أي تدخل خارجي يثير الصراع وعدم الاستقرار. هذه ابرز مفردات القرار ولكن داخل تفاصيل حماية المدنيين توجه للتدخل العسكري.
ابتداءً جرت جولات عديدة من المناقشات والحوارات التي حاولت تقريب الفجوات والمسافات فيما يخص تفسيرات القرار وفهمه، والتخفيف من الهواجس السودانية تجاه تداعيات القرار حيث كانت المناقشات على مستوى الخبراء وتمت قراءة عدد من المسودات المنقحة والمعدلة، ولكن يبدوا أن شيطان التفاصيل لم يترك سبيلا لتفادي خلافات التفسير والتأويل، حيث قدمت بريطانيا المسودة الرابعة التي تم التصويت عليها، وعطلها الفيتو الروسي فما هي طبيعة مشروع القرار وماهي الدوافع التي دفعت روسيا لاستخدام الفيتو، وما هي دلالات الفيتو الروسي على المستويات المختلفة، يستعرض فريق أفرو بوليسي كل ذلك بتحليل السياقات ودلالات ذلك وتداعياته على الديناميكيات الإقليمية والدولية والعلاقات البينية بين روسيا والسودان؟
سياقات القرار
ظلت بعض القوى الغربية تتربص الفرصة المناسبة لفرض الفصل السابع كما فعلت من قبل في قضية دارفور، وقد حاول بعض حلفاء الدعم السريع من عضوية الإيغاد، بالتدخل العسكري عبر الاتحاد الإفريقي ولكن لم تصب نجاحا يذكر، كما أن جلب الأطراف لمحادثات مباشرة والتوصل لحل سلمي لم تنجح، على الرغم من ممارسة الولايات المتحدة وحلفاءها الإقليميين ضغوطا من أجل تحريك المفاوضات تحت عناوين مختلفة، بما في ذلك تغيير مكان التفاوض من جدة إلى سويسرا.
هزائم الدعم السريع
تحول ميزان المعركة منذ اشهر قليلة لصالح الجيش وأصبح زمام المبادرة بيده، وحقق انتصارات متتالية عسكرية وسياسية، عسكريا تمكن من تحرير مناطق مهمة في العاصمة وولاية سنار وتقدما في محور ولاية الجزيرة، أما سياسيا، فقد انحازت مجموعة من مستشاري الدعم السريع إلى الجيش فضلا عن تسليم قائد الدعم السريع في ولاية الجزيرة وقيادته العمليات العسكرية ضد رفاق الأمس، كما فشل الدعم السريع في السيطرة على الفاشر رغم المحاولات التي لا تحصى مع فقدانه لعدد غير قليل من قياداته العسكرية في كافة الجبهات، كل هذا دفع الحلفاء السياسيين للدعم السريع والمتمثلة في ” تقدم ” وهي قوى الحرية التغيير بعد تغيير اسمها وتطور خطابها وتوقيعها وثيقة تحالف مع الدعم السريع، دفعها للبحث عن طرق لإيقاف أي احتمال لهزيمة الدعم السريع واستخدمت علاقاتها لتمارس الضغط على حلفائها لاستصدار قرار بالتدخل.
أبعاد القرار
على الرغم من أن مشروع القرار البريطاني الذي تبنته معها سيراليون، سبقته تقارير للأمم المتحدة تحذر من تفاقم الأوضاع، وتضرر المدنيين من ذلك ومطالبة بعض الدول بالتدخل العسكري لحماية المدنيين، إلا أن الأمين العام في آخر تقاريره في 21 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي التي اعترف فيها بأن الظروف في الوقت الحاضر غير ملائمة لنجاح عملية ابتعاث قوة من الأمم المتحدة لحماية المدنيين في السودان ، ورغم ذلك دفعت بريطانيا بمشروع القرار الذي دعا لوقف إطلاق النار تحت عنوان حماية المدنيين:
- نشر قوات دولية تحت ذريعة حماية المدنيين يعتبر انتهاكا وتقويضا للسيادة السودانية، وهو ما ترفضه الحكومة السودانية، فضلا عن أن الجهة المسؤولة والتي يجب أن يتم التنسيق معها هي الحكومة السودانية، إضافة إلى أن المدنيين يتضررون في المناطق التي تسيطر عليها قوات مليشيا الدعم السريع، ويلجؤون إلى المناطق التي يسيطر عليها الجيش، ولذا تحتج الحكومة السودانية بأن المطلوب هو لجم مقاتلي الدعم السريع وليس الجيش.
- عملية إيقاف الحرب أمر تتفق عليه الأطراف ولكن في الوقت الراهن تدفع الجهات التي تتبنى القرار لإنقاذ الدعم السريع من الانهيارات المتتالية وخوف انحساره دون أن يحقق شيئا، إضافة إلى إضفاء الشرعية وحجز مقعد لها في المعادلة السياسة في الترة التي الحرب وتبرز هنا مطالب الحكومة السودانية بتنفيذ مقررات اتفاق جدة الذي نص على إخلاء الأعيان المدنية ومنازل المواطنين التي حولها الدعم السريع إلى منصات إطلاق وميادين حرب، وهي الورقة التي طالما رفعتها في وجه كل من دعا إلى وقف إطلاق النار، وتسيطر على معسكر الجيش ومناصريه فكرة طرد الدعم السريع من المدن التي استولت عليها وبدء أي نوع من التفاهم بعدها.
- طالب السودان في سياق القرار إدانة القوى الإقليمية التي تقدم كلما من شأنه استمرار الحرب وتغذي عملية إدامة الحرب في السودان وهي دولة الإمارات العربية المتحدة، ولكن لم يلق تجاوبا، ما يعني تأييد القوى التي تتبنى القرار لاستمرار الحرب التي تحقق نصرا للمليشيا، وتعطيها مزيدا من فرص التمدد والبقاء.
دلالات الفيتو الروسي
الملفت في الفيتو الروسي هو أنه لأول مرة تستخدم روسيا الفيتو لصالح السودان، وقد مرت على السودان ظروف أدق وأسوأ في فترات سابقة، وكانت روسيا في مجلس الأمن الدولي، ولكن للتوجه الروسي باستخدامه الفيتو هذه المرة دلالات مهمة سيكون لها ما بعدها، نستعرضها واحدة بعد أخرى:
- يُفهَمُ الفيتو الروسي في سياق الصراع الدولي على إفريقيا وتضارب المصالح بين القوى المتنافسة على إفريقيا، إضافة إلى الضغوط التي تمارسها الدول الغربية على روسيا في الحرب الدائرة مع أوكرانيا، وبدا ذلك واضحاً في الردود والتعليقات التي أبدتها السفيرة الأمريكية ليندا توماس غرينفيلد حيث قالت أن استخدام روسيا حق النقض صادم، وأن روسيا على مدى أشهر عرقلت ووقفت في طريق تحريك المجلس لمعالجة الوضع الكارثي في السودان، أما وزير الخارجية البريطاني الذي تراس اجتماع مجلس الأمن علق قائلا هذا الفيتو الروسي عار، وبالمعايير الدبلوماسية فإن روسيا وجهت صفعة قوية للمعسكر الغربي، وسجلت هدفا يرجح لها كفة اللعب في المربع الخاص به، ونال كرت مرور أخضر في الساحة الإفريقية.
- يعتبر ما قامت به روسيا تحولا دبلوماسيا كبيراً في سياستها الإقليمية، ومعادلة محسوبة في سياق خدمة مصالحها الاستراتيجية في إفريقيا، يحقق لها أهدافا عديدة ويحمي مستقبل نفوذها في القارة السمراء، ويتيح لها فرص التمدد مستقبلا، فضلا عن كونه إثبات لمبدأ رفض الهيمنة الغربية على السياسة الدولية، وهو ما يطمئن أطرافا دولية كثيرة.
- الفيتو الروسي يبعث برسائل عديدة في بريد الأفارقة، ليس اقلها تطمينهم بأن روسيا شريك حقيقي للأفارقة، وعلى استعداد لفعل الكثير من أجلهم، وأن هذا الفيتو دليل إثبات للشراكة مع إفريقيا، واستعدادها لتحرير إفريقيا من بقايا الاستعمار الغربي الذي ما يزال يعبث بمصالح الشعوب الإفريقية واستغلالها من أجل مصالحه الاستعمارية، دون مراعاة للدول الإفريقية وسيادتها وسيفتح لروسيا أفاقا جديدة في إفريقيا وهو ما تسعى لتحقيقه هناك، وقد أكد النائب الأول للمثل الدائم لروسيا في مجلس الأمن أنهم لن يترددوا في مواصلة استخدام حق النقض لمنع سيناريوهات من شأنها ان يكون لها عواقب وخيمة على الأشقاء الأفارقة
- يقدم الفيتو الروسي دعما قويا للسودان على خارطة الدبلوماسية الدولية، ويعيد له اعتبار مهما، بوجود حليف قوي في مواجهة الاستهداف الغربي ومحاولة إعادة تشكيل وصياغة أوضاعه بما يحقق المصالح الغربية، إضافة إلى توفير فرص كبيرة لترتيب أوراقه الداخلية، وإعادة رسم سياسته على المستوى الإقليمي والدولي، ويأتي في مقدمتها التعامل مع مقتضيات المرحلة فيما يخص أجندة حسم المعركة الدائرة مع الدعم السريع، وترتيب أوراق اليوم التالي والذي يعتبر أكثر تعقيدا من الحرب نفسها.
- يقدم الفيتو الروسي أوراق اعتماد للشراكة مع القارة الإفريقية، ويقدم حوافز تفتح الطريق للأفارقة إلى الكرملين، في مواجهة الضغوطات الغربية لكبح انفتاحهم على روسيا، ومحاولات احتكار الموارد الإفريقية وأسواقها، وهذا سيشجع الأفارقة في المزيد من التبادلات مع روسيا، وتعميق الشراكة وبالتالي تحقيق تنويع الشركاء الدوليين بالنسبة للأفارقة ، ما سيعمل على تحرير القرار الإفريقي شيئا فشيئا.
شراكة حقيقة ومكاسب فورية
يدرك المراقب للعلاقات الروسية السودانية في الفترة الأخيرة، التطور الملحوظ في التقارب بين البلدين بعد فترة اتصفت بعدم الوضوح منذ سقوط نظام البشير الذي لجأ لروسيا وهو يعالج اللحظات الأخيرة في عمره، كما يلاحظ التأكيدات الروسية بالاعتراف بالجهات السيادية التي تحاول عدد من الأطراف المساوة بينها وبين مليشيا الدعم السريع، وفي ظل الظروف التي يمر بها السودان منذ تفجر الحرب اتخذ قرار للبحث عن حلفاء فالتقت مصالح الطرفين لتعزيز شراكة حقيقة رغم التحديات التي تواجهها واعتمد السودان روسيا كشريك رئيسي في عدد من المشروعات الاستراتيجية.
سجل وفد من وزارة الطاقة والنفط السودانية زيارة إلى روسيا للتفاوض حول مشروعات الشراكة مع الشركات الروسية مثل زابروج وغاز بروم وشركة جنوب روسيا في مجالات النفط والغاز وبناء مصافي البترول، وتحقق التالي:
- ألغت الحكومة السودانية شركة شلمبر جير الأمريكية ليتم استبدالها بثلاث شركات روسية وهي: “زابروج نفط” و “غاز بروم” و وشركة جنوب روسيا في مجال النفط والغز
- منح روسيا امتياز بناء مصفاة جديدة وإنشاء خط أنابيب لنقل البترول ” مدني ــ سنار ــ ربك ” وخط أنابيب ” بورتسودان ــ القضارف ــ القلابات ” هذا غير التسليح وتزويد السودان بالبترول والغاز وغيره من الاحتياجات الضرورية في الوقت الراهن.
مع بقاء المطلب الروسي بمحطة تزود لسفنها وهو تخفيف لمصطلح قاعدة بحرية لتجنب إثارة المنافسين الغربيين، الذين يمارسون ضغوط مختلفة على الحكومة السودانية.
خاتمة
احتفل السودانيون كل على طريقته للموقف الروسي التاريخي الذي عطل مشروع التدخل وشرعنة المليشيا، لتدخل العلاقات الروسية السودانية مرحلة جديدة ومهمة تتسم بالجدية والالتزام وتفتح للطرفين فرصا تحقق المصالح المتبادلة بعيدا عن ابتزاز السياسات الغربية الاستعمارية، التي يعانيها الطرفين، بسبب الحروب التي تغذيها أو التي يتخادم فيها حلفاء إقليميين تتقاطع مصالحهم معها، فالفرصة أمام السودان كبيرة لترتيب أوراقه وأجندته وإعادة تموضعه الاستراتيجي على مستوى الإقليم والقارة، وسياساته بحسم الملفات الداخلية وتصحيح طرق التعاطي معها بما يفتح مجالا لتشكلات جديدة، كما ان الفيتو يفتح لروسيا أفاقا جديدة في الجيوبوليتيك السوداني والإفريقي معا، وقد نشهد تقدما إيجابيا في كافة المسارات إذا سلمت من العواصف الترامبية الهوجاء.
تحليلات المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات