يتناول هذا المقال النفوذ البحري الصيني في أفريقيا من خلال تطوير موانئ استراتيجية، مع التركيز على آثاره الاقتصادية والعسكرية والبيئية. في ظل سعي الصين لتوسيع نفوذها العالمي، أصبحت أفريقيا منطقة حيوية لتأمين طرق التجارة البحرية، وتعزيز النفوذ العسكري، ولتأكيد الهيمنة في المياه الدولية. ومن خلال رسم خريطة لتطوير الموانئ التجارية والعسكرية الرئيسية الصينية في القارة، يستكشف المقال الاستراتيجية المزدوجة للصين المتمثلة في تعزيز التجارة الاقتصادية من خلال البنية التحتية للموانئ مع تعزيز وجودها العسكري في الوقت نفسه. كما يبحث المقال دور الصين المتنامي في مصايد الأسماك الأفريقية، حيث أصبح الصيد الجائر مصدر قلق بالغ. كما يركز على استثمارات الصين الاستراتيجية في الموانئ، مثل القاعدة العسكرية في جيبوتي وميناء مومباسا، إلى جانب أهدافها الجيوسياسية الأوسع. ويؤكد في النهاية على أن الأنشطة البحرية للصين في أفريقيا تمثل نهجا متعدد الجوانب لتعزيز قوتها ونفوذها العالميين في القرن الحادي والعشرين.
مقدمة
يتجاوز نفوذ الصين المتنامي في أفريقيا الاستثمارات البرية والعلاقات الدبلوماسية ليصل إلى حضور بحري بارز. يُبرز توسع الموانئ والقواعد البحرية الصينية وسيطرتها على مصايد الأسماك الرؤية الاستراتيجية لبكين لتعزيز هيمنتها البحرية. يستكشف هذا المقال القوة البحرية الصينية في أفريقيا من خلال أربعة أبعاد رئيسية: (1) التطوير الاستراتيجي للموانئ، (2) النفوذ الاقتصادي من خلال التجارة البحرية والبنية التحتية، (3) التوسع العسكري والوجود البحري، و(4) دور الصين في مصايد الأسماك الأفريقية ومخاوف الصيد الجائر.
رسم خريطة تطوير الموانئ الاستراتيجية الصينية في أفريقيا
يعكس توسع نفوذ الصين في أفريقيا، لا سيما من خلال تطويرها الاستراتيجي للموانئ، طموحاتها الجيوسياسية والاقتصادية الأوسع. منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، استثمرت الصين بكثافة في مشاريع البنية التحتية في جميع أنحاء القارة الأفريقية، مع التركيز على المرافق البحرية. إذ تخدم هذه الموانئ أغراضا اقتصادية وعسكرية، مما يسهل تدفقات التجارة الصينية، ويؤمن الطرق البحرية، ويعزز نفوذها العالمي.
ويعد تأمين الوصول إلى الموارد الطبيعية الحيوية، مثل النفط والمعادن والمنتجات الزراعية، أحد الأهداف الرئيسية لتطوير الموانئ الصينية في أفريقيا، لدعم اقتصادها المتنامي باستمرار. ومن أبرز الموانئ التي تدعمها الصين ميناء لامو في كينيا (شيد سنة 2012)، وهو جزء من ممر النقل بين ميناء لامو وجنوب السودان وإثيوبيا (LAPSSET)، والذي يهدف إلى فتح باب الوصول للدول غير الساحلية إلى المحيط الهندي. بالإضافة إلى ذلك، يعد ميناء جيبوتي مركزا محوريا لمبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI)، التي تربط آسيا بأفريقيا وأوروبا. ويمثل توسيع ميناء تنزانيا-زنجبار وميناء تانجونج بيليباس في موريشيوس مثالين على الجهود الصينية للسيطرة على طرق التجارة الرئيسية.
وإلى جانب تعزيز هذه الموانئ للعلاقات الاقتصادية، فإنها تُسهل أيضا الوجود البحري الصيني. وقد استثمرت شركة الصين القابضة للموانئ الخارجية (COPHC) في مشاريع موانئ عسكرية مثل قاعدة جيبوتي، أول منشأة عسكرية خارجية للصين، مما يُرسخ نفوذ الصين في المياه الاستراتيجية لأفريقيا. كما تسمح القاعدة للصين بفرض قوتها في منطقة القرن الأفريقي والسيطرة على الممرات البحرية الحيوية للتجارة العالمية.
ومع ذلك، يثير النفوذ البحري الصيني مخاوف، لا سيما بشأن قضايا مثل الصيد الجائر، حيث تستغل السفن الصينية الثروة السمكية في أفريقيا. بالإضافة إلى الأثار التي سيخلفها وجود الأصول العسكرية الصينية مخاوف من تزايد عسكرة المياه الأفريقية، مما سينعكس على تقاطع القوة الاقتصادية والاستراتيجية العسكرية في طموحات الصين.
التأثير الاقتصادي من خلال التجارة البحرية والبنية التحتية:
تهيمن الاستراتيجية الاقتصادية للصين على القطاع البحري في أفريقيا من خلال مزيج من استثمارات البنية التحتية، والقروض الميسرة، والسيطرة اللوجستية طويلة الأجل. ويهدف طريق الحرير البحري (MSR)، وهو ركيزة أساسية لمبادرة الحزام والطريق (BRI)، إلى إنشاء شبكة من الطرق التجارية التي تربط أفريقيا بالصين ومناطق أخرى، مما يقلص من نفوذ القوى الغربية على ممرات الشحن العالمية. وقد مكنت هذه المبادرة الصين من توسيع نطاقها الاقتصادي من خلال الاستثمار في موانئ رئيسية على طول الساحل الأفريقي، مما يسهل بدوره التجارة بين الصين والقارة الأفريقية.
وتدير الشركات الصينية المملوكة للدولة، مثل شركة هندسة الموانئ الصينية وشركة موانئ التجار الصينية القابضة، العديد من الموانئ الأفريقية الحيوية. على سبيل المثال، يعزز استثمار الصين في ميناء جيبوتي، من خلال الشركة القابضة الصينية للموانئ الخارجية (COPHC)، وصول الصين إلى طرق الشحن الاستراتيجية في البحر الأحمر والقرن الأفريقي. وبالمثل، يضمن الاستثمار الصيني في ميناء مومباسا بكينيا وميناء والفيس باي في ناميبيا سيطرة الصين على جزء كبير من شبكة اللوجستيات البحرية في أفريقيا.
ويمتد حضور الصين في الموانئ الأفريقية ليشمل تحديث البنية التحتية للموانئ، بما في ذلك أتمتة مناولة البضائع وتطوير صناعات بناء السفن المتقدمة. يعزز هذا التفوق التقني النفوذ البحري الصيني من خلال جعل الموانئ الأفريقية أكثر تنافسية على الساحة العالمية، مع ترسيخ دور الصين كشريك تجاري رئيسي. وعلاوة على ذلك، تتيح هذه الاستثمارات للصين ضمان وصول تفضيلي إلى الموارد الأفريقية الحيوية، مثل النفط والمعادن والمنتجات الزراعية.
التوسع العسكري والوجود البحري الاستراتيجي:
لا يقتصر التوسع البحري الصيني في أفريقيا على الموانئ التجارية فحسب، بل يشمل أيضا التمركز العسكري الاستراتيجي. وأبرز مثال على ذلك هو أول قاعدة عسكرية خارجية للصين في جيبوتي، التي أُنشئت عام 2017. حيث تعزز هذه القاعدة قدرة الصين على إبراز قوتها في منطقة القرن الأفريقي، وتأمين خطوط الاتصالات البحرية، ودعم عمليات مكافحة القرصنة. وتشير القاعدة العسكرية في جيبوتي، القادرة على استضافة سفن حربية كبيرة وإيواء أكثر من 10 آلاف جندي، إلى طموحات الصين العسكرية طويلة الأمد في المنطقة. ويخدم توسع الوجود العسكري الصيني من خلال الموانئ ذات الاستخدام المزدوج أغراضا تجارية وعسكرية في آن واحد.
وقد أثارت موانئ مثل باجامويو (تنزانيا) وخليج والفيس (ناميبيا) مخاوف بشأن استخدامها المحتمل من قبل البحرية الصينية في المستقبل. وتتماشى هذه التطورات مع استراتيجية الصين “الدفاع عن البحار البعيدة”، التي تسعى إلى توسيع نطاق نفوذها البحري إلى ما وراء بحر الصين الجنوبي وصولا إلى المحيط الهندي.
وعلاوة على ذلك، تُشارك الصين في تعاون عسكري مع الدول الأفريقية، يشمل مبيعات الأسلحة، والتدريبات المشتركة، والدبلوماسية البحرية. وتظهر زياراتها البحرية إلى نيجيريا ([1]) وجنوب أفريقيا ([2]) اهتمامها الاستراتيجي بترسيخ نفوذها على طول السواحل الأفريقية. وبينما تصور الصين وجودها البحري على أنه يدعم الاستقرار الإقليمي، فلا تزال القوى الغربية والأطراف الأفريقية المعنية حذرة بشأن نواياها بعيدة المدى.
دور الصين في مصايد الأسماك الأفريقية ومخاوف الصيد الجائر
تلعب الصين دورا مهيمنا في صناعة صيد الأسماك في أفريقيا، سواء كمستثمر أو كمستهلك رئيسي للمأكولات البحرية. تعمل أساطيل الصيد الصينية، وخاصة سفن الصيد في أعماق البحار، على نطاق واسع على طول سواحل المحيطين الأطلسي والهندي في أفريقيا، وغالبا ما يتم ذلك في إطار مشاريع مشتركة مع الحكومات المحلية. ومع ذلك، أدت المخاوف بشأن الصيد الجائر، والصيد غير القانوني وغير المبلغ عنه وغير المنظم (IUU)، واستنزاف الموارد البحرية، إلى تزايد التوترات بين الصين والدول الأفريقية.
حجم عمليات الصيد الصينية
تمتلك الصين أكبر أسطول صيد في المياه البعيدة في العالم، بأكثر من 17,000 سفينة – يعمل العديد منها قبالة سواحل غرب وشرق أفريقيا. وتشير التقارير إلى أن حوالي 75% من الصيد الصناعي في غرب أفريقيا تقوم به سفن أجنبية، وتمثل الصين الأغلبية.
الفوائد الاقتصادية مقابل الاستغلال
وقّعت الصين اتفاقيات مصائد أسماك مع دول مثل السنغال وغانا وموريتانيا، مقابل توفير البنية التحتية والحوافز المالية. ومع ذلك، غالبًا ما يواجه الصيادون المحليون صعوبة في المنافسة، مما يؤدي إلى صعوبات اقتصادية في المجتمعات الساحلية.
الصيد الجائر واستنزاف الموارد
وفقا لمؤسسة العدالة البيئية (EJF)، غالبا ما تتجاوز سفن الصيد المرتبطة بالصين حصصها، مستهدفةً أنواعًا حيوية للأمن الغذائي المحلي. في غانا، على سبيل المثال، يكلف الصيد غير القانوني الذي تقوم به السفن المملوكة للصين البلاد ما يُقدر بـ 50 مليون دولار سنويا من الإيرادات المفقودة.
وان كانت الصين تقدم استثمارات اقتصادية في مصائد الأسماك الأفريقية، إلا أن العواقب البيئية والاقتصادية للصيد الجائر أثارت تدقيقًا متزايدًا. وتتعرض الحكومات الأفريقية الآن لضغوط لتنظيم الأساطيل الأجنبية بشكل أكثر صرامة وحماية أنظمتها البيئية البحرية.
الخلاصة
في الختام، يعكس التطوير الاستراتيجي للموانئ الصينية في أفريقيا نفوذها وطموحاتها المتنامية في القارة. فمن خلال الاستثمارات في البنية التحتية البحرية الرئيسية، عززت الصين هيمنتها الاقتصادية، لا سيما من خلال تأمين الوصول إلى الموارد الحيوية والتحكم في طرق التجارة الأساسية. ولا تقتصر موانئ مثل جيبوتي ومومباسا ولامو على كونها مراكز حيوية للتجارة بين أفريقيا وآسيا فحسب، بل تسهل أيضا الوجود العسكري الصيني، مما يعزز مكانتها الاستراتيجية في المنطقة.
وعلاوة على ذلك، فإن انخراط الصين في مصايد الأسماك الأفريقية، على الرغم من فوائده الاقتصادية، يثير مخاوف بشأن الصيد الجائر واستنزاف الموارد البحرية المحلية. وقد أدى توسع النفوذ البحري الصيني، إلى جانب امتداده الاقتصادي، إلى إعادة تشكيل ديناميكيات المياه الأفريقية، مما أدى إلى ظهور فرص وتحديات في آن واحد.
كما تجسد الاستراتيجية البحرية الصينية في أفريقيا هدفها الأوسع المتمثل في ترسيخ الهيمنة العالمية من خلال مزيج من النفوذ الاقتصادي والقوة العسكرية والبنية التحتية البحرية، مما يُعيد تشكيل الجغرافيا السياسية للقارة لسنوات قادمة.
قائمة المراجع
* Baroudi, S. (2019). China’s Growing Naval Presence in Africa: Economic and Strategic Implications. Africa Review, 12(1), 51-65.
* Erickson, A. & Kennedy, C. (2021). China’s Maritime Strategy in Africa: Expanding Influence through Dual-Use Ports. Naval War College Review, 74(3), 45-67.
* Kaplinsky, R., & Morris, M. (2020). China’s Role in Africa: Globalization, Investment, and Trade. Cambridge University Press.
* Larkin, J., & Gibbons, J. (2017). China’s Maritime Expansion in Africa: Implications for U.S. Strategy. Journal of Strategic Studies, 40(3), 254-276.
* Rolland, N. (2019). China’s Vision for a New World Order. The National Bureau of Asian Research.
* Sautman, B., & Yan, H. (2019). China’s Engagement in Africa: A Strategic Perspective. Journal of International Economics, 34(2), 238-254.
* Singh, A. (2020). China’s Military Base in Djibouti: Strategic Implications for the Indian Ocean Region. ORF Occasional Paper No. 256. Observer Research Foundation.
[1] – نيجيريا في جويلية 2023: وصل أسطول بحري صيني بقيادة المدمرة ناننينغ إلى لاغوس في زيارة استغرقت خمسة أيام. ومثّلت هذه الزيارة مناسبة نادرة للجيش الصيني في ساحل غرب إفريقيا الأطلسي. وأشاد السفير الصيني لدى نيجيريا تشي تشون، بهذه الزيارة باعتبارها علامة فارقة في العلاقات الثنائية بين البلدين.
[2] – جنوب إفريقيا جويلية 2023: بعد زيارتها لنيجيريا، واصل الأسطول البحري الصيني رحلته إلى جنوب إفريقيا. وهدفت الزيارة إلى تعزيز التعاون البحري بين البلدين.
تحليلات المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات