تتناول هذه المقالة صعود الجماعات المسلحة في جميع أنحاء أفريقيا، وتقيم الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ساهمت في تهيئة الظروف اللازمة لظهورها. وتبين أن جوانب مختلفة من هشاشة الدولة، بما في ذلك ضعفها أمام مستويات الفقر، والمظالم الاجتماعية والتاريخية، مثلت ظرفية مثالية لظهور التمردات. وتظهر دراسات الحالة، بما في ذلك بوكو حرام، وحركة الشباب، وجيش الرب للمقاومة، وبعض التحالفات الجهادية في منطقة الساحل، أوجه التآزر التي أوجدتها الظروف المجتمعية المحلية والظروف الإقليمية التي شكلت العنف في كل منطقة.
منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين شهدت القارة صعود الجماعات المسلحة في العديد من مناطقها. فبعيد تراجعها في أواخر التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عاجت النشطات المسلحة إلى الواجهة مرة أخرى حوالي عام 2010. وتستحوذ أفريقيا حاليا على الحصة الأكبر من عدم الاستقرار العالمي، فهناك أكثر من 35 صراعا مسلحا ناشطا في القارة اليوم. وقد شهدت مناطق مثل منطقة الساحل وحوض بحيرة تشاد والقرن الأفريقي والبحيرات العظمى وجمهورية أفريقيا الوسطى أعمال عنف بشكل خاص. ويحذر الخبراء من أن التفجيرات والغارات والهجمات على المدنيين قد ارتفعت بسرعة. تبحث هذه الورقة في سبب ظهور العديد من حركات التمرد والميليشيات المسلحة في أفريقيا منذ عام 2000. وتجادل بأن الضعف المزمن للدولة والحرمان الاقتصادي والانقسامات الاجتماعية معًا تساعد في تفسير صعود جماعات مثل بوكو حرام والشباب وجيش الرب للمقاومة والعديد من الميليشيات في منطقة الساحل وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى. وتستعرض الأقسام التالية العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية للتعبئة، ثم تستعرض دراسات الحالة للجماعات المسلحة الرئيسية، قبل النظر في الأنماط الإقليمية والدولية الأوسع.
العوامل السياسية:
تعتبر المركزية رفقة ضعف الحوكمة، وهشاشة الدولة دافعين أساسيين لظهور الجماعات المسلحة. فالعديد من الحكومات الأفريقية لا تمتلك السلطة ولا الامكانيات لتأمين أراضيها أو تقديم خدمات خارج العواصم أو المدن الكبرى. وكما يشير أحد التحليلات، فإن “القدرة المحدودة لعدة ولايات على تقديم حتى الخدمات العامة الأساسية، بدءًا من الأمن”،[1] وخاصة في المناطق الريفية، قد خلفت مناطق شاسعة. في مثل هذه المساحات، يمكن للجماعات غير الحكومية أن تتدخل وتعوض هي فراغ الذي تركته الدولة سواء كان أمنيا أو حتى اقتصاديا أو سياسيا. ويفاقم الفساد المستشري هذه المشكلة بتقويضه للشرعية، وعلى حد تعبير محللي كارنيغي، “يُقوّض الفساد شرعية الحكام، مقدما أداة تجنيد قوية للجماعات المسلحة”[1]. وتثير الحكومات التي ينظر إليها على أنها استغلالية أو غير فعالة سخط الأهالي وانعدام الثقة بها.
فعلى سبيل المثال، لطالما اتسمت منطقة الصراع في شمال شرق نيجيريا بفجوات مزمنة في الخدمات وإفلات النخب من العقاب. ويؤكد المراقبون أنه لا يمكن هزيمة بوكو حرام بالقوة وحدها لأن المنطقة تعاني من “ضعف مزمن في تقديم الخدمات وفساد في الحكم”[1]. إلى أن يتم إصلاح العقد الاجتماعي أي إلى أن يرى المواطنون الدولة توفر لهم التعليم والرعاية الصحية والعدالة ولأمن، ويمكن لمجندي المتمردين استغلال المظالم.
فقد تؤجج فراغات السلطة والاضطرابات السياسية التمردات. ويولد سقوط الأنظمة والانقلابات فوضى تستغلها الجماعات المسلحة. وعلى سبيل المثال، أطلق انهيار ليبيا عام 2011 العنان لمخابئ أسلحة ومقاتلين هائلة عبر الصحراء. وجلب مقاتلو الطوارق العائدون، المتحالفون منذ فترة طويلة مع القذافي، هذه الأسلحة إلى مالي وأعادوا إشعال انتفاضة انفصالية في شمال عام 2012. وسرعان ما فكك جيش مالي نفسه: أطاح انقلاب عسكري في مارس 2012 بالحكومة، وتخلت القوات المالية عن الشمال، مما سمح للمتمردين الأزواد وجهادي القاعدة بالاستيلاء على غاو وكيدال وتمبكتو.[2]
وحدث نمط مماثل في جمهورية إفريقيا الوسطى، حيث خلق انقلاب متمردي سيليكا عام 2013 فراغا ظهرت فيه ميليشيات مسيحية “أنتي بالاكا” في أعمال انتقامية طائفية. وشهد شرق الكونغو صراعات على السلطة: فبعد سنوات من ضعف الحكم، تعمل أكثر من 100 جماعة مسلحة بحرية في إيتوري وكيفو.
باختصار، تُتيح الانقلابات، وحملات مكافحة التمرد الفاشلة، وانهيار مؤسسات الدولة فرصا فورية لتشكيل الميليشيات والاستيلاء على الأراضي.[3]
العوامل الاقتصادية
تعد الصعوبات الاقتصادية والتنافس على الموارد من العوامل الرئيسية الأخرى. فالعديد من المناطق المتضررة تعاني من فقر مدقع. ففي جمهورية الكونغو الديمقراطية، على سبيل المثال، يعيش أكثر من 70% من السكان على أقل من 1.90 دولار أمريكي يوميا؛[4] وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، تعيش نسبة مماثلة في فقر مدقع.
هذا إلى جانب انتشار البطالة وانعدام الفرص العمل المتاحة للشباب، حيث تؤكد دراسة حديثة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول مجندي الجماعات المتطرفة أن السبب الرئيسي للانضمام هو “الأمل في إيجاد عمل” وبأن حوالي 25% من المقاتلين تتعلق دوافعهم بفرص العمل، أكثر بكثير من الدوافع الأيديولوجية[5]. وغالبا ما تساهم محدودية سبل العيش، إلى جانب انتهاكات الدولة، في دفع الأفراد نحو الجماعات المسلحة.
كما يمكن للموارد الطبيعية أن تمول الصراعات أو تفاقمها. وغالبا ما يتصادم الفلاحون والرعاة بسبب تناقص الأراضي أو المياه، ويستغل المتطرفون هذه النزاعات كأرض خصبة للتجنيد. في الوقت نفسه، تستفيد العديد من الميليشيات بشكل مباشر من الاقتصادات غير المشروعة. على سبيل المثال، أدى “التعطش للمعادن” في جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى “إشعال صراعات عنيفة”. وتدير الفصائل المسلحة مناجم الذهب والكولتان، أو تتاجر بالعاج والفحم، لتمويل عملياتها. وفي غرب أفريقيا، تفرض الجماعات الجهادية الضرائب أو تهرب من مناجم الذهب ومخابئ الأسلحة. وعندما لا يقدم الاقتصاد الرسمي سوى القليل، يوفر الاقتصاد غير المشروع الدخل[1].
وباختصار، إن الفقر وعدم المساواة والتنافس على الموارد يوفر بيئة خصبة للمتمردين والمتشددين، حيث قد تقايض الفئات الضعيفة العمل أو الولاء مقابل حصة من غنائم الحرب أو وعد براتب.
العوامل الاجتماعية:
تساهم المظالم الاجتماعية وخاصة الانقسامات العرقية والتهميش المجتمعي في صعود الجماعات المسلحة وتعمل على ترسيخ جذورها. وتدور العديد من الصراعات في أفريقيا حول هويات محددة. ففي شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، على سبيل المثال، ساهمت عقود من التوترات العرقية على الأرض والمكانة الاجتماعية على تصاعد أعمال العنف. وتفيد منظمة أطباء بلا حدود بأن حرب الشمال الشرقي “مدفوعة بتوترات عرقية وصراع على الموارد”، وتضم المنطقة “أكثر من 100 جماعة مسلحة”[6].
وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، يتخذ العنف بعدا طائفيا واضحا: فقد أشعل وصول تحالف سيليكا ذو الأغلبية المسلمة إلى السلطة شرارة ميليشيات مسيحية (“أنتي بالاكا”)، واستهدف كل جانب مجتمعات الآخر. وفي شمال نيجيريا، تستغل جماعة بوكو حرام مشاعر الاستياء بين المسلمين الشماليين والمسيحيين الجنوبيين (حتى مع أن مقاتليها هم في الغالب من الشباب العاطلين عن العمل في المنطقة). وفي الصومال، تمتزج الهوية العشائرية والأيديولوجية السلفية المتشددة في خطاب حركة الشباب، مما يجذب أولئك الذين يشعرون بالإقصاء من حكومة مركزية ضعيفة.
وفي جميع هذه الحالات، تعطي الانقسامات الاجتماعية القائمة للمتمردين أوصافا جاهزة (مثل “أعداء الإسلام” أو “الخونة”) لتبرير العنف ضد الجماعات المنافسة. كما يلعب التهميش والظلم دورا كبيرا. ويأتي العديد من المجندين من مناطق هامشية أو مجتمعات محرومة.
وتشير دراسة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن ما يقرب من 50% من المسلحين انضموا بعد حدث “محفز” محدد، وحيث أن 71% منهم إن انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها قوات الدولة دفعتهم إلى حافة الهاوية.[5] وبعبارة أخرى، غالبا ما تتفوق المظالم الشخصية أو الجماعية مثل وحشية الأجهزة الأمنية، والتعذيب أثناء الاحتجاز، أو مذبحة التي تستهدف المدنيين على الأيديولوجية المجردة باعتبارها القشة التي قصمت ظهر البعير. يساعد هذا في تفسير سبب عدم إلمام العديد من المقاتلين بالدين إلا بشكل سطحي؛ والعديد منهم يعترف بأنه انضم لأسباب اقتصادية أو انتقامية أكثر منها عقائدية.
ومع ذلك، فإن الأفكار المتطرفة والدين يساعدان بناة الجماعات على التعبئة وإضفاء الشرعية على القتال. وتركز جماعات مثل حركة الشباب وبوكو حرام على سرديات الجهاد العالمية (على سبيل المثال، تدعو حركة الشباب إلى “صومال أكبر” في ظل الشريعة الإسلامية)، والتي تجذب التمويل والكوادر الأجنبية. باختصار، تشكل خطوط الصدع الاجتماعية والظلم المتصور من ينضم ولماذا: يمكن أن ينجذب الشباب ذوو الآفاق المحدودة في المناطق المهملة إلى القتال بسبب مزيج من المظالم المحلية والأيديولوجية المتطرفة.
وقد أصبحت الهجمات على المدنيين أمرا شائعا، مما يؤجج النزوح والخوف. ففي العديد من مناطق الصراع، يتحمل السكان نزوحا جماعيا وجوعا وانهيارا في الخدمات الاجتماعية، وهي ظروف تغذي بدورها دورات العنف، مما يؤكد أن الاضطراب الاجتماعي والمعاناة الإنسانية يسيران جنبا إلى جنب مع صعود الجماعات المسلحة.
دراسات حالة لجماعات بارزة:
بوكو حرام (نيجيريا وحوض بحيرة تشاد). بوكو حرام حركة تمرد إسلامية ظهرت في شمال نيجيريا حوالي عام 2002، وتحولت إلى جماعة مسلحة بعد عام 2009. وكان أحد أبرز أسباب تحولها إلى السلاح واصطدامها مع السلطة التعاطي الأمني الوحشي للسلطات النيجرية معها وطريقة مقتل مؤسسها الداعية نحمد يوسف، رفقة استياء أهالي في مناطق الشمالية من التهميش والمظالم الاجتماعية لسكان الشمال ذوي الغالبية المسلمة. وبحلول عام 2019، كانت بوكو حرام وفرعها (ولاية غرب أفريقيا التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية) قد “قتلوا عشرات الآلاف من المدنيين وشرّدوا الملايين” في جميع أنحاء نيجيريا، والكاميرون، وتشاد والنيجر.[7]
كما تسعى الجماعة إلى الإطاحة بالحكومة المركزية النيجيرية وفرض الشريعة الإسلامية. وكان المجندون في الغالب من الشباب غير المتعلمين الذين أُغروا بالمال أو أُجبروا بالعنف. كان رد فعل نيجيريا المبكر عسكريا في الغالب؛ وقد انتقد الخبراء هذا لتجاهله الأسباب الجذرية. في الواقع، يؤكد الخبراء أن التخلف التنموي المزمن والفساد في شمال شرق نيجيريا يكمنان وراء الصراع.
إلى أن تتمكن الدولة النيجيرية من توسيع نطاق المساءلة وتوفير فرص العمل لتشمل المنطقة، ستظل بوكو حرام صامدة، ومن الواضح أن الجماعة كان مدفوعا بالمظالم السياسية والاقتصادية والمقاربة الأمنية الوحشية للدولة، وليس بالدين وحده.
حركة الشباب: (الصومال وشرق إفريقيا). ولدت حركة الشباب في خضم الاضطرابات التي أعقبت الحرب الأهلية في الصومال في التسعينيات، وأصبحت قوة جهادية مهيمنة بحلول العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. انبثقت من اتحاد المحاكم الإسلامية ورحبت في البداية بالتدخل الأجنبي (ضد إثيوبيا)، قبل أن تتحول إلى تمرد. واليوم، تعد حركة الشباب واحدة من أقوى الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة.
وهي تسيطر على أراض في جنوب ووسط الصومال وتتنافس عليها، وتشن هجمات في مقديشو وعبر الحدود في كينيا وأوغندا. وتدعو حركة الشباب صراحة إلى إقامة دولة إسلامية (“الصومال الكبير”)، واعدة بالاستقرار والنظام الديني كعامل جذب. والأهم من ذلك، أنها تستغل ضعف الحكومة الصومالية والأزمات الإنسانية المتكررة: وكما يشير أحد التحليلات، فإن حركة الشباب “تواصل استغلال القدرة المحدودة للحكومة الصومالية والأزمات الإنسانية الحادة في البلاد” لشن هجمات[8].
وعلى الرغم من الضغوط العسكرية المكثفة (من قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي والضربات الأمريكية)، فقد أثبتت حركة الشباب قدرتها على الصمود، ويرجع ذلك جزئيا إلى حواضنها الشعبية المتمثلة في شبكات عشائرية وفي المناطق التي فشلت فيها الحكومة المركزية بتقديم خدمات قامت هي بتوقير ذلك. وباختصار، يعد صعود حركة الشباب حالة تضخم فيها الفراغ السياسي والتهميش الاقتصادي الدائم في الصومال من خلال الأيديولوجية الجهادية والتمويل.
جيش الرب للمقاومة (LRA، أوغندا/الكونغو/جمهورية أفريقيا الوسطى). جيش الرب للمقاومة هي ميليشيا قديمة نشأت في منطقة أشولي شمال أوغندا في أواخر الثمانينيات. وقد استندت، جزئيا، إلى مظالم الأشولي ضد حكومة الرئيس موسيفيني. بعد تولي موسيفيني السلطة عام 1986، عانت المجتمعات الشمالية من انتهاكات على يد الجيش الوطني، وشملت عمليات تهجير قسري وأعمال انتقامية مشتبه بها.
وقد دمجت جماعة جيش الرب للمقاومة بقيادة جوزيف كوني هذه الاستياءات بمزيج غريب من التصوف المسيحي؛ حتى أن كوني ادعى انتماءه إلى روح زعيم متمرد سابق. ورغم أن هدف جماعة جيش الرب للمقاومة المعلن كان استبدال حكومة أوغندا، إلا أنها اشتهرت عمليا بإرهاب المدنيين والقتل على الهوية حيث باختطاف ما يصل إلى 30 ألف طفل، وتشويه القرويين، وممارسة طقوس أكل لحوم البشر.
وقد اكتسبت هذه الفظائع سمعة سيئة عالميا، ولكن من المفارقات أن جماعة جيش الرب للمقاومة لم تكتسب شرعية واسعة بين الأوغنديين. [9] وبحلول أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان جيش أوغندا والقوات الإقليمية قد طردت جماعة جيش الرب للمقاومة إلى حد كبير من أوغندا، دافعة فلولها إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وجنوب السودان المجاورة. تظهر قصة جيش الرب للمقاومة كيف يمكن للخطاب الطائفي والقيادة الكاريزمية أن تؤدي إلى تمرد أشبه بالطائفة، حتى مع عزل أيديولوجيته البدائية وحشيته عن الدعم السائد.
تحالفات الجهاديين والانفصاليين في منطقة الساحل الوسطى (مالي، بوركينا فاسو، النيجر)، انتشرت مجموعة من الجماعات الجهادية والجماعات المتمردة العرقية. تعد أزمة 2012-2013 في مالي مثالا واضحا على ذلك. فبعد انهيار ليبيا عام 2011، دخل مقاتلو الطوارق والجهاديون المدججون بالسلاح شمال مالي.
وتعاون الانفصاليون الطوارق (الحركة الوطنية لتحرير أزواد) في البداية مع الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة للاستيلاء على مدن رئيسية. لكن التحالف انقسم، وسرعان ما حاولت الفصائل الإسلامية فرض الشريعة الإسلامية. وفي أوائل عام 2013، وتقدمهم نحو العاصمة المالية تدخلت القوات الفرنسية وتعقبتهم حتى المناطق الشمالية وطردتهم من هناك.
ومع ذلك، كان الجهاديون قد اكتسبوا جذورا بالفعل وحواضن شعبية. ففي السنوات اللاحقة، تشكلت تحالفات جديدة: في عام 2017، اندمجت عدة فصائل تابعة لتنظيم القاعدة في جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، بينما ظهرت في بوركينا فاسو جماعات تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى. وشهدت بوركينا فاسو ومالي كمائن متعددة أسفرت عن خسائر بشرية كبيرة، مما يعكس مدى صعوبة مواجهة قوات الأمن الحكومية لهجمات المتشددين.
وبعد حرب مالي، أصبحت بوركينا فاسو نفسها بؤرة جهادية، اذ نصبت الجماعات الإسلامية (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى) كمائن منتظمة للشرطة والجيش في شمال وشرق بوركينا فاسو وتسيطر حاليا على عديد من الأراضي فيها. ويظهر مثال بوركينا فاسو كيف يمكن قلب حتى التحولات الديمقراطية رأسا على عقب: فبعد عام 2015، وقعت ثلاث انقلابات (2014، 2022، 2023) وسط إحباط من الفساد وفشل جهود مكافحة التمردات.
وواجهت النيجر وتشاد حركات تمرد مماثلة. باختصار، صعود الجماعات المسلحة في منطقة الساحل هو مزيج من التمرد العرقي (استقلال الطوارق)، والأيديولوجية الإسلامية، والفرصة (الموارد القابلة للنهب والمناطق الحدودية غير الخاضعة للحكم). ولا يزال تأثير التعاون الإقليمي محدود (سواء في السابق القوات المشتركة لمجموعة دول الساحل الخمس، وبعثات الأمم المتحدة أو حاليا كونفدرالية دول الساحل الثلاث وقوات فاغنر)، ولا يزال المسلحون يتكيفون مع الضغوط العسكرية.
الأدوار الإقليمية والدولية
تشكل النزاعات المسلحة في أفريقيا خليطا متنوعا من الروابط الإقليمية. وتشير أكاديمية جنيف إلى أن “أفريقيا تأتي في المرتبة الثانية” عالميًا من حيث عدد النزاعات، مع استمرار أكثر من 35 نزاعا مسلحا غير دولي.
وتتركز هذه النزاعات في مناطق قليلة: منطقة الساحل وبحيرة تشاد (مالي، بوركينا فاسو، النيجر، نيجيريا، تشاد)، والقرن الأفريقي (الصومال، إثيوبيا، كينيا)، والبحيرات العظمى (جمهورية الكونغو الديمقراطية، أوغندا)، وأفريقيا الوسطى (جمهورية أفريقيا الوسطى، وأجزاء من الكاميرون). في كل منطقة، تتدخل الدول المجاورة والجهات الفاعلة الدولية والإقليمية بشكل متكرر.
وعلى سبيل المثال، كانت المشاركة الإقليمية كالتالي: دخلت القوات السودانية والتشادية جمهورية أفريقيا الوسطى؛ ودعمت القوات الرواندية جماعة متمردة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ ونشر جنود إثيوبيون في الصومال ضد حركة الشباب.
كما كانت المشاركة الدولية كالآتي: أرسلت فرنسا والأمم المتحدة قوات إلى مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، وتعمل طائرات أمريكية بدون طيار في منطقة الساحل والقرن الأفريقي وعلى قرار إرسال روسيا لمجموعة فاغنر. وتظهر بيانات مشروع بيانات أحداث الصراعات المسلحة (ACLED) أن بوركينا فاسو ومالي ونيجيريا والصومال شهدت جميعها تدخلا عسكريا أجنبيا كبيرا. [10]
وكل هذا امتداد وإفرازات للأحداث العالمية والصراعات الدولية إلى أفريقيا، فقد أدت هجمات الحادي عشر من سبتمبر وحرب العراق إلى تحويل “الحرب العالمية على الإرهاب” لتشمل ساحات القتال الأفريقية. وفي وقت لاحق، كان انهيار ليبيا عام 2011 نقطة تحول مهمة: إذ خلفت إطاحة الناتو بالقذافي مخزونات هائلة من الأسلحة والمقاتلين في عداد المفقودين. وارتبط تمرد مالي عام 2012 ارتباطا مباشرا بهذا التدفق للأسلحة والمقاتلين.
وبالمثل، أدت التغييرات السياسية في ليبيا والسودان وساحل العاج إلى انتشار العنف عبر الحدود. وفي الوقت نفسه، يلعب المرتزقة الأجانب دورا الآن. ففي السنوات الأخيرة، بنت شركة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة وجودا في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وموزمبيق، ظاهريا لمحاربة المتمردين مع تعزيز نفوذ الكرملين.
وكما يشير أحد التقارير، فإن فاغنر “لها قوات في أوكرانيا وقاتلت إلى جانب العديد من الحكومات في أفريقيا”. تصطدم هذه القوات الأجنبية أحيانا بالجهاديين، لكنها أيضا تعرضت لانتقادات بسبب انتهاكات حقوق الإنسان وتعميق الشكوك حول نمط استعماري ونهب للقارة جديد.[11]
كما أن عقود من جهود مكافحة الإرهاب التي تبذلها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لم تحل الأزمات الكامنة وراء هذه الصراعات. ووفقا للمحللين، فإن “الانهيار المستمر للدعم الدولي لمكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى ضعف القيادة” في منطقة الساحل، خلق فراغا ملأته الجماعات المسلحة.
وتؤثر الحملات الدعائية التي تشنها قوى خارجية (مثل الرسائل الفرنسية والروسية المتنافسة) بشكل أكبر على التصورات. في بعض الحالات، أدى الاستثمار الأجنبي في البنية التحتية والصناعات الاستخراجية إلى تأجيج الصراع بشكل غير مباشر (مثل الاستياء المحلي من المناجم الصينية في جمهورية الكونغو الديمقراطية). [11] وبالرغم من انتشار بعثات حفظ السلام (الأمم المتحدة/الاتحاد الأفريقي) من السودان إلى الصومال، لكنها غالبا ما تعاني من محدودية التفويضات والهجمات. باختصار، الجماعات المسلحة في أفريقيا هي نتاج وكلاء لسياق عابر للحدود الوطنية: فهي تستغل ثغرات الحدود، وتستفيد من تدفقات الأسلحة، وتتفاعل مع شبكات المسلحة العالمية ومصالح الدول الأجنبية.
الخلاصة
يعكس صعود الجماعات المسلحة في جميع أنحاء أفريقيا خلال القرن الحادي والعشرين إخفاقات وإحباطات متداخلة:
• سياسيا، لا تزال العديد من الدول هشة أو استبدادية، عاجزة عن توفير الأمن أو العدالة على المستوى المحلي.
• اقتصاديا، يواجه ملايين الأفارقة الفقر والبطالة والتنافس على الأراضي أو المعادن الثمينة.
• اجتماعيا، لا تزال المظالم التاريخية، العرقية أو الدينية أو الإقليمية دون معالجة، مما يوفر لعناصر التجنيد المتمردين شعارات جاهزة.
لا تعمل هذه العوامل بمعزل عن بعضها البعض: قد يستاء الشباب الريفي الساخط العاطل عن العمل من دولة فاسدة أو مسيئة، ويجد جماعة مسلحة دينية أو عرقية تعده بالدخل أو المكانة أو الحماية. وكما حذر أحد تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإن أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أصبحت الآن “المركز العالمي الجديد للتطرف العنيف”، حيث تسجل ما يقرب من نصف وفيات الإرهاب في العالم.
ويتطلب كسر هذه الحلقة المفرغة إعادة بناء شرعية الدولة وتوسيع نطاق الفرص. ويؤكد الباحثون أن السلام الدائم يعتمد على “قدرة الدول على تأكيد فائدتها… أو على الأقل منح مواطنيها الأمل بمستقبل أفضل”.
أما من ناحية العملية، يعني هذا حوكمة محلية أقوى، وإصلاحات لمكافحة الفساد، وتنمية اقتصادية، وعمليات مصالحة، إلى جانب جهود أمنية. وفي نهاية المطاف، ما لم يعالج قادة أفريقيا وشركاؤها الدوليون جذور المظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية المذكورة آنفا، سيستمر صعود الجماعات المسلحة الجديدة في نفس المناطق التي تسعى إلى تهدئتها.
قائمة المصادر
[1] “How Can the United States Better Engage with Africa’s Fragile and Conflict-Affected States?” https://carnegieendowment.org/research/2023/03/how-can-the-united-states-better-engage-with-africas-fragile-and-conflict-affected-states?lang=en¢er=india. [2] “Brothers Came Back with Weapons: The Effects of Arms Proliferation from Libya,” https://ndupress.ndu.edu/Media/News/News-Article-View/Article/2106621/brothers-came-back-with-weapons-the-effects-of-arms-proliferation-from-libya/. [3] “Q&A: Democratic Republic of Congo Conflict in North Kivu Province,” https://www.hrw.org/news/2024/09/26/qa-democratic-republic-congo-conflict-north-kivu-province. [4] “Can the Democratic Republic of the Congo’s mineral resources provide a pathway to peace?,” https://www.unep.org/news-and-stories/story/can-democratic-republic-congos-mineral-resources-provide-pathway-peace. [5] “Hope for better jobs eclipses religious ideology as main driver of recruitment to violent extremist groups in Sub-Saharan Africa,” https://www.undp.org/press-releases/hope-better-jobs-eclipses-religious-ideology-main-driver-recruitment-violent-extremist-groups-sub-saharan-africa. [6] “Democratic Republic of Congo conflict,” https://msf.org.uk/issues/democratic-republic-congo-conflict. [7] S. Brechenmacher, “Stabilizing Northeast Nigeria After Boko Haram,” https://carnegieendowment.org/research/2019/05/stabilizing-northeast-nigeria-after-boko-haram?lang=en. [8] “Conflict with Al-Shabaab in Somalia | Global Conflict Tracker,” https://www.cfr.org/global-conflict-tracker/conflict/al-shabab-somalia. [9] “Uprooted and Forgotten,” https://www.hrw.org/report/2005/09/20/uprooted-and-forgotten/impunity-and-human-rights-abuses-northern-uganda. [10] “Geneva academy cookie settings,” https://geneva-academy.ch/galleries/today-s-armed-conflicts. [11] “France targets Russian and Wagner disinformation in Africa,” https://www.reuters.com/world/africa-france-targets-russian-wagner-disinformation-2023-06-21/.
تحليلات المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات