عندما اجتمع أكثر من 40 رئيس دولة إفريقية في واشنطن العاصمة خلال منتدى الأعمال الأمريكي–الإفريقي في ديسمبر 2022م، بدا المشهد وكأنه إعلان رسمي عن دخول الولايات المتحدة مرحلة جديدة من التفاعل الاقتصادي مع القارة. في قاعات المنتدى، تبادلت الوفود التصفيق والتصريحات الدبلوماسية، ورفرفت شعارات الشراكة العادلة والتنمية المشتركة. أعلنت واشنطن عن التزامات تجارية واستثمارية تجاوزت 15 مليار دولار، وأكدت أنها تعود إلى إفريقيا، لا لتنافس أحداً؛ بل لتبني مستقبلاً قائمًا على “الفرص المتبادلة”.
لكن من تابع المنتدى بعيون نقدية، لاحظ أنّ ما قُدِّم في الخطابات ظل متقدماً على ما تحقق في الواقع. المبادرة التي تحركت تحت شعار “ازدهار إفريقيا” (Prosper Africa) جاءت لتعيد ترتيب الحضور الأمريكي في مواجهة زخم صيني كثيف واستراتيجيات روسية متنامية، غير أنها واجهت، منذ لحظة إطلاقها، أسئلة مشروعة حول عمقها، وفاعليتها، وتماهيها مع أولويات التنمية الإفريقية. فبأيّ أدواتٍ ستنافس واشنطن حضوراً بات ماديّاً ومترسخاً في الطرق والموانئ وشبكات الكهرباء؟ وهل تكفي الندوات والمنتديات لإحداث تغيير حقيقي في ميزان الشراكة؟
فانطلاقاً من هذه اللحظة الرمزية، يتناول هذا المقال المبادرة الأمريكية بالتحليل والمساءلة، لا باعتبارها مجرد سياسة خارجية؛ بل بوصفها نموذجًا للتفاعل مع قارةٍ تمتحن نضج الشراكات وقدرة الأطراف الدولية على الإنصات.
وبناء عليه، سيناقش هذا المقال ثلاث قضايا مترابطة، وهي: أولاً، الإطار المفاهيمي والاستراتيجي للمبادرة الأمريكية وأدوات تنفيذها؛ ثانيًا، مقارنتها بالنهج الصيني من حيث الحجم، والمجالات، ودرجة الاستجابة الإفريقية؛ وثالثًا، حدود المبادرة على ضوء الواقع الجيوسياسي ومحدودية الموارد، وما إذا كانت تمثل تحولًا نوعيّاً أم مجرّد استجابة ظرفية لضغوط المنافسة الدولية.
الإطار المفاهيمي والاستراتيجي
تُعدّ مبادرة “ازدهار إفريقيا” تحولاً استراتيجيّاً في السياسة الأمريكية تجاه القارة الإفريقية، إذْ تهدف إلى إعادة صياغة العلاقة بين الطرفين من خلال التركيز على التجارة والاستثمار بدلاً من المساعدات التقليدية. وقد أُطلقت رسميّاً في يونيو 2019م خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب، في منتدى الأعمال الأمريكي–الإفريقي المنعقد في مابوتو، موزمبيق، كجزء من استراتيجية أوسع لإعادة تموضع الولايات المتحدة في إفريقيا ضمن منطق تجاري تقوده السوق.
وجاءت المبادرة لتركز على تحفيز القطاع الخاص الأمريكي باعتباره القوة الدافعة الرئيسية للتنمية، منْ خلال تنسيق جهود 17 وكالة حكومية أمريكية معنية بالتجارة والتمويل والتنمية. وفي ديسمبر 2022م، أعادت إدارة الرئيس جو بايدن إحياء المبادرة وتوسيع نطاقها ضمن قمة القادة الأمريكيين والأفارقة، معلنة عن التزامات تجارية واستثمارية جديدة بقيمة تجاوزت 15 مليار دولار، مع التركيز على مجالات استراتيجية مثل الطاقة النظيفة، والتكنولوجيا، والأمن الغذائي.
فالإطار المفاهيمي للمبادرة يقوم على فكرة أنّ التجارة والاستثمار يمثلان أدوات أكثر فعالية لتحقيق التنمية المستدامة مقارنة بالمساعدات التقليدية. وتسعى المبادرة إلى خلق بيئة تجارية مواتية من خلال دعم الإصلاحات التنظيمية، وتسهيل الوصول إلى التمويل، وتعزيز الشفافية في الأسواق. كما تهدف إلى تعزيز الصادرات الإفريقية إلى الولايات المتحدة من خلال برامج مثل قانون النمو والفرص في إفريقيا (AGOA)، وتقديم الدعم للشركات الصغيرة والمتوسطة في القطاعات الحيوية مثل الزراعة والتكنولوجيا والطاقة.
ومن الناحية الاستراتيجية، تعتمد المبادرة على تنسيق جهود 17 وكالة حكومية أمريكية، بما في ذلك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، ومؤسسة تمويل التنمية الدولية الأمريكية (DFC)، وبنك التصدير والاستيراد الأمريكي (EXIM)، وغيرها. وتنفذ المبادرة من خلال “فِرَق الصفقات” الموجودة في السفارات الأمريكية في إفريقيا، والتي تعمل على ربط الشركات الأمريكية بالفرص الاستثمارية في القارة، وتقديم الدعم الفني والمالي اللازم لإتمام الصفقات.
وعلى الرغم من هذه الجهود، يلاحظ أنّ المبادرة تفتقر إلى التركيز القطاعي الواضح، مما قد يحدّ من فعاليتها في تحقيق أهدافها. كما أنّ الاعتماد الكبير على القطاع الخاص الأمريكي قد لا يتماشى مع الاحتياجات التنموية لبعض الدول الإفريقية، التي تتطلب استثمارات طويلة الأجل في البنية التحتية والتعليم والصحة.
من منظور إفريقي، يُنظر إلى “ازدهار إفريقيا” كخطوة إيجابية نحو تعزيز الشراكة الاقتصادية مع الولايات المتحدة؛ ولكنها تحتاج إلى مزيد من التكيف مع الأولويات الإفريقية، والتركيز على بناء القدرات المحلية، وتعزيز التكامل الإقليمي، وتقديم حلول مستدامة تتماشى مع الأجندات التنموية للقارة.
كما يجب أنْ تأخذ المبادرة في الاعتبار التحديات الفريدة التي تواجهها الدول الإفريقية، مثل ضعف البنية التحتية، والافتقار إلى التمويل، والحاجة إلى تطوير المهارات والقدرات المحلية. غير أنّ تقييم هذه المبادرة لا يكتمل دون مقارنتها بما تعرضه قوى أخرى أكثر حضورًا وتأثيرًا، وعلى رأسها الصين، التي تتبع نهجًا مختلفاً تماماً في تعاملها مع القارة.
تنافس غير متكافئ: بين الشراكة الأمريكية والانخراط الصيني
ومع كل ما سبق، فإنّ فهم موقع هذه المبادرة لا يكتمل إلا بوضعها ضمن مشهد أوسع يشهد سباقاً محموماً على صياغة شكل الشراكة مع إفريقيا. وبينما تواصل واشنطن تقديم مبادرة “ازدهار إفريقيا” كمدخل حديث للتعاون، فإنّ قوى دولية أخرى، وفي مقدمتها الصين، تتحرك وفق مقاربات مغايرة، أكثر جرأة وتكثيفاً على الأرض.
عند هذه النقطة، يصبح من الضروري التوقف أمام مفارقة لافتة: التنافس القائم لا يعكس فقط تبايناً في الأهداف؛ بل يُظهر اختلافاً عميقاً في التصور العام لكيفية بناء التنمية، ونوعية الحضور الدولي الذي تتعامل معه إفريقيا.
وعليه، فقد أصبح واضحاً أنّ التنافس بين الولايات المتحدة والصين في إفريقيا لا يدور فقط حول النفوذ السياسي، بل يتعلق جوهريًا بنموذجين مختلفين تماماً للتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي. فعندما نضع مبادرة “ازدهار إفريقيا” الأمريكية مقابل مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، تتكشف أمامنا فجوة واسعة في الحجم، والآليات، والنتائج على أرض الواقع. ويبدو أنّ هذا التفاوت لا ينبع فقط من اختلاف الموارد؛ بل من اختلاف في الفهم العميق لاحتياجات القارة الإفريقية وسرعة الاستجابة لها.
إذْ تعتمد المبادرة الأمريكية على فلسفة تقودها السوق، مدفوعة بمؤسسات تمويلية تركز على تحفيز الاستثمار الخاص وتسهيل بيئة الأعمال. غير أنّ المبادرة، رغم اتساع هيكلها البيروقراطي، تظل محدودة في تأثيرها الفعلي، إذْ لا تتجاوز تدخلاتها سقف التنسيق والمرافقة التقنية والاستشارية. فهي لا تقدم حلولًا ميدانية سريعة للبنية التحتية أو لضعف الربط الإقليمي أو فجوات الكهرباء والمياه التي لا تزال تعيق تحرّك الاقتصادات الإفريقية من أسسها. إنّ التنمية التي تنتظر السوق الخاص ليقودها في بيئة غير مستقرة، ستظل رهناً بالإعلانات أكثر من الأفعال.
وعلى الجانب الآخر، تتحرك الصين وفق منطق النفاذ المباشر؛ تمويلات سخية، وتنفيذ سريع، ومشاريع ضخمة تترك بصمتها بوضوح في الموانئ، والسكك الحديدية، والمناطق الصناعية، والجامعات. هذا الحضور الكثيف، رغم انتقادات الشفافية وغياب المعايير البيئية أحيانًا، يقدم جواباً واقعيّاً وسريعاً على إلحاح الدول الإفريقية نحو تحسين الخدمات الأساسية وبناء اقتصادات متكاملة. فالمقارنة بين سكة حديدية ممتدة، ومذكرة تفاهم لتسهيل الصادرات، ليست في صالح واشنطن، مهما حَسُنت نواياها.
فالاختلاف لا يقف عند الحجم؛ بل يشمل أيضًا عمق التمركز. فبكين تعمل وفق رؤية طويلة الأمد، تنسج شراكات تتجاوز منطق الصفقة التجارية إلى إعادة صياغة سلاسل القيمة العالمية بمشاركة إفريقية. أما واشنطن، فلا تزال تعوّل على سرديات الحرية الاقتصادية والحوكمة دون أنْ تقرنها بأدوات تنفيذ صلبة تناسب السياقات المحلية. وهو ما يفسر انحياز العديد من العواصم الإفريقية إلى النهج الصيني في المشاريع الكبرى، حتى وإنْ احتفظتْ بتعاون محدود مع المبادرة الأمريكية في قطاعات مثل التكنولوجيا والزراعة.
ورغم أهمية التنوع في الشراكات الدولية، إلا أنّ غياب التوازن في جدية الالتزام وحجم الموارد يدفع باتجاه مشهد غير متكافئ؛ حيث تكسب الصين أرضاً ومجالات، بينما تكتفي الولايات المتحدة بلعب دور المتفرج المعلِّق. ولعلّ هذا ما يُحتم على صانعي القرار الأمريكيين إدراك أنّ إفريقيا لا تحتاج إلى خطابات تنموية جديدة؛ بل إلى أدوات تنفيذ توازي طموحاتها، وتحترم أولوياتها، وتفكر على المدى الطويل بنفس الصرامة التي تتحرك بها بكين.
أمريكا في إفريقيا: استراتيجية بلا عضلات
رغم أنّ مبادرة “ازدهار إفريقيا” وُلِدتْ في سياق سياسي يحاول إعادة تعريف الشراكة الأمريكية مع القارة، إلا أنّ محدودية التمويل والموارد سرعان ما كشفت عن ضعف البنية الحقيقية للمبادرة. فهي تقوم على تحفيز القطاع الخاص الأمريكي للدخول في شراكات تجارية واستثمارية مع الدول الإفريقية؛ لكن دون أنْ تُقدِّم حوافز حقيقية كفيلة بجذب هذا القطاع إلى بيئات معقدة تشكو من هشاشة البنية التحتية وضعف الحوكمة. ومع غياب استثمارات مباشرة ذات وزن، تظل المبادرة مشروطة بمزاج السوق أكثر من استجابتها لأجندات التنمية الإفريقية الفعلية.
وتُعاني المبادرة أيضًا من ارتباك مؤسسي واضح؛ فتنسيق الجهود بين 17 وكالة حكومية أمريكية يبدو من الخارج كقوة تنظيمية؛ لكنه فعليّاً ينتج عنه بطء في الإجراءات وتضارب في الرؤى التنفيذية. كما لا توجد أولويات قطاعية واضحة، ولا رؤية موحدة حول القطاعات الحيوية التي يمكن للولايات المتحدة أنْ تنافس فيها الصين أو حتى الاتحاد الأوروبي. وحتى عندما يُعلن عن تسهيلات تجارية أو تمويلات عبر مؤسسات مختلفة، فإنّ أثرها على الأرض يبقى محدوداً وغير محسوس في المجتمعات الإفريقية الأشد احتياجاً.
فالسياق الجيوسياسي بدوره لا يخدم المبادرة كثيرًا. فقد جاءتْ كاستجابة مباشرة لتصاعد النفوذ الصيني، وتزايد الانخراط الروسي والتركي في إفريقيا، ما جعلها تبدو أقرب إلى “ردة فعل” من كونها مشروعاً استراتيجياً طويل المدى. كما أنّ ربطها بالقيم الأمريكية التقليدية كالديمقراطية والحوكمة، من دون إرفاق ذلك بحلول اقتصادية مرنة، أضعف من جاذبيتها، خاصة في دول تبحث عن شراكات عملية لا مشروطة. بذلك، يتشكل انطباع متزايد بأنّ “ازدهار إفريقيا” تحمل خطاباً طموحاً؛ لكن بأدوات تنفيذية بلا عضلات حقيقية.
خاتمة:
من الهامش إلى المركز… حان وقت القرار الإفريقي
لا يخالجني شكٌّ في أنّ ما نشهده اليوم من زخم دولي حول القارة الإفريقية ليس وليد نوايا تنموية صافية، بقدر ما هو انعكاس لتحولات في موازين القوى العالمية. والمفارقة أنّ إفريقيا، التي لطالما وُصفتْ بأنها ساحة تنافس، لا تزال تفتقر إلى أدوات الفعل القاري الموحّد، وتكتفي غالباً بدور المُستجيب لا المُبادر.
ولقد تابعتُ عن كثب ما يُطرح من مبادرات وتفاهمات، وراقبتُ وعود التمويل والتحفيز من أكثر من جهة. غير أنّ ما لم يتغير هو أنّ هذه المبادرات، مهما تنوعت، لا تُبنى وفق منطق إفريقي خالص؛ بل تُفصّل في الغالب بما يخدم مصالح الأطراف المانحة أولًا.
هنا، لا أجادل في أهمية الانفتاح على الشراكات الدولية، ولا أدعو إلى القطيعة؛ لكني أعتقد أنّ أكبر خطر يواجه دولنا ليس التنافس بين القوى الكبرى؛ بل غياب قدرة إفريقية موحدة على إدارة هذا التنافس. فالقارة ليست وِحْدة جامدة؛ بل فسيفساء من الثقافات والهياكل الاقتصادية والاحتياجات المتباينة، مما يتطلب أنْ تُبنى الشراكات وفق فهم عميق لهذا التنوع، لا وفق قوالب جاهزة صيغت في واشنطن أو بكين. وهنا، يكمن جوهر المسألة: إمّا أنْ نعيد هندسة علاقتنا مع الخارج بما يخدم الداخل، أو نظل ندور في فلك حسابات لا تصنع تنمية حقيقية.
ومن وجهة نظري، فإنّ المخرج لا يكون إلا من خلال بناء عمق استراتيجي على ثلاثة مستويات. فعلى المستوى الوطني، لا بُدّ من إصلاح بيئة الاستثمار وجعلها قادرة على احتضان الشراكات المنتجة لا الاستهلاكية. فعلى المستوى الإقليمي، يجب تفعيل المجموعات الاقتصادية الإفريقية كأذرع تنفيذ لا مجرد أُطُر دبلوماسية. وعلى المستوى القاري، فإنّ منطقة التجارة الحرة الإفريقية يجب ألا تظل على الورق؛ بل تتحول إلى منصة واقعية لتكامل المشروعات الكبرى، وتمويلها من مؤسسات إفريقية ذات تمويل سيادي مستقل.
لستُ ممن ينتظر “المبادرة المثالية” من الخارج، فالمبادرة الحقيقية هي التي تبدأ من الداخل، حين تقرر دول إفريقيا أنْ تنظر لنفسها كمركز لا كملحق. حينها فقط، لن يكون التنافس الدولي تهديداً؛ بل فرصة تُدار بشروطنا، لا بشروطهم.
تحليلات المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات