في 29 يناير 2025، أعلنت دول تحالف الساحل (بوركينا فاسو، مالي، النيجر) انسحابها رسميّاً من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)[1]، وتزامن ذلك مع الإعلان عن إصدار جوازات سفر خاصة بهذه الدول، مما يمثل تحوّلاً سياسيّاً كبيرًا في المنطقة. ويشير انسحاب دول الساحل من الإيكواس إلى تحول استراتيجي في العلاقات الإقليمية والدولية؛ حيث أصبحت هذه الدول أكثر توجهاً نحو استقلالية سياسية واقتصادية، بعيداً عن تأثيرات الهيئات الإقليمية التقليدية مثل الإيكواس.
ويعود هذا القرار بعد عامٍ من توترات مستمرة بين دول الساحل والإيكواس، خاصة بعد فرض العقوبات على النيجر، ما دفع الدول الثلاث إلى البحث عن مسارات بديلة تعكس تطلعاتها في الحفاظ على سيادتها وحرية قراراتها السياسية.
إنّ انسحاب دول الساحل من الإيكواس لم يكن مجرد رد فعل على العقوبات؛ بل يعكس تطورًا في التفكير السياسي لهذه الدول في مواجهة التحديات الأمنية. ويأتي هذا التحرك بالتزامن مع إطلاق مشروع جواز السفر الإقليمي الموحد وتعزيز التعاون العسكري بين هذه الدول.[2] وفي الوقت نفسه، تم الإعلان عن تشكيل قوة عسكرية مشتركة من 5000 جندي لمكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في منطقة الساحل.[3]
ولتسليط الضوء أكثر على هذه الديناميكيات الإقليمية، تهدف هذه الورقة إلى دراسة تداعيات انسحاب دول الساحل من الإيكواس على الأمن والسياسة الإقليمية، مع تسليط الضوء على التحديات الاقتصادية والسياسية التي قد تطرأ نتيجة لهذا التحول.
ولتحقيق هذا الهدف، سيتناول هذا المقال عدة محاور رئيسة، منها: تأثير هذا الانسحاب على العلاقات الإقليمية وعلى التكامل الاقتصادي والأمني ومشروع جواز السفر الإقليمي، وتأثير إنشاء القوة العسكرية المشتركة، وآثاره الاقتصادية والسياسية على مستقبل هذه الدول في المنطقة، ثم الخاتمة والتوصيات.
أولاً: التحول في العلاقات الإقليمية
يعكس الانسحاب من مجموعة الإيكواس تحولًا جذريّاً في العلاقات بين دول الساحل وبقية دول غرب إفريقيا. ولطالما كانت الإيكواس تمثل إطارا مهما للتعاون الاقتصادي والسياسي بين الدول الأعضاء؛ حيث تسعى الدول الأعضاء في الإيكواس إلى التكامل الاقتصادي والتعاون السياسي.
ومع ذلك، فإنّ فشل الإيكواس في التصدي للتهديدات الأمنية في منطقة الساحل – مثل الإرهاب والانقلابات العسكرية – جعل دول الساحل تعيد النظر في جدوى عضويتها في هذه المنظمة. ويعكس هذا التحول تطورا في التفكير السياسي لهذه الدول، ويؤكد على رغبتها في تشكيل تحالفات تضمن الأمن والاستقرار بشكل أكثر استقلالية.
كما أنّ التوترات التي نشأت بين دول الساحل والإيكواس جاءت بعد عدة قرارات مثيرة للجدل من قِبل المنظمة، مثل فرض العقوبات على النيجر عقب الانقلاب العسكري في 2023. هذه العقوبات عمقت الفجوة بين الدول الثلاث والمنظمة، ما دفعها إلى التفكير في تأسيس تحالف منفصل يجسد استقلالها السياسي. الأمر الذي يطرح تساؤلات حول مدى قدرة هذه الدول على مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية في ظل هذا الانفصال عن الإيكواس.
وفي هذا السياق، يمكن القول إنّ قرار الانسحاب من الإيكواس لم يكن مجرد رد فعل على العقوبات، بل كان خطوة استباقية نحو تأسيس إطار إقليمي مستقل يعكس تطلعات هذه الدول في إدارة شؤونها الداخلية والخارجية بعيدًا عن التأثيرات الخارجية. قد يمكن أن يغير هذا التحول بشكل جذري خريطة التعاون في غرب إفريقيا في المستقبل.
ثانياً: تأسيس جواز السفر الإقليمي الموحد
إن قرار تأسيس جواز السفر الإقليمي الموحد بين دول تحالف الساحل يُعَدّ خطوة استراتيجية مهمة نحو تعزيز التكامل الإقليمي بين هذه الدول. يُعَدّ الجواز الجديد بمثابة رمز للسيادة الإقليمية والهوية الموحدة لدول تحالف الساحل.
فمن خلال هذا الجواز، يسعى تحالف الساحل إلى تسهيل التنقل بين مواطني هذه الدول وتعزيز الروابط الاقتصادية والاجتماعية فيما بينها. وقد تساعد هذه المبادرة في تعزيز التبادل الثقافي والاقتصادي بين دول المنطقة، وتسهيل عملية التنقل للأفراد داخل هذه الدول.
لكن على الرغم من أهمية هذه الخطوة، فإنّ تنفيذ هذا الجواز سيكون له تحديات عدة. أولاً، قد تواجه هذه الدول صعوبات في تحقيق التنسيق التام بين أجهزة الهجرة والجوازات في كل دولة من دول تحالف الساحل. كما أنّ التنقل عبر الحدود بين هذه الدول قد يظل محكومًا بالقيود السياسية والأمنية القائمة. وبالتالي، قد يواجه هذا الجواز مقاومة من بعض الدول المجاورة التي قد تشعر بالتهديد من هذا التحول في منطقة كانت تحت إشراف الإيكواس.
إنّ تطبيق مشروع جواز السفر الموحد يسلط الضوء على رغبة دول الساحل في تعزيز السيادة الإقليمية بعيدًا عن التدخلات الخارجية. لكن سيكون من المهم مراقبة مدى قبول الجواز في دول المنطقة، وكذلك التعامل مع تداعياته على العلاقات مع بقية دول غرب إفريقيا ودول أخرى في القارة.
ومع ذلك، يمثل هذا الجواز خطوة نحو بناء هوية مستقلة لدول الساحل، على الرغم من التحديات التي قد تنشأ في تحقيق التنقل الحرّ والآمن بين هذه الدول.
ثالثاً: إنشاء القوة العسكرية المشتركة
إنّ إنشاء قوة عسكرية مشتركة بين دول تحالف الساحل يُعَدّ من أبرز المبادرات التي أطلقها هذا التحالف بهدف مواجهة التهديدات الأمنية المتزايدة في المنطقة، لاسيما تلك الناتجة عن الجماعات الإرهابية مثل تنظيمي القاعدة وداعش.
وتكمن أهمية هذه القوة في أنها تعكس رغبة هذه الدول في تولي زمام الأمور الأمنية بأنفسها بعيدًا عن الاعتماد على القوات الأجنبية. كما أنّ القوة المشتركة ستتيح لتلك الدول توحيد جهودها لمواجهة التحديات الأمنية التي طالما كانت مصدر قلق دائم.
لكن على الرغم من أهمية هذه القوة، فإنّ تكوينها وتنفيذها يشكل تحديًا حقيقيًا؛ حيث أن إنشاء جيش موحد يتطلب تنسيقًا بين القوات المسلحة للدول الثلاث، وتوفير التمويل اللازم، بالإضافة إلى الدعم اللوجستي والتقني.
كما أنّ العمل العسكري المشترك يتطلب آليات واضحة للقرار وتوزيع المهام بين القوات. إذا تم تنفيذ هذا المشروع بنجاح، فإن ذلك سيكون بمثابة رسالة قوية تؤكد استقلالية دول الساحل في مواجهة تهديدات المنطقة.
ومن جانب آخر، إنّ إنشاء هذه القوة العسكرية يشير إلى أنّ دول الساحل أصبحت على استعداد للتعامل مع قضاياها الأمنية بأنفسها دون الحاجة إلى تدخلات خارجية، مثل تلك التي قدمتها القوات الفرنسية سابقًا. ولكن مع ذلك، سيكون من المهم مراقبة مدى قدرة هذه الدول على الحفاظ على استقرارها السياسي وتحقيق تنسيق فعّال بين جيوشها لمكافحة الجماعات المسلحة.
رابعاً: التداعيات الاقتصادية والسياسية للانسحاب
الانسحاب من الإيكواس يأتي مع تداعيات اقتصادية كبيرة على دول تحالف الساحل. على الرغم من أن هذه الدول تمتلك موارد غنية، إلا أن عزوفها عن التعاون الاقتصادي مع دول الإيكواس قد يؤدي إلى تراجع في مستوى التجارة والاستثمار. كما أن هذه الدول قد تواجه صعوبة في توفير بدائل اقتصادية للتعامل مع الأسواق الإقليمية، مما قد يؤثر على قطاعات مثل النقل والتجارة الحرة؛ حيث تعتمد هذه الدول في كثير من الأحيان على التعاون التجاري مع الدول الإيكواسية الأخرى.
من جهة أخرى، يمكن أن يترتب على هذا الانسحاب فرض المزيد من القيود على حركة البضائع والخدمات بين دول الساحل ودول غرب إفريقيا الأخرى. إذا تم تطبيق هذه القيود، فإن ذلك قد يؤدي إلى زيادة التكاليف التجارية، ويعقّد عمليات التبادل التجاري، خاصة في القطاعات التي تعتمد على النقل عبر الحدود. كما أن تأثير الانسحاب على مجالات مثل الاستثمارات والتمويل قد يطال بشكل مباشر قدرة هذه الدول على تطوير بنيتها التحتية.
إن تحديات هذا الانسحاب لا تقتصر فقط على الجانب الاقتصادي، بل تمتد إلى الآثار السياسية، حيث أن دول تحالف الساحل قد تجد نفسها معزولة عن مجموعة الإيكواس التي تضم العديد من الاقتصادات الكبيرة في غرب إفريقيا. ولذلك، سيكون من المهم أن تقوم هذه الدول بتطوير استراتيجيات بديلة لتعزيز التكامل الاقتصادي والتجاري دون أن تتأثر بالقيود التي قد تفرضها هذه الخطوة.
خامساً: التأثير على الأمن الإقليمي والتحولات السياسية
إنّ الانسحاب من الإيكواس يسهم في إعادة تشكيل مفهوم الأمن الإقليمي في منطقة الساحل. فمنذ عدة سنوات، كانت دول الساحل تعتمد على الدعم العسكري من القوى الأجنبية، بما في ذلك فرنسا، لمواجهة التهديدات الأمنية. لكن مع هذا الانسحاب، تسعى دول الساحل إلى بناء قدراتها العسكرية الخاصة والتعاون الأمني المحلي. ويهدف هذا التحول إلى تعزيز قدرة هذه الدول على مواجهة الإرهاب والجماعات المسلحة بأنفسها.
لكن التحدي الرئيس الذي سيواجه هذا التحول هو ضرورة التنسيق بين هذه الدول في مجال الدفاع. وفي الوقت الذي تعزز فيه هذه الدول من قدراتها العسكرية، ستظل بحاجة إلى تعزيز التعاون الأمني والسياسي بين جيوشها للتصدي للتهديدات المشتركة. إذا نجح هذا التحول، فإن ذلك سيعزز بشكل كبير السيادة الوطنية لدول الساحل ويغير بشكل جذري طريقة تعاملها مع قضايا الأمن في المستقبل.
في النهاية، سيتعين على دول الساحل أن توازن بين استقلالها السياسي والاقتصادي وتحديات الأمن المستمر في المنطقة. وهذا التحول في السياسة الإقليمية قد يشكل بداية عصر جديد في العلاقات بين دول الساحل والمنظمات الإقليمية الأخرى.
الخاتمة والتوصيات
مع استمرار التغيرات الجيوسياسية والأمنية التي تشهدها منطقة الساحل، يبدو أنّ هذه التغيرات ستؤثر بشكل كبير على مستقبل التعاون الإقليمي والدولي في المنطقة. وفي هذا السياق، يجب على أصحاب المصالح الإقليميين والدوليين إعادة النظر في استراتيجياتهم تجاه دول الساحل.
ونظرًا للمتغيرات المستمرة، يبرز ضرورة تعزيز التعاون بين دول الساحل في المجالات العسكرية والاقتصادية، مما يتطلب إيلاء اهتمام خاص لتطوير القدرات المحلية وتقوية المؤسسات الأمنية. ويجب أن تركز المؤسسات الإقليمية والدولية على دعم الجهود المبذولة لتقوية بنية الدفاع الوطني من خلال توفير التدريب المناسب وزيادة الاستثمارات في الدفاع والأمن، خاصة في ضوء انسحاب دول الساحل من الإيكواس وتأثيره المتوقع على الأمن الإقليمي.
وفضلا عن ذلك، فإنّ توفير حلول تنموية مستدامة يمثل أولوية قصوى ينبغي الاهتمام بها. فيجب تكثيف الجهود لتوفير الدعم المالي والفني للمشروعات الكبرى مثل البنية التحتية والمشروعات الاقتصادية التي تعد مفتاحًا لاستقرار المنطقة على المدى البعيد.
ومن المهم أيضًا أن تتعاون دول الساحل معًا بشكل وثيق فيما يتعلق بالأمن والطاقة والتجارة من أجل خلق بيئة إقليمية مستقرة وداعمة للتنمية المستدامة. وستسهم هذه الخطوات في تحقيق التكامل الإقليمي الذي يضمن استدامة النمو والاستقرار، وذلك في ظل التحديات التي تترتب على انسحاب دول الساحل من الإيكواس.
فيما يتعلق بالدور الدولي، ينبغي أن يعمل المجتمع الدولي على دعم دول الساحل دون فرض أجندات خارجية قد تسهم في زيادة التوترات. يجب أن يكون الدعم مبنيًا على احترام السيادة الوطنية والاعتماد على الحلول المحلية التي تعكس احتياجات وتحديات المنطقة. في نهاية المطاف، يتطلب تحقيق استقرار الساحل أن تتوازن جهود الدول في الحفاظ على سيادتها مع تعزيز التعاون الإقليمي الفعّال، بما يضمن تطورًا مستدامًا وآمنًا للمنطقة في ظل التحولات الناتجة عن انسحاب دول الساحل من الإيكواس.
[1] West Africa bloc announces formal exit of three junta-led states
[2] Ecowas react as Alliance of Sahel States launch new passport
[3] Sahel military governments to deploy joint forces to combat terrorism