تقدير موقف

إلغاء التعديلات الدستورية كمدخل لاستعادة الثقة الوطنية في الصومال

يواجه الصومال في العام الأخير من ولاية الرئيس حسن شيخ محمود (2022–2026) منعطفًا سياسيًا حرجًا، يُهدد بإعادة الصومال إلى مربع التأزم والتجاذب والانقسام، وربما الانفصال. فمنذ مايو 2025، تعيش الساحة السياسية حالة من التوتر المتصاعد، بعد تمرير الحكومة الفيدرالية لتعديلات دستورية مثيرة للجدل، بعيدًا عن روح التوافق الوطني والمنهجية التشاورية، التي نصّ عليها الدستور المؤقت لعام 2012.

لم تكن التعديلات الدستورية مجرد تغيير في نصوص قانونية، بل جسّدت نهجًا سياسيًا أحاديًا، أثار جملة من المخاوف الداخلية والخارجية. داخليًا، رأى العديد من الفاعلين السياسيين أن هذه التعديلات تمثل محاولة لإعادة إنتاج نموذج الحكم الفردي، وتقويض مبدأ الفيدرالية، وتمهيدًا محتملًا للتمديد غير المشروع للسلطة التنفيذية. أما خارجيًا، فقد عبّر المجتمع الدولي عن قلقه من تداعيات هذا المسار، ليس على مستقبل الصومال فحسب، بل على الاستقرار الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي الكبير بأكمله، ومهددا جملة من المصالح الدولية والإقليمية في المنطقة.

وتبرز في ظل هذا السياق المتوتر- دعوات متزايدة لإلغاء التعديلات الدستورية الأخيرة، والعودة إلى مرجعية دستور 2012 كخطوة أولى لإعادة بناء الثقة الوطنية. إن هذا الإلغاء لا ينبغي النظر إليه كتنازل سياسي، بل كفرصة ثمينة لتصحيح المسار، واستئناف حوار وطني حقيقي، يشارك فيه جميع الفاعلين السياسيين، ويؤسس لمرحلة جديدة من الشراكة السياسية، وبناء مؤسسات حكم، قادرة على تجاوز إرث التصدع والانقسام.

من هنا، تأتي أهمية هذه الورقة في تقديم تقدير موضوعي للموقف الراهن، واستكشاف مسارات الخروج الآمن من الأزمة من خلال قراءة عميقة للمعطيات السياسية والدستورية، وتحديد الخيارات الواقعية، التي يمكن أن تُعيد للمسار السياسي في الصومال بوصلته المفقودة، وتنقذ الصومال من مخاطر الانزلاق نحو الفوضى، والعودة إلى مربع النزاعات والحروب الأهلية، ومراودة هاجس الصوملة.

 

التعديلات الدستورية: إصلاحات ضرورية أم هندسة سلطوية؟

تقف التعديلات الدستورية الأخيرة في الصومال بين نقيضين: الحاجة الملحّة لإصلاح سياسي، يعيد هيكلة الدولة الصومالية في مصاف الدول المتقدمة، ومخاوف حقيقية من تمركز السلطة، وانهيار الإجماع الوطني، حيث تحولت هذه التعديلات، بدلًا من أن تكون خطوة نحو بناء دولة مؤسسات- إلى مصدر انقسام وقلق داخلي وإقليمي.

من جهة، تحمل التعديلات نقاطًا إيجابية، مثل تنظيم العلاقة بين الحكومة الفيدرالية، والولايات الأعضاء في النظام الفيدرالي، وتوحيد المرجعيات الانتخابية، وكسر الجمود الدستوري، الذي أعاق الدولة لسنوات. لكن في المقابل، تبرز أربع مخاطر رئيسية:

  • غياب التوافق الوطني: جرى تمرير التعديلات دون حوار شامل مع الولايات الأعضاء في النظام الفيدرالي، والأطراف السياسية المؤثرة، مما أفقدها الشرعية والمصداقية.
  • تركيز السلطة في المركز (الحكومة الفيدرالية): هناك مخاوف من استخدام هذه التعديلات لتقليص دور الولايات، على حساب الفيدرالية المعتمدة، ما يفرغ مفهوم وتطبيقات الفيدرالية من مضمونها.
  • تسريع استحقاقات غير مكتملة: ( حرق المراحل والاستحقاقات ) تنظيم الانتخابات في ظل مؤسسات لم تستكمل بعد قد- يفتح الباب لأزمات قانونية، وانقسامات سياسية أعمق.
  • ثغرات في السيادة الوطنية: هشاشة الوضع الداخلي، يعطي قوى خارجية مساحة أكبر للتدخل، والضغط على القرار الصومالي، ويشجع الفاعلين غير الحكوميين

استنادا على ذلك، فإن استمرار هذا المسار يُهدد بإعادة إنتاج نمط حكم تسلطي، يعصف بما تحقق من توازنات، منذ بدء المرحلة الانتقالية عند تأسيس الجمهورية الثالثة في عرتا 2000م. ولم تعد الدعوات إلى إلغاء التعديلات، والعودة إلى دستور 2012- مجرد موقف معارض، بل خيارًا ضروريًا لحماية وحدة الدولة، وإعادة بناء الثقة بين مكونات النظام السياسي. وذلك يشكل مدخلًا واقعيًا لإطلاق حوار جامع، يُفضي إلى صياغة دستور دائم، يعبر عن الإرادة الشعبية، ويحترم التنوع السياسي والجغرافي والمناطقي للصومال.

 

 دستور 2012 المؤقت: مبررات العودة والتمسك به في المرحلة الانتقالية الصومالية

تبرز في ظل هذه الأوضاع- دعوات واسعة للعودة إلى الدستور المؤقت لعام 2012، لأسباب تتعلق بالشرعية والاستقرار، ومن أبرز تلك المبررات:

  1. مرجعية توافقية: تم إعداد دستور 2012 من خلال مشاورات وطنية واسعة، شاركت فيها معظم الأطراف السياسية، ويُعد الوثيقة الوحيدة، التي حظيت بقبول وطني عام.
  2. إطار قابل للتطوير: على الرغم من أن الدستور المؤقت ليس مثالياً، إلا أنه يوفر قاعدة دستورية، يمكن البناء عليها تدريجيًا عبر الحوار والتوافق، وليس بالإكراه أو الفرض.
  3. مدخل للتهدئة: العودة إليه تُعد خطوة تهدئة سياسية، يمكن أن تفتح المجال مجددًا للحوار الوطني، وتُعيد الثقة بين الفاعلين السياسيين.
  4. أهمية إلغاء التعديلات الدستورية في المرحلة الراهنة:

لا يجب النظر إلى إلغاء التعديلات الدستورية بوصفه مجرد تراجع سياسي، بل كخطوة إنقاذ وطني لها عدة فوائد استراتيجية، منها:

  1. استعادة الثقة المفقودة: بين الحكومة والمعارضة، وبين المركز والولايات، ( وبين المكونات الاجتماعية الفاعلة الأخرى ) من خلال العودة إلى وثيقة دستورية متفق عليها.
  2. إعادة إطلاق الحوار الوطني: كونه الطريق الوحيد المتبقي لحل الخلافات، وإنقاذ البلاد من الانقسام، وربما من مطالب الانفصال، (وصولاً إلى استكمال بناء مؤسسات الدولة ).
  3. توسيع دائرة المشاركة: خلق بيئة سياسية شاملة، لا تُقصي أحداً، وتستند إلى مبدأ الشراكة السياسية.
  4. إعداد نظام انتخابي عادل: يضمن شفافية الانتخابات المقبلة، ويحول دون نزاعات محتملة حول شرعية النتائج.
  5. بناء عقد اجتماعي جديد: تأسيس دستور جامع، يلبي طموحات جميع فئات الشعب، ويعالج الثغرات الدستورية المزمنة.
  6. إدراك الحكومة لحجم الأزمة: تجاوب الحكومة مع هذه المطالب، سيكون دليلاً على وعيها بخطورة المسار الحالي، وحرصها على تجنب الانهيار السياسي.

             حل لجنة الانتخابات الحالية: ضرورة إصلاحية:

من بين نتائج التعديلات الدستورية المثيرة للجدل، نشأت لجنة انتخابات جديدة، رفضتها المعارضة وبعض الولايات، باعتبارها وليدة عملية غير شرعية، ولم تشارك في التأطير لها ولذلك:

لماذا يُعد حل اللجنة أمراً ضرورياً؟

  1. فقدان الشرعية: اللجنة الحالية وُلدت من سياق دستوري، لا يحظى بالإجماع، ما أفقدها الثقة والمصداقية.
  2. رفض سياسي واسع: كثير من الأطراف السياسية والولايات، لا يعترفون بشرعيتها، مما ينذر بغياب التوافق على نتائج أي انتخابات، تشرف عليها.
  3. الحاجة إلى لجنة توافقية: لا بد من تشكيل لجنة انتخابات جديدة عبر مشاورات وطنية، تضم ممثلين عن مختلف المكونات السياسية، لضمان قبول نتائج الانتخابات القادمة.

وختاما

فإن التجربة السياسية في الصومال خلال السنوات الأخيرة من فترة ما بعد الحكومات الانتقالية، وما رافقها من محاولات متكررة لإعادة تشكيل الإطار الدستوري دون توافق حقيقي- تبرهن على أن الحكومة الرشيدة لا تُبنى بالإجراءات الشكلية، ولا بالمراسيم الفوقية، بل بإرادة وطنية جماعية، تُراعي التوازنات السياسية والاجتماعية العميقة في البلاد. فإلغاء التعديلات الدستورية الأخيرة، على الرغم مما قد يُنظر إليه كخطوة إلى الوراء- إلا إنه في جوهره يمثل إعادة تصحيح للمسار السياسي، وفرصة تاريخية للعودة إلى منطق الشراكة لا المغالبة.

لقد أظهرت الأزمة الدستورية بجلاء أن تجاوز الإرادة الجماعية، وتهميش الولايات الفيدرالية، والقوى المجتمعية الفاعلة، لا يؤدي إلّا إلى تعميق الشروخ، وإضعاف الثقة بين مكونات الدولة.

وهذا يؤكد أن جوهر الدولة الصومالية ليس في نصوصها، بل في قدرتها على توليد توافق وطني، يحترم تنوعها القبلي والسياسي، ويترجم ذلك إلى عقد اجتماعي جديد، يضمن التمثيل والعدالة والشفافية.

إن حل لجنة الانتخابات الحالية، والعودة إلى دستور 2012، لا ينبغي أن يُفهم بوصفه تنازلا سياسيا، بل كخطوة تأسيسية تعيد ترتيب الأولويات، وتضع الإصلاح الدستوري في إطاره الطبيعي، كنتاج لحوار وطني، وليس باعتباره مجرد إجراء قانوني. فالتعديلات التي لا تُبنى على أرضية توافقية محكوم عليها بالانهيار، لأنها ببساطة لا تُعبّر عن الإرادة الجامعة، بل عن مواقف ظرفية، قد تتبدد مع تغير التوازنات.

على ضوء ذلك، فإن مستقبل الصومال يتطلب اليوم أكثر من أي وقت مضى- صياغة مشروع سياسي مبني على التوافق الوطني، يركز على بناء الثقة بين المركز والأطراف، وتعزيز آليات المشاركة، وتفعيل مؤسسات الرقابة والتوازن. فلا يمكن أن يُكتب للاستقرار الدائم النجاح، إلا إذا كان نابعًا من إرادة وطنية جامعة، تُدير التعدد ولا تقمعه، وتُحصن التغيير، ولا تُفرغه من مضمونه.

إن رهان الصومال على المستقبل- يجب أن ينطلق من وعي عميق بجذور أزمته، وأن يسير في طريق الإصلاح التوافقي، وليس في مسارات فرض الأمر الواقع. ففي ظل ما أظهرته الأزمة الدستورية الأخيرة من هشاشة المشهد- بات واضحًا أن الإصلاح الحقيقي، يبدأ من احترام قواعد الحوار الوطني، وأن الوطن يسع للجميع، وأن أي قفز على هذه القواعد- سيُعيد البلاد إلى دوامة الانقسام والصراع.

التوصيات الاستراتيجية:

  1. إلغاء فوري للتعديلات الدستورية الأخيرة: ضرورة التراجع الكامل عن التعديلات الدستورية المثيرة للجدل، التي تم تمريرها من قبل الحكومة الفيدرالية، دون مشاورات كافية أو توافق وطني، وذلك لتفادي تعميق الانقسام السياسي، وحماية شرعية النظام الدستوري.
  2. العودة إلى دستور 2012 المؤقت: اعتماد دستور 2012 كمرجعية دستورية مؤقتة، كونه الإطار الوحيد، الذي تم التوافق عليه، وارتضته مختلف الأطراف السياسية، مع مراعاة تطويره، لاحقًا، بما يتناسب مع مطلوبات المرحلة.
  3. إطلاق حوار وطني شامل: الدعوة إلى حوار وطني جاد، يجمع الحكومة الفيدرالية، وحكومات الولايات، والمعارضة السياسية، وممثلي المجتمع المدني، والنخب الفكرية، دون إقصاء لأي طرف؛ من أجل التفاهم على أولويات المرحلة الانتقالية وآليات إدارتها.
  4. إعداد دستور دائم توافقي: الشروع في عملية صياغة دستور دائم، قائم على مبدأ الشراكة السياسية والتوازن الفيدرالي، ويعكس تطلعات الشعب الصومالي بمختلف مكوناته، ويضمن الحقوق والحريات، ويرسخ قواعد الحوكمة الرشيدة.
  5. تشكيل لجنة انتخابات مستقلة ومتوافق عليها: إعادة تشكيل لجنة الانتخابات الوطنية على أسس النزاهة والحياد، وبموافقة جميع الأطراف المعنية، لضمان إدارة العملية الانتخابية القادمة بشفافية، واستعادة الثقة في المؤسسات الانتخابية.

 

عبد القادر غولني

أكاديمي وباحث مختص في الشأن الإفريقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى