تقدير موقف

الدبلوماسية الصومالية في طور التحوّل الهادئ… قراءة في دلالات زيارة الرئيس حسن شيخ محمود إلى الجزائر

 ملخص:

تقدّم هذه الورقة تقدير موقف للتحول الإيجابي في مسار الدبلوماسية الصومالية، من خلال زيارة الرئيس حسن شيخ محمود إلى الجزائر، بوصفها محطة استراتيجية في إعادة تموضع الصومال عربيًا وإفريقيًا. وتتناول الخلفيات السياسية والتاريخية للزيارة، ودلالات إعادة فتح السفارة الصومالية في الجزائر. إضافة إلى تحليل أبعاد هذا التوجّه كجزء من إعادة بناء السياسة الخارجية على أسس الانفتاح، والندية، والمصالح المشتركة، بما يعزّز من استقلالية القرار السياسي لمقديشو، ويعكس رؤية جديدة للعلاقات الدولية في ظل التحولات الإقليمية الراهنة.

أولًا: مقدمة

في تطور دبلوماسي لافت يعكس تحولًا إيجابيًا في توجهات السياسة الخارجية الصومالية- جاءت زيارة الرئيس حسن شيخ محمود إلى الجزائر، لتفتح مرحلة جديدة من التعاون الثنائي بين البلدين، قائمة على المصالح المشتركة، والانفتاح المتبادل. وتمثل الزيارة خطوة متقدمة في مسار استعادة الحضور الصومالي في الساحتين الإفريقية والعربية، بعد سنوات من الانكفاء والانشغال بالأزمات الداخلية.

وتحمل الزيارة، وهي الأولى من نوعها منذ عقود- رمزية سياسية مهمة؛ إذ جاءت عقب إعادة افتتاح السفارة الصومالية في الجزائر، في إشارة واضحة إلى رغبة مقديشو في إعادة إحياء علاقاتها التاريخية مع دولة، تُعد من أبرز الفاعلين في إفريقيا والعالم العربي. فالجزائر يُنظر إليها في الوعي السياسي الصومالي باعتبارها دولة ذات مواقف متوازنة ومستقلة، تجمع بين الثقل الإفريقي، والانتماء العربي؛ مما يجعلها شريكًا طبيعيًا في جهود الصومال، لترسيخ حضوره في الفضاءين العربي والإفريقي.

وفي هذا السياق، يمكن قراءة زيارة الرئيس الصومالي إلى الجزائر بوصفها جزءًا من إعادة التموضع الدبلوماسي للصومال، ضمن رؤية أوسع، ترتكز على ثلاث ركائز أساسية:

الركيزة الأولى: الانفتاح المتوازن: بناء علاقات متعددة الاتجاهات، بعيدًا عن محاور الاستقطاب.

الركيزة الثانية: الدبلوماسية التنموية: توجيه السياسة الخارجية لخدمة أولويات التنمية، خصوصًا في مجالات التعليم والاقتصاد وبناء القدرات.

الركيزة الثالثة: تعزيز الحضور الإفريقي: استعادة الدور الصومالي داخل الاتحاد الإفريقي ومؤسساته.

ويمثل هذا التوجه الجديد فرصة استراتيجية، تمنح الصومال مساحة أوسع للمناورة السياسية، وتزيد من قدرته على اجتذاب الدعم والاستثمارات، بعيدًا عن الضغوط والشروط المجحفة، بما يعزز فرص بناء دولة مستقرة، قادرة على تحقيق تطلعات شعبها.

ثانيًا: السياق والدلالات الرمزية لزيارة الجزائر

تُعد زيارة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود إلى الجزائر- تحوّلًا نوعيًا في توجهات السياسة الخارجية الصومالية، بالنظر إلى مكانة الجزائر في المشهد العربي، والإفريقي، والشرق أوسطي. وتأتي الزيارة في توقيت بالغ الأهمية والتعقيد، تشهد فيه المنطقة إعادة هندسة، وتشكيل التحالفات الإقليمية والدولية في بيئة سياسية، وأمنية مضطربة.

وتكتسب زيارة الرئيس الصومالي إلى الجزائر- بعدًا رمزيًا عميقًا يتجاوز الطابع البروتوكولي. فهي تعبّر عن إدراك متزايد لدى جلّ النخب السياسية الصومالية– إن لم يكن كلها- لأهمية تنويع الشراكات السياسية والاقتصادية، والابتعاد عن منطق المحاور الضيقة. كما تؤكد رغبة مقديشو في الانفتاح على الدول، التي تمتلك ثقلًا استراتيجيًا في إفريقيا والعالم العربي، بما يخدم إعادة تموضع الصومال في خارطة التحالفات الإقليمية.

وفي هذا السياق، مثّلت هذه الزيارة، في أحد أبعادها- عودة الوعي الإفريقي للسياسة الصومالية، بعد سنوات من التركيز شبه الكامل على الأزمات الداخلية، والعلاقات مع المحيط العربي فقط. فالتحول نحو الجزائر يعني من جهة- إعادة اكتشاف العمق الإفريقي للصومال، ومن جهة أخرى توسيع أفق التعاون العربي–الإفريقي من خلال بوابة الجزائر، التي لطالما مثّلت جسرًا بين الفضاءين.

وتعكس هذه الزيارة تحولًا إيجابيًا في المسار الدبلوماسي الصومالي، من خلال إعادة تموضع مقديشو عربيًا وإفريقيًا، بما في ذلك إعادة فتح السفارة الصومالية في الجزائر، بوصفها رمزا لاستئناف العلاقات الثنائية. كما تندرج في إطار إعادة بناء السياسة الخارجية على أسس الانفتاح، والندية، والمصالح المشتركة، بما يعزز استقلالية القرار السياسي، ويواكب التحولات الإقليمية.

ثالثًا: الجذور التاريخية والدور الجزائري في دعم الصومال

لا يمكن فهم دلالات زيارة الرئيس الصومالي إلى الجزائر بمعزل عن الخلفية التاريخية العميقة، التي تربط البلدين، والتي تأسّست على مباد

يء التضامن الإفريقي والعربي، والدعم المتبادل لقضايا التحرر والاستقلال. فمنذ استقلال الجزائر، تبنّت سياسة خارجية قائمة على مساندة حركات التحرر الوطني، ودعم بناء الدولة في إفريقيا.

وقد اتسم الدور الجزائري في دعم الصومال بالاتزان والاستقلالية، بعيدًا عن حسابات الاستقطاب أو المصالح الضيقة. ومنذ عهد الرئيس عبد الله يوسف أحمد- برزت الجزائر كداعم ثابت لمؤسسات الدولة الصومالية، عبر تحركات دبلوماسية هادئة وفاعلة، ساهمت في تعزيز الحضور السياسي والدبلوماسي للصومال إقليميًا ودوليًا.
كما تبنّت الجزائر مبادرات عملية، أبرزها دعم البعثات الدبلوماسية الصومالية العاملة في إطار الدول العربية، من خلال التنسيق مع الحكومات المعنية، لتوفير الدعم اللوجستي والمالي للبعثات الدبلوماسية الصومالية، ضمن مشروع دبلوماسي جماعي، يهدف إلى إعادة تفعيل الدور الصومالي في المحيط العربي. وكانت الجزائر كذلك من الدول الأكثر حرصًا على تعزيز التمثيل العربي في الصومال، ودعمت بقوة جهود إعادة اندماج مقديشو في المنظمات الإقليمية. ويعكس هذا الدور رؤية جزائرية ثابتة، تعتبر أن استقرار الصومال جزءا من أمن واستقرار إفريقيا والعالم العربي، ويجسد شراكة استراتيجية قائمة على الاحترام المتبادل، والدعم المتوازن.

وعلى الصعيد العملي- ساهمت الجزائر في تقديم دعم لوجستي للقوات الإفريقية (أميصوم)، التي أُوكلت إليها مهمة مساندة الحكومة الصومالية في مواجهة التهديدات الأمنية، انطلاقًا من قناعتها بأن استقرار الصومال، يُعد جزءًا لا يتجزأ من أمن واستقرار القارة الإفريقية بأكملها. وقد تميّزت المقاربة الجزائرية بالمرونة والواقعية، وبُعدها عن البيروقراطية، واعتمادها على مبدأ الندية والشراكة المتكافئة؛ ما جعل مساهماتها نموذجًا يُحتذى به للدور الإيجابي، والمسؤول داخل القارة.

ونتيجة لهذا التراكم التاريخي من المواقف والدعم المتوازن- حظيت الجزائر بثقة الصوماليين، حكومةً وشعبًا، باعتبارها دولة ذات مصداقية سياسية، وموقف دبلوماسي معتدل، ما يفسّر حرص القيادة الصومالية على إحياء، وتطوير العلاقات الثنائية معها في إطار سياسة الانفتاح الجديدة، بعد سنوات من العزلة والانكفاء الذاتي بسبب الأزمات الداخلية.

واليوم، تجدد الجزائر استعدادها لدعم الصومال، سواء عبر تعزيز قدرات القوات النظامية في مجالات مكافحة الإرهاب والتطرف، أو من خلال دعم الجهود الرامية إلى تعزيز الأمن البحري، ومواجهة القرصنة، بما يُسهم في استقرار الصومال، والمنطقة بأكملها.

رابعًا: المجال التعليمي والبحث العلمي والتنموي في العلاقات الثنائيةبين الصومال والجزائر

شكّل توقيع اتفاق التعاون في مجال التعليم العالي والبحث العلمي- أحد أبرز نتائج زيارة الرئيس الصومالي إلى الجزائر. ويُعدّ هذا الاتفاق منطلقًا جديداً لشراكة استراتيجية طويلة الأمد، تهدف إلى:

1- تبادل المنح الدراسية للطلبة الصوماليين في الجامعات الجزائرية.

2-  دعم القدرات المؤسسية للجامعات الصومالية.

3- تعزيز التعاون الأكاديمي في مجالات العلوم والتكنولوجيا. 

4- الاستفادة من التجربة الجزائرية في إصلاح التعليم العالي والبحث العلمي والنشر الأكاديمي.

وقد وقّع الاتفاق من الجانب الجزائري البروفيسور كمال بداري، وزير التعليم العالي والبحث العلمي، ومن الجانب الصومالي البروفيسور فارح شيخ عبد القادر، وزير التربية والثقافة والتعليم العالي، وذلك بحضور رئيسي البلدين، ما يُضفي على الاتفاق بعدًا سياسيًا واستراتيجيًا مهمًا.

يعكس التعاون العلمي بين الصومال والجزائر- إدراكًا مشتركًا لأهمية التعليم والبحث العلمي، كركيزة أساسية لبناء الدولة، وتحقيق التنمية المستدامة. فبينما يرى الصومال في تطوير التعليم والبحث العلمي- أداة للنهوض الوطني، وترسيخ مؤسسات الدولة الحديثة، تنظر الجزائر إلى دعم التعليم والبحث العلمي في الدول الإفريقية، كجزء من دورها القاري، ويُجسّد رؤيتها للتكامل الإفريقي، القائم على التضامن وتبادل الخبرات.

ويشكّل هذا التعاون أحد أعمدة العلاقات الثنائية، ويفتح آفاقًا واعدة لتبادل المنح الدراسية، وتسهيل التحاق الطلبة الصوماليين بالجامعات الجزائرية، إلى جانب تعزيز الشراكة بين الباحثين والأساتذة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والابتكار. كما يتضمن الاتفاق دعم القدرات المؤسسية للجامعات الصومالية، من خلال برامج تدريب وتأهيل، والاستفادة من التجربة الجزائرية الرائدة في إصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي؛ بما يعزز جودة التعليم، ويُسهم في تطوير البنية الأكاديمية في الصومال.

رابعًا: عودة البيت الدبلوماسي الصومالي إلى الجزائر: انطلاقة جديدة لشراكة استراتيجية

تُعدّ إعادة فتح السفارة الصومالية في الجزائر- خطوة محورية في مسار تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، بعد سنوات من الجمود، أو الحضور الدبلوماسي المحدود. وهذه الخطوة تحمل عدة أبعاد ودلالات أهمها:

1- رمزية سياسية قوية: تعكس الإرادة السياسية لدى الصومال لإعادة تموضعه الدبلوماسي، والانفتاح على شركاء جدد في القارة الإفريقية والعالم العربي، خاصة الدول التي تتمتع بثقل سياسي مثل الجزائر.

2- تفعيل التعاون الثنائي: وجود سفارة فاعلة، يُسهّل التنسيق السياسي والدبلوماسي اليومي، ويُسرّع تنفيذ الاتفاقيات، خصوصًا في مجالات التعليم والبحث العلمي، والاقتصاد، والأمن، والتبادل الثقافي.

3- تمثيل المصالح الصومالية: السفارة ستكون منصة لخدمة الجالية الصومالية، ودعم الطلاب، وتعزيز الاستثمارات. إضافة إلى تمثيل وجهة النظر الصومالية في القضايا الإقليمية.

4- مواكبة التغييرات الإقليمية: تأتي إعادة الافتتاح في وقت تشهد فيه المنطقة تغيّرات استراتيجية؛ ما يجعل تعزيز العلاقات مع دول محورية، مثل الجزائر، ضرورة لتعزيز الاستقلالية السياسية، ومواجهة الضغوط الدولية.
وتأسيسا على ذلك، فإن إعادة فتح السفارة ليست مجرد إجراء إداري، بل خطوة استراتيجية، تعكس توجّهًا جديدًا في السياسة الخارجية الصومالية، نحو بناء شراكات متوازنة وفاعلة. 

خامسا: الدور الدبلوماسي للسفير الصومالي الجديد في الجزائر

يُمثّل تعيين السفير يوسف أحمد حسن- سفيرًا فوق العادة، ومفوّضًا للصومال في الجزائر مطلع 2025- خطوة مهمة في تفعيل الدبلوماسية الصومالية، والانفتاح على الشركاء الإقليميين. فمنذ تقديم أوراق اعتماده- استطاع السفير أن يرسّخ حضورًا صوماليًا فاعلًا في الجزائر، ويكسب تقدير القيادات الجزائرية، بفضل أسلوبه الدبلوماسي الهادئ، وقدرته على بناء الثقة .واستطاع أن يعيد الحضور الصومالي إلى المشهد الرسمي، والإعلامي في الجزائر بطريقة لافتة.

لقد نجح السفير خلال فترة وجيزة في إعادة تنشيط العلاقات الثنائية، بعد سنوات من الجمود، خصوصًا عبر تفعيل التعاون الأكاديمي والثقافي، الذي تُوّج بتوقيع اتفاقية التعليم العالي والبحث العلمي، إلى جانب تعزيز الحوار السياسي بين مؤسسات البلدين. كما أسهم في تحسين صورة الصومال في الأوساط الرسمية والشعبية الجزائرية، وتعزيز التواصل بين النخب الفكرية والأكاديمية في البلدين؛ مما أعاد الاهتمام بالصومال كشريك استراتيجي. ويُنظر إلى السفير يوسف أحمد حسن بوصفه نموذجًا لجيل جديد من الدبلوماسيين الصوماليين، القادرين على تحويل السفارة إلى منصة فاعلة للتعاون الإقليمي. وتحقيق مكاسب سياسية وأكاديمية ملموسة للصومال.

خــــــــاتـمـة

مثّل زيارة الرئيس حسن شيخ محمود إلى الجزائر- محطة مفصلية في مسار الدبلوماسية الصومالية الحديثة. وتعبّر عن توجه جديد أكثر فاعلية وانفتاحًا نحو شراكات استراتيجية، تقوم على الندية والمصالح المشتركة، بعيدًا عن التبعية للمحاور التقليدية أو الجمود السياسي.

وقد برهنت الجزائر، بتجربتها ومواقفها، على إمكانية بناء علاقة متوازنة مع الصومال، ترتكز على احترام السيادة والدعم المتبادل؛ مما يجعلها نموذجًا ملهمًا، يمكن أن يُحتذى به في تعزيز علاقات الصومال مع بقية الدول الإفريقية والعربية، وتفعيل حضوره في المحافل الإقليمية والدولية.

وتكتسب الزيارة زخمًا إضافيًا بفضل الدور الفاعل للسفير الصومالي الجديد، الذي ساهم في تحويلها من خطوة رمزية، إلى مسار عملي يشمل ملفات التعليم، والدبلوماسية، والتنمية. وعليه، تأتي هذه الزيارة ضمن مشروع وطني أشمل لإعادة تعريف دور الصومال إقليميًا ودوليًا، كدولة مستقلة تسعى إلى بناء شراكات متوازنة ومستقبل أكثر استقرارًا.

وأخيرا تعكس هذه الزيارة رسالة سياسية واضحة للمجتمع الدولي، مفادها أن الصومال يطمح لاستعادة دوره الطبيعي كفاعل إفريقي– عربي مؤثر، لا كطرف هامشي أو تابع للإملاءات الخارجية.

عبد القادر غولني

أكاديمي وباحث مختص في الشأن الإفريقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى