تقدير موقف

الاتحاد الإفريقي يطالب باعتماد خريطة بديلة تُظهر إفريقيا بحجمها الحقيقي

مبادرة سياسية تتجاوز الجغرافيا إلى معركة الاعتراف

في منتصف أغسطس 2025 أعلن الاتحاد الإفريقي دعمه الرسمي لحملة تسعى إلى تصحيح ما يعتبره كثيرون أحد أبرز أشكال التشويه الرمزي الذي رافق إفريقيا لقرون طويلة، وهو طريقة تمثيلها على الخرائط العالمية.

فقد تبنى الاتحاد دعوة من منظمات مدنية مثل Africa No Filter وSpeak Up Africa إلى استبدال خريطة ميركاتور، التي تعود إلى القرن السادس عشر، بخريطة بديلة حديثة مثل إسقاط الأرض المتكافئ أو الأرض المتساوية (Equal Earth projection) التي وُضعت عام 2018.

إنّ المطلب يبدو للوهلة الأولى فنياً وجغرافياً بحتاً؛ لكنه في الواقع يكشف عن صراع طويل مع سرديات رسخت صورة إفريقيا على أنها هامشية وصغيرة، بينما هي في حقيقتها ثلاث مرات أكبر من أوروبا وتضم أكثر من مليار ونصف المليار إنسان.

إنّ خريطة ميركاتور، التي صُممت أصلاً لخدمة الملاحة الأوروبية في زمن التوسع الاستعماري، جعلت كتلًا صغيرة كغرينلاند تبدو بحجم إفريقيا تقريباً، وهو تشويه لا يخلو من دلالات تتجاوز التقنية البحتة. ولقد استُخدمت الخرائط عبر التاريخ كأدوات للسلطة بقدر ما كانت أدوات للمعرفة، فهي لم تعكس الواقع فحسب؛ بل أسهمت في تشكيل المخيال العالمي وصياغة تصورات عن المركز والهامش، عن الشمال والجنوب، وعمن يملك القوة ومن يفتقدها.

لهذا، فإن تحرك الاتحاد الإفريقي لا يمكن قراءته بمعزل عن إرث الاستعمار وخطاباته الرمزية التي ما زالت تلقي بظلالها على حاضر القارة.

وتسعى هذه الحملة اليوم إلى إعادة تموضع إفريقيا في العالم، ليس فقط جغرافياً؛ بل أيضاً معنوياً. فالخريطة ليست مجرد أداة لتحديد الاتجاهات بقدر ما هي لغة بصرية تصوغ علاقات القوة، وتعيد إنتاج سرديات النفوذ، وتؤثر في الطريقة التي يُنظر بها إلى القارات والشعوب.

ولهذه الأهمية، يسعى فريق المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) إلى التعليق على هذه الخطوة من زاويتين مهمتين: من جهة، كيف تُعيد الخرائط إنتاج المعاني السياسية والرمزية في السياق الإفريقي؛ ومن جهة أخرى، كيف يمكن أن تؤثر الحملة في صورة القارة عالميًا، وما التحديات التي قد تواجهها عند محاولة فرض خريطة بديلة كمعيار معتمد.

ومن ثم فإن النقاش سيتناول ثلاث نقاط، وهي: البعد الرمزي والسياسي للخرائط، وانعكاسات الحملة على مكانة إفريقيا في النظام العالمي، ثم الإشكالات العملية المرتبطة بترجمة القرار إلى واقع مؤسسي وتقني.

أولا: البعد الرمزي والسياسي للخرائط

لم يكن قرار الاتحاد الإفريقي مجرد نقاش تقني حول أيّ إسقاط جغرافي هو الأدق؛ بل هو إعلان سياسي بامتياز. فالخرائط لطالما حملت وظيفة مزدوجة، وهي: أداة عملية للملاحة والتنقل، وأداة رمزية لترتيب العالم وفق ميزان قوى محدد.

وحين رُسمت خريطة ميركاتور في القرن السادس عشر، كان الهدف تسهيل حركة السفن الأوروبية في البحار؛ لكنها مع مرور الزمن صارت تُدرَّس وتُستخدم في المدارس والمؤسسات الرسمية باعتبارها الخريطة “الطبيعية” للعالم. لقد أضفى هذا الاستخدام شرعية على رؤية للعالم تُعلِي من شأن الشمال وتقلّص الجنوب، في انعكاس مباشر لبنية القوة الاستعمارية آنذاك.

وكانت إفريقيا الضحية الكبرى لهذا التشويه، إذْ تحولت إلى مساحة صغيرة على الورق رغم امتدادها الهائل وثرائها السكاني والمواردي.

هذا الانكماش البصري، رسّخ صورة ذهنية بأن القارة مجرد “هامش” جغرافي، لا مركز قوة مستقل. وبهذا المعنى، فإن مبادرة الاتحاد الإفريقي هي محاولة لاستعادة جزء من الذاكرة البصرية المفقودة، ولإعادة بناء تمثيل رمزي يعكس مكانة القارة الحقيقية.

إنّ إعادة رسم الخريطة ليست مسألة كرامة مجردة فحسب؛ بل هي فعل سياسي يتحدى السرديات الاستعمارية ويعلن عن رغبة إفريقيا في إعادة صياغة مكانها في العالم.

فإعادة الاعتبار للحجم والمساحة إذن هي رسالة للعالم بأن الزمن قد تغيّر، وأن الاستعمار لم يعد له حق احتكار إنتاج المعرفة والرمزية. فالخرائط، مثلها مثل النصوص التاريخية أو المتاحف، هي أدوات لصناعة الذاكرة.

وما يقوم به الاتحاد الإفريقي اليوم هو إعادة كتابة جزء من هذه الذاكرة بلغة بصرية جديدة، تقول ببساطة إن إفريقيا أكبر بكثير مما صُوّرت، وأنها تستحق أن تُرى كما هي في حقيقتها.

ثانيا: انعكاسات الحملة على صورة إفريقيا عالميًا

إنّ دعم الاتحاد الإفريقي للحملة لا ينفصل عن صراع أكبر على الصورة والرمزية في النظام العالمي المعاصر. فالقارة تسعى منذ عقود إلى الخروج من إطار التمثيلات النمطية التي تُحصرها في خانة الفقر والصراعات، دون إظهار جوانب قوتها وديناميتها السكانية والاقتصادية.

إن تبني خريطة تُظهر الحجم الحقيقي لإفريقيا قد يبدو خطوة بسيطة؛ لكنه في الواقع يضرب في عمق الخطاب الذي يقلل من شأنها في المخيال العالمي.

إفريقيا التي تضم إحدى أسرع المجتمعات نموًا في العالم، وتملك ثروات هائلة في الطاقة والمعادن والزراعة، ستستفيد اليوم من أيّ مبادرة تعزز حضورها الرمزي. فحين يرى العالم على الخريطة أنّ إفريقيا أضعاف أوروبا مساحةً وسكانًا، فهذا يغير — ولو جزئيًا — الطريقة التي تُتصور بها القارة في أذهان الطلاب، والإعلاميين، وصناع القرار. إنّ الرمزية هنا تتحول إلى رصيد دبلوماسي وثقافي يمكن البناء عليه في المفاوضات الدولية وفي العلاقات الاقتصادية.

لكن الانعكاسات لا تقتصر على الخارج فقط، فداخليًا، قد تُسهم هذه الخطوة في تعزيز شعور الوحدة والفخر القاري بين الشعوب الإفريقية.

فحين تتبنى مؤسسة كبرى مثل الاتحاد الإفريقي خريطة جديدة، فإنها تمنح إشارة بأن القارة قادرة على صياغة روايتها الخاصة. هذه القدرة على إعادة التعريف الذاتي أمام الذات وأمام العالم على حد سواء هي جزء من معركة أوسع لإعادة تملك السرديات بعد عقود من التبعية لخطابات الآخر.

ثالثا: التحديات العملية أمام تبني الخريطة البديلة

رغم الطابع الرمزي القوي للحملة، فإنّ ترجمتها إلى واقع عملي تواجه تحديات معقدة. فالخرائط ليست مجرد صور؛ بل هي أدوات معيارية تستخدمها المدارس، الجامعات، وسائل الإعلام، والمؤسسات الدولية. فتغيير هذه الأدوات يتطلب قرارات سياسية، وجهدًا لوجستيًا، واستثمارات في المناهج التعليمية والبرمجيات الرقمية.

وحتى إنّ اعتمد الاتحاد الإفريقي خريطةالأرض المتكافئة رسميًا، فإن فرضها على نطاق عالمي يحتاج إلى تحالفات أوسع تشمل الأمم المتحدة والمؤسسات الإعلامية الكبرى، مثل: الـ BBC، والـ CNN.

إضافة إلى ذلك، هناك عقبة تتعلق بالازدواجية؛ إذْ لا يزال العديد من المواقع الرسمية للاتحاد الإفريقي نفسه يستخدم خريطة ميركاتور حتى بعد إعلان دعمه للحملة.

هذا يعكس فجوة بين الخطاب والممارسة، ويشير إلى أنّ الانتقال نحو خريطة جديدة قد يستغرق وقتًا طويلاً. لأنّ التغيير يحتاج إلى خطة تنفيذية تبدأ من الداخل قبل أن تُقنع الخارج، وإلا فإن المبادرة قد تبقى رمزية أكثر منها عملية.

وأخيرًا، هناك سؤال عن مدى استعداد العالم لاعتماد خريطة لا تخدم مصالحه الرمزية. فالدول الأوروبية والأمريكية لطالما استفادت من تمركزها البصري على الخرائط، وإعادة ترتيب الصورة لصالح إفريقيا قد يُقابَل بمقاومة صامتة.

فالتحدي الأكبر إذن ليس تقنياًّ فحسب؛ بل سياسي أيضا. هل لدى إفريقيا وحلفائها ما يكفي من القوة الدبلوماسية والاقتصادية للضغط من أجل فرض خريطة جديدة تصبح معيارًا دوليًا؟

الخاتمة

إنّ انضمام الاتحاد الإفريقي إلى الحملة المطالِبة بتبني خريطة بديلة تكشف الحجم الحقيقي للقارة يعكس رغبة متنامية في إعادة صياغة السرديات العالمية حول إفريقيا. فالخرائط لم تكن يومًا محايدة؛ بل شكّلت أدوات لهيمنة رمزية أنتجت صورًا مغلوطة رسخت فكرة أن إفريقيا “أصغر” أو “أقل أهمية” مما هي عليه. اليوم، تسعى القارة إلى قلب هذه المعادلة من خلال مبادرة تتجاوز الجغرافيا لتدخل في عمق معركة المكانة والاعتراف.

غير أن نجاح هذه الخطوة لا يكفي أن يبقى على مستوى الشعارات أو البيانات الرسمية؛ بل يتطلب إجراءات مدروسة. ومن هنا يمكن تقديم ثلاث توصيات دقيقة وقابلة للتنفيذ، وهي:

  1. اعتماد الخريطة البديلة رسميًا داخل المؤسسات الإفريقية عبر دمجها في المناهج التعليمية، وفي الوثائق الرسمية، وفي المواقع الإلكترونية التابعة للاتحاد الإفريقي والدول الأعضاء. هذه الخطوة الداخلية ستمنح المصداقية وتضع الأساس لتوسيع الحملة خارج القارة.
  2. إطلاق برنامج دبلوماسي منظم يستهدف الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة اليونسكو، بالإضافة إلى وسائل الإعلام العالمية الكبرى، ووكالات الأنباء الدولية؛ لدفعها إلى تبني الخريطة الجديدة. ويمكن أن يقترن هذا الجهد بمؤتمرات ومعارض بصرية تعرض الخرائط البديلة كجزء من إعادة كتابة السردية الإفريقية.
  3. إنشاء منصة رقمية إفريقية موحدة للخرائط توفر نسخة معيارية معتمدة من الخريطة الجديدة، تكون متاحة للباحثين والمدارس والإعلام، ما يضمن وصولها إلى أوسع نطاق ممكن ويمنع العودة إلى الخرائط القديمة بحكم الاعتياد أو غياب البدائل.

بهذه الخطوات، يتحول القرار من مجرد بيان سياسي إلى أداة عملية لإعادة تعريف صورة إفريقيا، بما يعزز مكانتها الرمزية ويدعم حضورها السياسي والثقافي في النظام العالمي. فالخريطة ليست مجرد مساحة مرسومة على ورق؛ بل هي دعوة لأن يُنظر إلى إفريقيا بحجمها الحقيقي ومكانتها المستحقة.

 

 

 

 

 

أفروبوليسي

المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) مؤسسة مستقلة تقدم دراسات وأبحاثاً حول القضايا الأفريقية لدعم صناع القرار بمعرفة دقيقة وموثوقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى