تحليلات

إفريقيا ومبادرة الحزام والطريق: بين وعود التنمية ومخاوف الهيمنة الصينية

في صباح هادئ من أيام أكتوبر 2024، وقفتُ متأملا أمام مبنى الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا، لم يكن الدخول ممكنًا في ذلك اليوم؛ لكن المشهد وحده كان كافيًا ليستوقفني طويلًا. المبنى، الذي شُيّد عام 2012م بمنحة صينية تجاوزت 200 مليون دولار، ينهض بزجاجه الأزرق البارد وسط عراقة العاصمة الإثيوبية، كأنه يُجسّد تحولًا رمزيًا في مسار العلاقات الصينية الإفريقية، من الخطابات الدبلوماسية إلى الحضور البنيوي، ومن الشراكة المُعلنة إلى ما يصفه البعض بالهيمنة الناعمة.

ومنذ إطلاقها عام 2013م، تهدف مبادرة الحزام والطريق الصينية (Belt and Road Initiative) إلى إعادة تشكيل خريطة الترابط العالمي من خلال إنشاء شبكة واسعة من البنية التحتية، تشمل موانئ بحرية، طرقًا برية، وخطوط سكك حديدية ومناطق لوجستية، تربط الصين بالقارات الثلاث: آسيا، وأوروبا، وإفريقيا. وقد تجاوزت الاستثمارات المعلنة ضمن هذه المبادرة 1 تريليون دولار، شملت ما يزيد عن 150 دولة.

في إفريقيا، اتخذت المبادرة شكل مشاريع ضخمة مثل ميناء باجومويو في تنزانيا، وخط سكة مومباسا-نيروبي في كينيا، والسكة الحديدية بين أديس أبابا وجيبوتي، فضلًا عن تمويل مقرات مؤسسية حساسة، وهو ما أثار نقاشًا واسعًا حول مآلاتها التنموية، وشروطها المالية، وأبعادها الجيوسياسية.

وعلى هذا الأساس، ينطلق هذا المقال من سؤال جوهري، ألا وهو: هل تمثل مبادرة الحزام والطريق شريكًا تنمويًا حقيقيًا لإفريقيا؟ أم أنها تُعيد إنتاج نمط جديد من التبعية عبر أدوات الاستثمار والبنية التحتية؟

وللإجابة على هذه التساؤلات، سنتوقف عند ثلاث محطات رئيسة، ألا وهي: التعرف على الأثر الاقتصادي المباشر للمشاريع الصينية في القارة، وتسليط الضوء على الإشكالات المالية المرتبطة بدبلوماسية الديون، والتعرف على مسارات النفوذ السياسي والاستراتيجي المتنامي للصين في الفضاء الإفريقي، قبل أن نختم بقراءة نقدية للرؤية الإفريقية تجاه هذه المبادرة، وما إن كانت تُدار من موقع الندية أم تحت وطأة العجلة التنموية.

لا يقدم هذا المقال أجوبة جاهزة؛ بل يسعى إلى إعادة ترتيب المشهد، وتأمل الملامح التي ترتسم بهدوء خلف واجهات الزجاج… وفوق قضبان السكك الممدودة على خارطة الطموح الإفريقي.

1. هل تعزز مبادرة الحزام والطريق تنمية إفريقيا الاقتصادية؟

شكّلت مشاريع البنية التحتية الضخمة المدعومة من الصين في إفريقيا إحدى أبرز أدوات مبادرة الحزام والطريق لإعادة تشكيل المشهد الاقتصادي في القارة. ورغم ما حققته هذه المشاريع من نتائج ميدانية، فإن آثارها تظل مزدوجة، بين التحفيز الفوري للاقتصاد المحلي، وتحديات مستدامة تتعلق بالاعتماد المفرط على الخارج وضعف القيمة المضافة الداخلية.

في شرق إفريقيا وتحديدا في كينيا، مثّل مشروع سكة الحديد القياسية مومباسا–نيروبي [1](SGR) تحولًا لوجستيًا نوعيًا. امتد الخط على طول 472 كم، وربط الميناء البحري الرئيسي في مومباسا بالعاصمة نيروبي. وبلغت تكلفته نحو 3.2  مليار دولار، غطّى معظمها قرض من بنك التصدير والاستيراد الصيني. ومنذ تشغيله عام 2017م، خفّض زمن الشحن من الميناء إلى العاصمة من 12 إلى أقل من 5 ساعات، مما عزز كفاءة النقل الداخلي والتبادل التجاري مع الدول المجاورة.

كما أسهم في نقل أكثر من 5 ملايين مسافر، و13 مليون طن بضائع خلال خمس سنوات. لكن في المقابل، واجه المشروع انتقادات حادة بشأن ارتفاع مستوى الدين العام، إذْ تم رهن جزء من عائدات الموانئ الكينية لضمان السداد، كما أنّ نسبة التصنيع المحلي والمشاركة التكنولوجية كانت محدودة، فيما تم استيراد معظم المعدات من الصين، وتولى العمال الصينيون غالبية العمليات الفنية.

أما في شمال إفريقيا، فقد اكتسب مشروع العاصمة الإدارية الجديدة[2] في مصر بعداً رمزيّاً وتنمويّاً آخر. حيث نفذته شركة البناء الصينية العملاقة CSCEC على بعد 45 كم شرق القاهرة، ويضم منطقة الأعمال المركزية التي تحتوي على 20 برجاً، أبرزها البرج الأيقوني (385 مترًا)، الأعلى في إفريقيا. وتبلغ المساحة المبنية للبرج أكثر من 2600,000 متر مربع، وتم تنفيذ صبّ أساساته الخرسانية في عملية غير مسبوقة استمرت 38 ساعة متواصلة.

وفر المشروع آلاف الوظائف المؤقتة، وأسهم في تدريب عدد من المهندسين المصريين على تقنيات جديدة، مثل: “الدعامات ما بعد الحقن”. كما يُتوقع أن يُسهم المشروع في تخفيف الضغط السكاني عن القاهرة، وتسهيل إدارة شؤون الدولة من موقع حضري حديث. لكن رغم ذلك، تظل ملكية المعرفة ونقل التكنولوجيا ضعيفة؛ إذْ بقيت الشركات الصينية المتحكمة في التصميم والتنفيذ، في حين اقتصرت العمالة المحلية على الأعمال غير التخصصية، ما يُضعف من فرص خلق صناعة بناء وطنية متقدمة.

وفي القرن الإفريقي، يمثل مشروع سكة حديد أديس أبابا–جيبوتي نموذجًا آخر للربط العابر للحدود بطول 752 كم، وبتكلفة تجاوزت 4.5 مليار دولار، مُوِّل المشروع جزئياً من خلال قروض صينية بشروط ميسرة. وشغّل المشروع أول قطار كهربائي في إفريقيا، ما خفض كلفة النقل بنسبة 30%، وسرّع ربط إثيوبيا، الدولة الحبيسة، بميناء جيبوتي، الذي يُعَدُّ منفذها التجاري الرئيس.

ودُرِّب بعض المهندسين الإثيوبيين، إلا أنّ التشغيل ما زال يعتمد على خبرات صينية، بينما تفتقر الشركة المشغلة المحلية إلى الاستقلال الفني. وعلى الرغم منْ خلق آلاف فرص العمل المؤقتة خلال الإنشاء، بقيت العمالة المحلية محصورة في المهام البسيطة، دون برامج مؤسسية لتأهيلها، أو تمكينها مستقبليّاً.

فبشكل عام، أتاحت هذه المشاريع فرص تحسين الربط اللوجستي، وزيادة كفاءة النقل، وتحفيز التجارة الإقليمية، وأسْهمتْ في خلق فرص عمل مؤقتة وتحولات حضرية واعدة. لكن في المقابل، كشفتْ عن غياب استراتيجية واضحة لتوطين التكنولوجيا، أو تعزيز القيمة المحلية المضافة؛ حيث تُمنح العقود الكبرى لشركات صينية، وتبقى العمالة الإفريقية في موقع المتلقي، لا الشريك.

2. دبلوماسية الديون.. بين التمكين المالي والتوريط

في العقد الأخير، تحولت القروض الصينية إلى أداة مركزية في تمويل مشاريع البنية التحتية بإفريقيا، وخاصة تلك التي تعجز المؤسسات المالية التقليدية عن تغطيتها. لكن، قد أثار هذا الانفتاح المالي مخاوف متصاعدة بشأن ما يُعرف بـ “دبلوماسية الديون“، أيْ استخدام التمويل كوسيلة لتعزيز النفوذ السياسي والسيطرة على أصول استراتيجية.

وتشير بيانات رسمية، ودراسات متقاطعة إلى أنّ أكثر من 12 دولة إفريقية باتت عرضة لانكشاف مرتفع أمام الديون الصينية. فعلى سبيل المثال:

  • جيبوتي: تعتمد على الصين في أكثر من 70% من ديونها الخارجية.
  • أنغولا: ترتبط بأكثر من ربع ناتجها المحلي الإجمالي في صورة قروض صينية، ضمن صفقات “نفط مقابل تمويل” تفتقر للمرونة وتستنزف الموارد.
  • زامبيا: أول دولة إفريقية تتخلف عن سداد ديون سيادية خلال جائحة كورونا، وسط اتهامات بغياب الشفافية في عقودها مع بكين، ضمن عوامل أخرى طبعا.

غالباً ما تُبرم هذه القروض بضمانات سيادية أو عينية (أراضٍ، موارد)، وتفتقر إلى شروط مرنة لإعادة التفاوض، أو الإعفاء عند الأزمات. كما أنّ الطابع السري للعقود في كثير من الدول يحدّ من الرقابة البرلمانية والمجتمعية.

ويُسْتَدَل كثيراً بمثال ميناء هامبانتوتا في سريلانكا، الذي تم تأجيره للصين لمدة 99 عاماً بعد تعثر كولومبو في السداد، كتحذير من احتمال فقدان السيطرة على أصول استراتيجية.

فالتحدي الحقيقي لا يكمن في رفض التمويل الصيني بحد ذاته؛ بل في صياغة شروط عادلة، وتوظيف القروض لبناء القدرات الإنتاجية، وتعدد الشراكات التفاوضية. في غياب التنسيق الإقليمي، والرقابة المؤسسية، قد يحوّل التمويل إلى فخّ، بدلا من أن يكون فرص تنمية. فمع كل مشروع ضخم يُبنى، تنشأ معادلة جديدة من التأثير السياسي، مما يستدعي نقاشاً جادّاً حول النفوذ المتنامي للصين في إفريقيا من مقاربة إفريقية وليس في سياق التنافس الدولي، وخاصة الروايات الغربية.

3. النفوذ الجيوسياسي الصيني في إفريقيا

لم تَعُدِ العلاقات الصينية الإفريقية محصورة في التجارة والبنية التحتية؛ بل تحولت تدريجيّاً إلى شبكة معقدة من المصالح الجيوسياسية المتشابكة. فالصين، منْ خلال مساعداتها المالية، واستثماراتها الضخمة، نسجتْ خيوط نفوذ سياسي متصاعد في القارة، تجاوز البُعد التنموي؛ ليبلغ مستويات من التأثير الاستراتيجي.

فتعتمد بكين على نموذج “المساعدة بدون شروط“، ما يجعلها شريكاً مفضلاً لدى عدد من الأنظمة التي تواجه انتقادات دولية بسبب سجلها في حقوق الإنسان. ففي السودان وزيمبابوي وأوغندا، على سبيل المثال، وفّرت الصين تمويلاً ومساعدات دون اشتراط إصلاحات سياسية، الأمر الذي اعتبره البعض دعماً ضمنيّاً لاستمرارية الأنظمة السلطوية، مقابل تأمين مصالح اقتصادية وجيوسياسية طويلة المدى.

وعلى صعيد أكثر استراتيجية، أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها خارج أراضيها في جيبوتي، تحت غطاء “قاعدة لوجستية“. ورغم التبرير الرسمي المتعلق بحماية المصالح التجارية ومكافحة القرصنة، فإنّ القاعدة تعكس تحوّلاً في العقيدة الأمنية الصينية، من الاعتماد على الدبلوماسية الاقتصادية فقط إلى توظيف أدوات القوة الصلبة عند الحاجة.

وفي المجال الدبلوماسي، يتجلى الحضور الصيني المتصاعد في تمويل مقر الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا، وهي خطوة رمزية ومؤسسية تعزز من دور بكين كفاعل محوري في السياسات القارية. غير أنّ تقارير إعلامية، واستخباراتية، أثارت لاحقاً شبهات حول اختراقات سيبرانية، واستخدام الخوادم لنقل بيانات حساسة، ما فتح الباب على مصراعيه أمام تساؤلاتٍ سيادية حرجة، مثل: هل ستشتري الصين النفوذ الرقمي كما تشتري النفوذ الاقتصادي؟

إنّ هذه التحولات تفرض على إفريقيا إعادة النظر في معادلة الشراكة؛ بحيث لا تكون دول القارة مجرد مسرح للتنافس الدولي؛ بل طرفاً فاعلاً يُعيد تعريف العلاقات وفقاً لأولويات التنمية، والحفاظ على استقلال القرار السيادي، وموازنة الشراكات الدولية بما يخدم مصالحها الوطنية والإقليمية طويلة الأمد.

4. المنظور الإفريقي.. تنمية مشروطة أم شراكة مستدامة؟

مع تصاعد الحضور الصيني في القارة، يثار سؤال جوهري: هل تمتلك الدول الإفريقية رؤية تفاوضية موحّدة تضمن تحقيق أقصى استفادة من هذه العلاقة، أم أنها تسير كلٌ على حدة ضمن صفقات ثنائية غير متوازنة؟

يشير الواقع إلى أنّ غياب التنسيق الإقليمي أدى إلى تفاوت كبير في شروط الاستدانة، واختلالات في جدوى بعض المشاريع، فضلاً عن تهميش المكون المحلي في دورة التنمية.

ففي ظل هذا التحدي، تبرز منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) كمبادرة مفصلية لإعادة تعريف العلاقة الاستثمارية مع الصين وغيرها، من خلال توجيه التمويل نحو مشاريع إقليمية عابرة للحدود، تعزز التكامل، وتوسّع الأسواق الداخلية، وتقلل من التبعية لأطراف خارجية. كما تتيح إطاراً تفاوضيّاً مشتركاً يمكِنُ أنْ يُستخدم لتوحيد معايير العقود، وتفضيل المشاريع ذات القيمة المضافة العالية.

ولكي تتحول إفريقيا من متلقٍ سلبي إلى شريك فاعل، لا بُدّ من اعتماد مبادئ جديدة في التفاوض، تقوم على الشفافية في العقود، وإدماج القطاع الخاص المحلي في مراحل التنفيذ، وفرض شروط عادلة تحفظ السيادة الاقتصادية، وتمنع الاستنزاف المالي طويل الأمد. فالشراكات المستدامة لا تقوم على مجرد تدفق الأموال؛ بل على بناء القدرات، وتطوير التكنولوجيا، وتعزيز شبكات الإنتاج المحلي والإقليمي.

إنّ صياغة “رؤية إفريقية موحدة” لم تعد ترفاً سياسيّاً؛ بل ضرورة تنموية عاجلة، تعيد تعريف العلاقات مع القوى الكبرى، وتضمن مستقبلًا أكثر توازناً وعدالة للأجيال القادمة.

خاتمة

ليست مبادرة الحزام والطريق مجرد مشروع بنى تحتية عابر للقارات؛ بل منظومة سياسية واقتصادية تمتد آثارها لعقود قادمة. وفي إفريقيا؛ حيث تلتقي الحاجة الملحة للتنمية مع طموحات قوى كبرى مثل الصين، تُعاد صياغة توازنات النفوذ في ظل فجوة تفاوضية ملموسة لدى العديد من الدول الإفريقية.

لقد استعرض هذا المقال أبرز أوجه التعاون بين الصين وإفريقيا من بوابة البنية التحتية، وناقش آثارًا اقتصادية آنية مثل تحسين الربط اللوجستي وتعزيز التجارة؛ لكنه كشف أيضاً عن إشكالات مزمنة في طبيعة العقود، وتوزيع القيمة المضافة، وتعميق المديونية في غياب الشفافية. كما تطرق إلى البُعد الجيوسياسي المتصاعد لهذا الحضور الصيني، بما يحمله من دعم سياسي غير مشروط، وأدوات نفوذ جديدة في المؤسسات الإقليمية والمواقع الاستراتيجية.

غير أنّ مستقبل هذه العلاقة لا يجب أن يُحسم في بكين فقط؛ بل في العواصم الإفريقية ذاتها. إنّ ما تحتاجه القارة اليوم ليس فقط شراكات استثمارية؛ بل موقفاً تفاوضيّاً موحّداً، ورؤية تنموية واضحة، ومؤسسات قارية قادرة على صياغة مصالح إفريقية خالصة ضمن عالم يتغير بسرعة. فالتعددية في الشراكات، وتمكين الفاعلين المحليين، وتوطين التكنولوجيا، تمثل مفاتيح التحول من التبعية إلى التكافؤ، ومن المقاولة إلى القيادة.

وبين الحذر من فخاخ النفوذ، والأمل في قاطرة تنموية جديدة، تظل الكرة في الملعب الإفريقي متدحرجة ببطء: هل نملك الشجاعة لتوجيه البوصلة نحو شراكة تحفظ السيادة، وتخدم الإنسان، وليس فقط تلك التي ترتبط بالجغرافيا؟

[1] https://en.wikipedia.org/wiki/Mombasa%E2%80%93Nairobi_Standard_Gauge_Railway
[2] http://www.xinhuanet.com/english/2019-03/18/c_137902708_2.htm

تحليلات المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات

 

محمد زكريا

باحث دكتوراه في الاقتصاد الإسلامي والتمويل، متخصص في التمويل الأخضر (الصكوك الخضراء)، ومهتم بقضايا إفريقيا الاقتصادية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى