أقيمت ورشة نقاش تحت عنوان أفريقيا كساحة استراتيجية: ديناميات التنافس الجيوسياسي بين القوى العظمى، التي نظمها معهد الدراسات الاستراتيجية والأمنية جسر التابع لجامعة حمد بن خليفة القطرية بالشراكة مع المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات أفروبولسي، بتاريخ 2 جوان 2025 عبر تقنية Google Meet (جوجل ميت) والتي دامت قرابة ساعتين ونصف. وقد جمع هذا الحدث خبراء وباحثين وأكاديميين لمناقشة الديناميكيات واستراتيجيات الصراع الدولي في أفريقيا. ودارت المناقشات حول الأبعاد السياسية، والاقتصادية، والاستراتيجية للتنافس، وانعكاساته.
افتتحت الورشة بكلمة ترحيبية ألقاها الدكتور محمد علي الشيحي، المدير التنفيذي للمعهد العالمي للدراسات الاستراتيجية (جسر)، رحب فيها بالمشاركين وأبرز أهمية مناقشة موضوع “ديناميات التنافس الجيوسياسي بين القوى العظمى في القارة الافريقية”. وأكد في كلمته على دور أهمية الموضوع وتوقيته في ظل البيئة الإقليمية والدولية المتغيرة.
المدخل النظري والتاريخي: الجغرافيا كمحدد للقدر السياسي
افتتحت الورشة بمداخلة للدكتور بهاء الدين مكاوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة قطر، تناول فيها الأبعاد التاريخية والجغرافية التي أسست لشكل التنافس الحالي على القارة الإفريقية. أشار المتحدث إلى أن الإرث الاستعماري لا يزال حاضرًا في بنية العلاقات الإفريقية الدولية، حيث ترك آثارًا عميقة في توزيع السلطة، الاقتصاد، ومراكز النفوذ. وتطرّق إلى أن الجغرافيا الإفريقية – من موقعها الاستراتيجي الرابط بين المحيطين الأطلسي والهندي، مرورا بممرات التجارة العالمية – شكلت منذ العصور الحديثة عنصر جذب دائم للقوى الطامحة إلى النفوذ، وهذا ما يجعل التنافس اليوم ليس وليد اللحظة، بل استمرار لمسار تاريخي طويل يعاد تشكيله بأدوات جديدة.
القوى العظمى واستراتيجيات التغلغل
في المداخلة الثانية، قدم الدكتور محمد صالح عمر، مدير المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات أفرو بوليسي، عرضا تحليليا لمسارات التنافس بين القوى العظمى في القارة. قسم الاستراتيجيات المتبعة إلى نمطين رئيسيين: القوة الصلبة والقوة الناعمة. فبينما تميل الولايات المتحدة إلى المزج بين الدعم الأمني والعسكري والمساعدات التنموية المشروطة، تعتمد الصين على مبدأ “الاستثمار مقابل النفوذ”، مركزة على مشاريع البنية التحتية الكبرى ضمن مبادرة الحزام والطريق. أما روسيا، فهي تسعى لفرض حضورها من خلال صفقات السلاح والدعم الدبلوماسي لأنظمة معينة. وأوضح أن الاتحاد الأوروبي يسعى للحفاظ على نفوذ ما بعد الاستعمار من خلال أدوات الحوكمة والمساعدات المشروطة بالإصلاحات.
وقد أشار إلى أن رد الفعل الإفريقي على هذا التدافع الخارجي يتراوح بين التكيف الحذر والسعي إلى الاستفادة المتوازنة من الفرص، ولكن في ظل غياب استراتيجية موحدة، تظل معظم الدول الإفريقية مهددة بالارتهان الاقتصادي والسياسي.
أفريقيا كمنصة للصراع الاقتصادي: الموارد الطبيعية بين لعنة وثروة
جاءت المداخلة الثالثة للدكتور محمد زكريا، الزميل الباحث بالمركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات، لتسلط الضوء على البعد الجيو-اقتصادي في التنافس. من خلال عرض بصري تفصيلي، استعرض كيف تحوّلت أفريقيا إلى ساحة مفتوحة للتزاحم على الموارد، حيث تحتوي القارة على نسب ضخمة من المعادن الحيوية: 60% من الكوبالت، 40% من الذهب، 90% من البلاتين، وكميات ضخمة من الليثيوم والنحاس.
تناول المتحدث كذلك المقارنة بين مبادرتين متنافستين تمثلان توجهين متناقضين:
• الأولى هي مبادرة الحزام والطريق الصينية، والتي رغم ما توفره من تمويلات سريعة وتنفيذ مشاريع ضخمة، تترك خلفها إشكالات في المديونية والسيادة التقنية.
• أما الثانية فهي مبادرة “ممر لوبيتو” بقيادة أمريكية–أوروبية، والتي تقدم نفسها كبديل أكثر توازنًا، قائم على تقوية التكامل الإقليمي و”الشراكة لا السيطرة”.
من بين الأفكار المثيرة التي طرحت في هذا السياق، تلك التي ترى أن على الدول الإفريقية عدم الارتهان لهذا التنافس، بل تحويله إلى آلية تفاوضية لصالح مشاريع أجندة 2063 الإفريقية، وفرض عقود تنموية عادلة تنقل التقنية وتبني القدرات.
الأبعاد الأمنية والعسكرية للتنافس الجيوسياسي
تحدث الدكتور جمال عبد الرحمن رستم عن الأبعاد العسكرية، مشيرًا إلى تصاعد عدد القواعد العسكرية الأجنبية في أفريقيا، خصوصًا في القرن الإفريقي والخليج الغيني. كما أشار إلى أن ما يسمى بمكافحة الإرهاب أصبح ذريعة لتدخلات عسكرية متعددة الأوجه، وأن الحروب بالوكالة، كما في ليبيا ومالي، أصبحت نمطًا متكرّرًا يعيد تشكيل خارطة التحالفات المحلية.
ونبّه إلى خطورة توظيف البُعد الأمني كوسيلة للنفوذ، مما يُفقد الدول الإفريقية استقلالها الأمني على المدى الطويل ويضعف بناء مؤسساتها الدفاعية الذاتية.
التموضع الإفريقي: بين الاستقلالية والانحياز
تناول الدكتور ياسر محمد العبيد وضع أفريقيا في ظل التنافس الدولي، معتبرًا أن العالم يتجه نحو نظام متعدد الأقطاب، وأفريقيا مطالبة بالتموضع الذكي ضمن هذا السياق. دعا إلى ضرورة أن توحّد القارة مواقفها، لا سيما في المنتديات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجموعة العشرين، وأن تضغط باتجاه تمثيل عادل في مجلس الأمن.
واعتبر أن النخب السياسية والاقتصادية الإفريقية يجب أن تلعب دورًا أكبر في بناء شراكات استراتيجية تعزز من مناعة القارة تجاه الضغوط الدولية، لا سيما تلك المرتبطة بالمساعدات المشروطة.
أدوات القوة الناعمة: الثقافة والإعلام كجبهات نفوذ
اختتم الدكتور عبد الفتاح محمد الورشة بمداخلة حول التنافس الثقافي والإعلامي، مبرزًا أن القوى العظمى لم تعد تكتفي بالمشاريع الاقتصادية أو العسكرية، بل باتت تستثمر بكثافة في أدوات التأثير الثقافي. من معاهد التعليم والبعثات الثقافية إلى الإعلام الدولي ومنصات التواصل الاجتماعي، تحاول كل قوة كبرى تشكيل صورتها داخل المجتمعات الإفريقية.
وقد شدد على خطورة غياب إعلام إفريقي مستقل قادر على صياغة سردية ذاتية، إذ أن التحكم في السردية هو شكل من أشكال النفوذ الرمزي العميق، وأن مستقبل العلاقات الإفريقية–الدولية سيتأثر كثيرًا بالتحولات في هذا المجال.
خاتمة وتوصيات
خلصت الورشة إلى أن القارة الإفريقية تعيش لحظة تاريخية فارقة؛ فهي ليست مجرد ضحية للتنافس العالمي، بل بإمكانها – إن أحسنت التقدير والتنسيق – أن تحول هذا التنافس إلى فرصة تنموية غير مسبوقة. غير أن هذا التحول لن يتم إلا إذا توفرت إرادة سياسية إفريقية مستقلة، واستراتيجيات مشتركة تتجاوز الانقسامات القطرية.
أوصى المشاركون بضرورة دعم الاتحاد الإفريقي كجهاز تنسيقي فاعل، وبتأسيس آليات رقابية لتقييم تأثير الاستثمارات والمشاريع الدولية. كما شددوا على أهمية بناء شراكات قائمة على الندية، والابتعاد عن الارتهان لأي طرف دولي، واستثمار أدوات القوة الذاتية للقارة في الثقافة، التعليم، والابتكار.
وبعد انتهاء هذه المداخلات الرئيسية، واختتم الحدث بتحليل شامل للنتائج الرئيسية عبر فتح باب المداخلات أمام الحضور وهم ثلة من المختصين والمهتمين بالشأن الإفريقي للتعقيب والنقاش، ليتداخل الحاضرين بتساؤلاتهم وإضافاتهم حول موضوع الجلسة، بحيث عملت هذه التعقيبات والمداخلات على مقاربة الموضوع من مختلف زواياه، وقدمت وجهات نظر مختلفة حول هذا الموضوع. كما أجمعت الجلسة على مجموعة من التوصيات للاستفادة من التنافس الدولي في القارة الافريقية.
ندوات المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات
تحليلات المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات