تحليلات

فرنسا ودول الساحل … المفارقة العجيبة! انسحاب أم إعادة التموضع بأدوات جديدة؟

العلاقات الفرنسية – الإفريقية كانت دائماً محل شد وجذب، فتاريخياً استعمرت فرنسا بالقوة مناطق عديدة من القارة، مما جعلها تتعرض لازدراء شعبي نتيجة الجرائم والانتهاكات المرتكبة في حق الأفارقة. وبالرغم من خروجها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إلا رؤيتها لإفريقيا لم تتغيَّر واعتبرتها جزء لا يتجزأ منها، تتحكم في مصادر طاقتها ومواردها الطبيعية (العقود الطويلة الأجل)، وتسعى للحفاظ على مصالحها الوطنية فيها؛ كما وشكلت نُخباً افريقية مثقفة تؤيد وتدعم العلاقات معها وتدافع عنها أيضاً. لكن في المقابل؛ فإن ذلك لم يمنع من ظهور بعض الأحداث المرحلية تنادي بوضع أفضل بعيداً عن فرنسا وترى أن في كل تحدي هو فرصة يجب استغلالها.

غذت الأحداث الأخيرة في منطقة الساحل والصحراء من انقلابات عسكرية وسائل الإعلام الدولية، فقد حملت هذه الانقلابات لأول مرة في تاريخ القارة الإفريقية سرداً استراتيجياً مناهضاً للوجود الفرنسي في المنطقة، ومطالباً إياها بالخروج الفوري وسحب قواتها العسكرية.

هذا السرد الإستراتيجي جاء نتيجة تراكمات وممارسات تاريخية استعمارية وما بعدها، ففرنسا لم تستطع التخلص من ثوب المهيمن والمسيطر على عقول الأفارقة لنهب ثرواتهم الوطنية، غير أنه وبمرور سنوات عديدة؛ أدرك الأفارقة أنفسهم بأن قواعد اللعبة قد تغيَّرت، ويجب أن تصب في مصلحتهم الوطنية لا في مصلحة فرنسا.

تعيش دول الساحل والصحراء استقراراً هشاً؛ فأغلبية دولها تشهد حالات لا استقرار سياسي يصاحبه لا استقرار اقتصادي واجتماعي وحتى أمني، بتداخل عوامل كثيرة منتجةً بذلك دولاً هشة وفاشلة غير قادرة على إدارة شؤونها وعلاقاتها الوظيفية والمؤسسية؛ مما أدى إلى تعطيل عملية الانتقال الديمقراطي وتعزيز عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي وفقدان الشرعية وضعف الأداء المؤسسي.

وذلك مرجعه لأسباب أهمها تتعلق بـفشل الحكومات المدنية في الاستجابة لتطلعات شعوبها مما أدى إلى تدهوُّر الأوضاع الاقتصادية والسياسية، كما أن القارة على غرار نُظرائها الآخرين فإن الصراعات العرقية والإثنية تطفو على السطح، فالولاء للانتماء القبلي وجماعات الضغط والمصالح أكثر من الانتماء للوطن، الأمر الذي قد تُوظفه الجهات الخارجية لخدمة مصالحها وأهدافها الإستراتيجية.

من جانب آخر؛ فإن صراعات ونزاعات القارة الافريقية لا تنتهي، فلا نكاد ننهي واحداً حتى يظهر الآخر؛ ففي الوقت الحالي تدخل منطقة الساحل الإفريقي (مالي، النيجر وبوركينافاسو) مرحلة جديدة في تاريخها السياسي، فالدول الثلاث خرجت تدريجياً من الهيمنة الفرنسية، ولم تكتف فقط بذلك؛ بل تعدى الأمر إلى الخروج من منظمة غرب افريقيا (الإيكواس) في سابقة أولى من نوعها.

فعلى سنوات طوال، اعتبرت فرنسا مستعمراتها القديمة مناطق ارتكاز، وحديقة خلفية ونفوذ استراتيجي لها، تُشكل هذه الحديقة شريان اقتصادي حيوي لها؛ لذا بسطت نفوذها بأدواتها التقليدية على المنطقة أمنت لها بذلك الهيمنة العسكرية، الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية، وارتكز نُفوذُها على تجنيد نخب سياسية حاكمة، لضمان بقائهم فترة أطول في السلطة مع تبادل المصالح السياسية، الاقتصادية وحتى الأمنية، وأيضاً زيادة التغلغل الاقتصادي بإبرام عقود وصفقات تجارية طويلة الأجل.

أما ثقافياً؛ فتمثلت في تأسيس المنظمة الفرنكوفونية لتعزيز اللغة والثقافة الفرنسية كبديل عن اللغات المحلية التقليدية للسكان حتى أصبحت اللغة الرسمية الأولى في الدول الإفريقية؛ فأصبحت فرنسا الراعي الرسمي للأنظمة فيها حفاظاً على مصالحها الوطنية وتحقيقاً لأهدافها الاستراتيجية؛ غير أن الأوضاع الإقليمية الأخيرة، وبروز وعي وطني لدى الأفارقة، دفعهم إلى تبني نهج الانقلابات العسكرية وإعلان رفضهم للتواجد العسكري الفرنسي على أراضيهم؛ ما دفع فرنسا وأجبرها في الانسحاب التدريجي من هذه الدول.

من المهم أيضاً، التنويه بأن السياسة الأمنية والدفاعية الفرنسية في افريقيا إحدى العناصر والركائز الأساسية لقوتها ونفوذها في العالم، تسعى من خلالها للدفاع عن الدول الإفريقية عامة والساحلية خاصة وتسوية مختلف النزاعات الكائنة بها، وتستعين في ذلك بمجموعة من الترتيبات الأمنية منها على سبيل المثال؛ برنامج تعزيز القدرات الإفريقية لحفظ السلامProgramme Recamp  لمساعدة الدول الإفريقية على القيام بمفردها على وضع منظمات محلية في مجال الأمن وحفظ السلام.

كما أنه وقصد ضمان الأمن الفرنسي من كل التهديدات المتوقعة التي تهدد مصالحها الاستراتيجية، قدمت مساعداتها العسكرية والتقنية، وتعهدت الدول المستفيدة من “اتفاقيات المساعدة العسكرية والتقنية” ألا تُناشد إلا فرنسا من أجل اقتناء العتاد العسكري ولوازمه وصيانته، كما وظفت فرنسا المساعدة العسكرية العملياتية كصورة جديدة للمساعدة العسكرية التقنية، لتنظيم وإعداد القوات العسكرية المحلية الإفريقية، وأصبحت طريقة عمل مكملة للعمليات العسكرية التقليدية وتكييفها مع الأوضاع الجديدة، وتسمح لها بتعزيز الشراكة دون الإضرار بأمن مصالحها الحيوية.

وبما أن المنطقة معقدة ومتشابكة، وتعرف نشاطاً متزايداً للتهديدات الأمنية وفي مقدمتها الإرهاب؛ أصبحت المصالح الفرنسية مهددة أكثر من أي وقت مضى، لذا اعتمدت فرنسا استراتيجية عسكرية تشاركية مع دول الساحل وفق مبادرة G 5 وغيرها من المبادرات الأخرى؛ وكانت تسعى من خلالها إلى؛ حصولها على التأييد السياسي لاستمرار انخراطها العسكري في المنطقة بقيادتها للجيوش الأوروبية في العملية العسكرية الفرنسية “برخان”، مما سمح لها بتعزيز وجودها العسكري بحوالي 850 جندي فرنسي في المنطقة، وإرسال حوالي 50 عسكرياً من القوات الخاصة لتعمل نواة لقوات “تاكوبا”، التي تضم حوالي 300 مقاتل من الدول المشاركة.

لماذا تراجعت فرنسا؟

يرتبط النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي بعدد من الأهداف، على رأسها حماية المصالح الاقتصادية والموارد الطبيعية بالإضافة إلى الحفاظ على النفوذ والتأثير السياسي في المنطقة ومكافحة الإرهاب والتطرف الديني؛ مما دفعها إلى الإبقاء على علاقاتها ومصالحها الاستراتيجية معها حتى بعد أن استقلت سياسياً عنها؛ غير أن الظروف والمعطيات الإقليمية والدولية قد تغيَّرت، ولم تعد في صالح فرنسا، فقد أصبح يُنظر إليها اليوم بأنها لا تزالُ تُمارس سياسة النفوذ غير المبرر للسيطرة على الثروات الطبيعية، في المقابل فإن الأغلبية العظمى من الشعب تعيش حالة الفقر وغياب أدنى شروط التنمية؛ وأصبح بذلك الوجود الفرنسي على المحك.

فلم يتراجع الدور الفرنسي في منطقة الساحل بين ليلة وضحاها، وإنما تراجعه مردهُ لمجموعة من الأسباب والعوامل المختلفة؛ فأغلبية المحللين والمراقبين يرجعون ذلك إلى تنامي رغبة النخب الإفريقية الجديدة في تنويع الشراكات الإستراتيجية وظهور توجهات استقلالية في العديد من الدول القابعة تحت سيطرتها على غرار تشاد، غينيا بيساو والغابون..؛ وهذا يُفسَّر بأسباب مختلفة أهمها؛ الإخفاق المتكرر في مشروع بناء الدولة الوطنية موازاةً مع انتشار الفساد العمودي والأفقي، ضعف التنمية وتنامي مستويات الفقر، إضافة إلى أن المنطقة باتت مرتعاً للجريمة المنظمة؛ وفي مقدمتها الحركات الإرهابية التي أصبحت لها قدرة عالية على التمدد والتكيُّف لأنها وجدت بيئة خصبة ملاءمة للنضوج، وفي مقدمتها تنظيمي “داعش” و”القاعدة” و”جماعة بوكو حرام”؛ لاسيما في المناطق الحدودية بين مالي والنيجر.

إضافة إلى ذلك؛ هناك معطيات أخرى تطفو على السطح، أبرزها انسحاب الدول الثلاث من كل المنظمات والتكتلات المدعومة فرنسياً، على سبيل المثال؛ الانسحاب من المنظمة الفرنكوفونية، ولم يقتصر الأمر على دول الساحل فقط فقد أصبح حضور المنظمة في افريقيا باهتاً خاصة بعد إعلان العديد من الدول تخليها عن التدريس باللغة الفرنسية والانتقال إلى اللغة الإنجليزية، إلى جانب الانسحاب من منظمة الإيكواس وتجمع دول الساحل والصحراء G5، مما شكل تحدياً قوياً للنفوذ والوجود الفرنسي في افريقيا. يأتي هذا الانسحاب بعد موجة الانقلابات العسكرية في الدول الثلاث (مالي، النيجر، بوركينافاسو) مع رغبتهم في التخلص من القبضة الفرنسية التي رأوا بأنها أصبحت تتدخل وتفرض عقوبات سياسية غير مبررة ضد كل ما يهدد مصالحها الوطنية.

يُذكر بأن فرنسا حاولت في عام 2017، تغيير أسلوب علاقاتها مع الأفارقة، حينما دعا الرئيس “ماكرون” من واغادوغو عاصمة بوركينافاسو إلى قطع العلاقات مع الماضي ووضع حد للروابط الغامضة بين الجانبين، ودعا إلى نهج جديد يرتكز على المعاملة بالمثل وتوثيق العلاقات والمجتمعات المتدينة؛ لكن هذا لم يشفع له، بل انتفضت الدول عليه؛ خاصة في تلك التي كان يأمل بأن تتحسن علاقاته السياسية معها.

ماذا عن الدور الروسي والصيني في المنطقة؟

التواجد الروسي والصيني في افريقيا ليس جديداً، ولكن تزايد زخمه في السنوات الأخيرة بصورة مُلفتة للانتباه؛ فالدولتان تتشاركان في رؤية مستقبلية للنظام الدولي لإخراجه من الأحادية نحو التعددية، أيضاً كونهما يَعتبران أن دول العالم وبخاصة دول الجنوب المتخلف النامية؛ يجب أن تحظى بالتنمية دون استثناء؛ كما أن كلا الدولتين كانتا جزءاً من المنظمات الدولية السابقة التي كانت تدافع عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وقدمت لهم الدعم المالي، السياسي والدبلوماسي وحتى العسكري؛ ومن كل هذا يُنظر إلى الدولتين أنهما غير استعماريتين طبقاً للحوادث التاريخية. لكن هنا يطرح سؤال جوهري مفاده؛ لماذا افريقيا؟

الإجابة على هذا السؤال بالرغم من أنها بسيطة ولا غبار عليها، إلا أنها معقدة في بعض جوانبها؛ فقد تشكلت مجموعة دوافع مختلفة وراء اهتمام روسيا بإفريقيا، تتجلى معظمها في؛ ضمان صوت افريقيا في المحافل الدولية لمساندتها في سردها الاستراتيجي حول التعددية القطبية، إضافة إلى فرصة حصولها على امتياز إقامة القواعد العسكرية لنيل مكانة الدولة العظمى على غرار الدول الأخرى التي لها قواعد مثل الهند، اليابان، دول حلف الشمال الأطلسي وأيضاً الصين. كما تشكل افريقيا سوقاً واعدة للشركات العسكرية لتصدير الأسلحة؛ فرصة حقيقة للاستثمار الأجنبي لاعتبارات عديدة أهمها، غناها بالموارد الخام والموارد البشرية، فعلى سبيل المثال، فإن حصة افريقيا من الأسلحة تتزايد سنوياً، طبقا لإحصائيات غلوبال فاير باور وThe Military Balance.

فروسيا؛ تُراهن في علاقاتها السابقة والحالية مع افريقيا على “القوة الناعمة”؛ فقد كانت حليفاً موثوقاً للأفارقة، بتقديم الدعم لحركات التحرر أثناء الاستعمار أو بعده، ولم يقتصر الأمر على الدعم المالي فقط، بل امتد إلى الجانب العسكري من خلال التدريب، التكوين وتأطير الأفارقة (الجزائر، مصر وإثيوبيا) في المعاهد والكليات العسكرية السوفياتية. لذا فإن طبيعة العلاقات السلمية بين الطرفين، ساعدت روسيا على الاستمرار في نهجها التقدمي؛ وبدأت الشركات الروسية في الاستثمار بنشاط في افريقيا في الموارد المعدنية، محطات الطاقة الكهرومائية، خطوط أنابيب النفط، ومع نجاحها غير المتوقع في افريقيا، حاولت روسيا رفع سقف توقعاتها لزيادة وجودها السياسي، ما أسفر عن عقد مؤتمرات روسية – افريقية بين عامي 2019 و2023.

تتبع روسيا “سياسة هجينة” في علاقاتها مع افريقيا لتحقيق أهدافها الاستراتيجية؛ مستفيدة من أخطاء الغرب (بخاصة فرنسا في الآونة الأخيرة)، عبر الضخ الإعلامي عن طريق وسائل إعلامها الناطقة بالفرنسية واللغات المحلية، وتعاونها مع المنافذ الإعلامية المحلية للتذكير بالإرث الاستعماري للغرب مستفيدة من ماضيها الخالي من الاستعمار؛ وأنها ستحترم سيادة الدول الإفريقية ولن تتدخل في شؤونهم الداخلية.

تسعى روسيا إلى تأكيد نفوذها في افريقيا في ضوء المنافسة مع الغرب والولايات المتحدة لتحقيق رؤيتها الاستراتيجية الشاملة وتوظيف أدوات قوتها الوطنية (العسكرية، الدبلوماسية، الاقتصادية، المعلوماتية وغيرها)، ويزداد الوضع تعقيداً بالأخص مع وصول المرتزقة الروس من مجموعة “فاغنر” التي تمتلك نفوذ سياسي واسع في المنطقة؛ من ناحية أخرى؛ فقد وقعت روسيا اتفاقيات التعاون في المجال الأمني والعسكري وفي مقدمتها صفقات مبيعات الأسلحة والمساعدات الروسية إلى دول الساحل، فهي لا تتبنى مبدأ المشروطية في العلاقات السياسية والاقتصادية عكس فرنسا والولايات المتحدة؛ ففي أحيان كثيرة يتم ربطها مقابل تحقيق مبادئ مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان كذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول؛ لكل هذا تشكل إفريقيا فرصة حقيقية لروسيا، لتجسيد نظرياتها واقعياً، حول عدم صلاحية النظام العالمي القائم، ودورها في إعادة تغييره وتشكيله وفق قواعد ومعطيات جديدة.

أما بخصوص القادة الأفارقة الذين وصلوا إلى السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية، فإن روسيا تتعامل معهم بطريقة واقعية براغماتية، دون قيود أو قيم يجب التقيُّد بها على غرار الديمقراطية، وسلطة القانون، حقوق الإنسان وغيرها من الشعارات الرنانة التي يسوقها الغرب للآخر للضغط عليه.

الصين في المقابل، تتبنى نهج مقارب لروسيا؛ فهي أكبر مستثمر أجنبي في العمق الإفريقي، كما أنها تولي أهمية لمنطقة الساحل الإفريقي لغناها بالثروات المعدنية (الليثيوم، النفط…)؛ فالمصالح الاقتصادية الصينية لها أبعاد استراتيجية تُجسِّد الطموحات الصينية التي تهدف إلى إقامة قاعدة عسكرية على سواحل الأطلنطي.

نفس النهج الروسي تقريباً اعتمدته الصين أيضاً؛ فقد أسست منتدى العلاقات الصينية الإفريقية FOCAC الذي تأسس عام 2000، ويعتبرُ نموذجاً فاعلاً ومنصة للتعاون بين الشركاء الأفارقة والصينيين بهدف تعميق التعاون لتحقيق التنمية الاقتصادية ومواجهة التحديات؛ والجدير بالذكر بأن هناك تطوُّرٌ في حجم المبادلات التجارية بين الطرفين، ويجعل الصين الشريك التجاري الأول للقارة، متفوقة بذلك على الولايات المتحدة وفرنسا أيضاً.

يتخذُ الحضور الصيني في افريقيا عدة أشكال؛ فمثلاً؛ تسيطر شركة البترول الوطنية الصينية في تشاد على إنتاج وإدارة النفط منذ عام 2003، بالإضافة إلى مشاريع البنية التحتية لاستخراج اليورانيوم في النيجر، كما ساهم إطلاق مبادرة الحزام والطريق عام 2013 في زيادة الطلب على الخدمات الأمنية الصينية التي تمثل جزءاً من استراتيجية الصين تجاه القارة، حيث توضحُ المؤشرات تقدم الشركات المملوكة للصين على منافستها الأوروبية من حيث القرارات السريعة والتنفيذ السريع لمشاريعها في افريقيا.

هل حُلت المعضلة بخروج فرنسا من المنطقة؟

بالرغم من طرد فرنسا من دول الساحل الإفريقي (مالي، النيجر، بوركينافاسو)، إلا أن هناك انسداد سياسي في دول الساحل الثلاث، فالقادة العسكريين الانقلابيين الذين وعدوا بإجراء انتخابات لاختيار ممثل للشعب في وقت زمني قصير، لا تزال حتى الآن تتربعُ على سدة الحكم، فقد أعلن المجلس الانتقالي في الدول الثلاث على بدأ العمل على ميثاق “ليبتاكو – غورما” الموقع بينهم عام 2023 والمتضمن إنشاء تحالف دفاعي إقليمي جديد لرسم خريطة جيو استراتيجية جديدة لإفريقيا؛ لمواجهة أي قوة مسلحة تهددهم سواء كانت داخلية أو خارجية، ودعوا باقي دول الإقليم للانضمام إليها.

لا تزال المعضلة الأمنية قائمة في الدول الثلاث، فالدول لم تشهد استقراراً سياسياً ولا اقتصادياً ولا أمنياً أيضاً، ولم تُقدم على خطوة تسليم السلطة أو التسريع بعملية الانتخابات، بل إن هناك مؤشرات تدل على أن موجة الانقلابات العسكرية في تنامي مستمر موازية مع غضب شعبي متعطش للتنمية وناقم على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يتخبط فيها منذ سنوات.

فدول الساحل الموصوفة بـ “قوس الأزمات” تعاني مجموعة متعددة ومتنوعة من التحديات والاختلالات الهيكلية تفرضها الصيرورة التاريخية، إلى جانب عدم الاستقرار الاقتصادي، ارتفاع معدلات الفقر، تغيُّر المناخ ومعاناة السكان من الجفاف والتصحر، ويزداد هذا التأثير خاصة في المجتمعات التي تعيش على الرعي والزراعة؛ مما سيؤدي إلى تفاقم ندرة الغذاء والتنافس على الموارد إضافة إلى الهجرات البشرية بحثاً عن ظروف بيئية ملاءمة. يُضاف إلى ذلك هشاشة النظم السياسية في ظل تزايد الهجمات الإرهابية، فقد شهدت المنطقة خلال الستة أشهر الأولى من عام 2023 (1814) هجمة إرهابية، أسفرت عن مقتل 4593 شخصاً، كما ترتب عنها نزوح ما يُقارب نحو 3.7 مليون شخص داخلياً، ولُجوء أكثر من نصف مليون لاجئ إلى الدول المجاورة، واتخاذ البعض منها كمناطق عبور نحو أوروبا.

إعادة تموضع النفوذ الفرنسي بأدوات جديدة

إذا كان الحضور الفرنسي في إفريقيا ولسنوات عديدة يتسم بأنه صلب في أدواته ومبني على القوة العسكرية، للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية، مع إذكاء الصراعات والنزاعات الإثنية والحدودية أيضاً؛ فإن الوضع الآن قد تغيَّر، وتغيَّرت معه قواعد اللعبة في افريقيا، فلم يعد الأفارقة أنفسهم، وحتى فرنسا التي تراجعت سمعتها مؤخراً؛ ولم يعد أمامها الآن إلا مسايرة التغيير وإعادة التموضع.

لن تتخلى فرنسا بهذه السهولة عن نفوذها الاستراتيجي، فهي وإن خرجت من هذه الدول، إلا أن علاقاتها وحضورها القوي في دول أخرى قد يغطي على ذلك، لذا فإن القيادة الفرنسية برئاسة “ماكرون” ستعمل جاهدة على تحويل التحدي إلى فرصة يتم استغلالها بكفاءة وقدرة عالية، ولما عدم الانفتاح على الدول غير الناطقة بالفرنسية على غرار جنوب افريقيا ونيجيريا لسد فجوة تراجع النفوذ. كما أن الشركات الفرنسية لا تزال حاضرة وبقوة وتستثمر في القارة؛ وبخاصة في منطقة الساحل الإفريقي، على غرار قطاعات النفط، الغاز، التعدين والطاقة النووية وخدمات النقل البري، والبحري، والجوي، والاتصالات.

فحسب الخبير الاقتصادي الفرنسي “إيمانويل لوسوتيه” فإن انسحاب فرنسا من دول الساحل هو فرصة لإعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية؛ موضحاً أن فرنسا يجب عليها أن تتجاوز الإرث الاستعماري وتتعامل بمنطق الشراكات المتوازنة، بالتركيز على البنية التحتية والتكنولوجيا والطاقة المتجددة؛ وهو ما سيمكنها من تعزيز مكانتها كشريك اقتصادي موثوق بعيداً عن الصورة العسكرية المرتبطة بالتدخلات السابقة.

لذا قد يكون مدخل فرنسا إلى إعادة ترميم علاقاتها بدول الساحل الإفريقي هو مدخل اقتصادي محض، بحيث أن تعزيز التعاون الاقتصادي بعيداً عن شؤون السياسة والأمن، هو فرصة لكلا الطرفين على المدى البعيد، فلا أحد ينكر بأن فرنسا برغم التحديات التي تواجهها إلا أن لديها خبرة طويلة للتعامل مع المنطقة خاصة أمنياً وعسكرياً، وهذا ما قد تستغله في حالة تزايد وتنامي الجماعات الإرهابية موظفة في ذلك خبرتها وتجربتها الميدانية، ولكن في وفق شروط دول الساحل الإفريقي.

أما بالنسبة للدول الثلاث التي فقدت فيها حضورها ونفوذها؛ فقد تلجأ فرنسا إلى ترميم الصورة السلبية التي طبعت في أذهان الأفارقة، من خلال العمل على تشجيع المقاربات الإنسانية – التنموية، وطرح مبادرات شراكة ثنائية ومتعددة الأبعاد تحترم فيها الخصوصيات الثقافية، الاجتماعية، الدينية والهوياتية للدول، على أساس متوازن وفق منطق رابح – رابح، والتعامل مع الأفارقة كشركاء استراتيجيين؛ وليس وفق المنظور الفرنسي السابق.

من بين الأدوات التي قد تراهن عليها فرنسا أيضاً؛ الأداة الثقافية؛ فكما هو معلوم فإن العلاقات الثقافية بين الجانبين ضاربة في التاريخ بالرغم من جدلية المُستعمر والمستعمَّر، عن طريق المنظمة الفرنكوفونية، وبرامج التبادل الثقافي والطلابي ERASMUS، الندوات والمؤتمرات، سمح لها بتكوين نخب إفريقية فرنسية؛ لذا قد تستغل فرنسا هذه العلاقة كورقة رابحة؛ لأجل دعم هذه النخب الثقافية، بأن تؤثر هذه الأخيرة على عقول الأفارقة بما يتماشى والمصالح الوطنية الفرنسية.

من جانب آخر، فإن خيارات الإتحاد الأوروبي في منطقة الساحل فهي محدودة، وتتباين المواقف الأوروبية بين داعم بشكل كامل للجهود الفرنسية وبين داعم سياسي فقط دون الدخول في متاهات التنافس الإقليمي. ويستخدم الإتحاد الأوروبي ورقة المساعدات التنموية كورقة ضغط لتحقيق مصالح أعضائه، لا سيما قضية الهجرة غير الشرعية من خلال أداة “الصندوق الائتماني للطوارئ من أجل افريقيا”، بقيمة 75 مليار يورو عام 2019.

في الختام، فإن الإقدام على خطوة فك الارتباط مع فرنسا تعد مرحلة حاسمة في التاريخ الافريقي، فقد تغيّرت عقليات الشعوب الافريقية وتم ضخ دماء جديدة تتطلع إلى أفق أوسع وأرحب، لكن في المقابل؛ فإن هذه الخطوة بالرغم من أنها فرصة إلا أنها تشكل تحدياً في نفس الوقت، فنقص الخبرة السياسية، تماطل عملية الانتقال السياسي، الأزمات والمشاكل التنموية الداخلية، بروز شركاء استراتيجيين (الصين، روسيا) كخيارات استراتيجية للبديل الفرنسي، بالرغم من ذلك تتعالى تساؤلات المحللين والأكاديميين، حول مدى موثوقية هؤلاء الشركاء وضمان عدم تحولهم إلى النسخة الفرنسية السابقة مما قد يعيد المنطقة إلى نقطة الصفر.

توصيات الورقة العملية لصناع القرار

• الاستفادة من تجارب الماضي الاستعماري في العلاقات المستقبلية.
• عدم تقديم تنازلات سياسية، اقتصادية أو أمنية لأي طرف، والتأكيد على توطيد علاقات التعاون والشراكة بعيداً عن علاقات التبعية.
• تسريع عملية الانتقال السياسي السلمي -الانتخابات- مع فتح المجال لنخب مثقفة مدنية تقود المشهد الإفريقي.
• الاستفادة من المساعدات الدولية وخاصة الفنية في المرحلة القادمة، بما في ذلك فرنسا لخبرتها في المنطقة.
• إعادة ترميم العلاقة مع دول الجوار الإقليمي (الجزائر وليبيا وموريتانيا) بالنظر إلى المقومات والتحديات المشتركة (الهجرة غير الشرعية، الجماعات الإرهابية وغيرها) وتشجيع التعاون الأمني الإقليمي لمواجهتها.

المراجع

1- حمدي بشير، “التوجهات العسكرية الفرنسية الجديدة لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل: الدوافع والفرص والتحديات”، مركز الإمارات للسياسات، في الموقع الإلكتروني: https://epc.ae/ar/details/brief/new-french-military-tendencies-to-combat-terrorism-in-the-sahel-region-motivations-opportunities-and-challenges 2- هدير أحمد حسنين، “تراجع النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي ودلالات انسحاب مالي وبوركينافاسو من G5″، مركز إيجبشن انتربرايز للسياسات والدراسات الاستراتيجية. 2024.

3- هويدا شوقي أبو العلا، “انعكاسات الانقلابات العسكرية في الساحل الإفريقي على النفوذ الفرنسي: دراسة حالتي: النيجر والغابون”، المجلة العلمية للبحوث والدراسات التجارية. المجلد 39، العدد 1، 2025. 4- مدوني علي، قصور متطلبات بناء الدولة في افريقيا وانعكاساتها على الأمن والاستقرار فيها، (أطروحة دكتوراه غير منشورة). جامعة بسكرة: كلية الحقوق والعلوم السياسية، 2014.

_________________ إهـ __________________

تحليلات المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات

قادة بن عبد الله عائشة

باحثة جزائرية متخصصة في الأمن والدراسات الاستراتيجية، ومحاضرة في كلية الدفاع الوطني بالإمارات، ولها إسهامات واسعة في قضايا الأمن المغاربي والتنمية الحدودية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى