تحليلات

نساء في صدارة إفريقيا: ناميبيا كنموذج ما بعد 2024

ناميبيا بعد 2024: كيف تواجه القيادة الجديدة تحديات الداخل وتحولات الإقليم؟

في ظهيرة يوم الجمعة، وبينما كانت رياح شهر مارس الباردة تمرّ على ذاكرة الأسبوع بهدوء، جذب انتباهي عنوانٍ عابر؛ لكنه مثقّلٌ بالمعاني “نيتومبو تُؤدي اليمين الدستورية كأول رئيسة لناميبيا“، للحظة، بدا الخبر كأنه يُعلن انكساراً ناعماً لسقفٍ صلْبٍ طالما فُرض على النساء في أروقة السلطة والحكم في إفريقيا. لم يكن مجرّد انتقال دستوري؛ بل انعطاف يحمل في طيّاته استدعاءً لوجوهٍ غابت، وأصواتٍ يبدو أنها خفتت.

عندها عادت إلى ذاكرتي صورة “روت رولاند”، المناضلة الأفرو-وسطية ذات الصوت الجهوري الذي لم يرضخ للجنرالات، واليد التي أمسكت بملفات الفساد كما أمسكت بيد الأطفال المتروكين في شوارع العاصمة بانغي.

كانت روت أول امرأة تترشح للرئاسة على مستوى القارة الإفريقية وقتها، وأول من قال “لا” حيث لا تُقال، وأول من دفع ثمن الجرأة عزلةً، واعتقالًا، وموتًا صامتًا في منفاها في العاصمة الفرنسية، باريس عام 1995م. لقد كانت، في وعينا الجمعي، طليعة لجيل نساء لم يكُنّ في المشهد الرئاسي بعد؛ لكنها أرّختْ لإمكانية الحضور.

واليوم، وبعد ثلاثة عقود من غيابها، تُستعاد روح ذلك الحلم في جسد امرأة أخرى، من أرض أخرى، تحمل اسماً طويلًا وثقيلًا بالتجارب: نيتومبو ناندي-ندياتواه. المقاتلة التي انخرطت في صفوف حركة “سوابو” منذ مراهقتها (14 سنة)، تتولى رئاسة ناميبيا في حدثٍ رمزيٍّ تزامن مع الذكرى الخامسة والثلاثين لاستقلال البلاد عن جنوب إفريقيا، بعد أنْ حازتْ في انتخابات نوفمبر 2024 على 58.7% من الأصوات، متقدمة على خصمين بارزين في استحقاق وُصف بأنه الأكثر تنافسية في تاريخ البلاد.

ندياتواه، البالغة من العمر 72 عامًا، ليست فقط أول امرأة تتولى هذا المنصب في ناميبيا؛ بل انضمّتْ إلى نخبة ضئيلة من القيادات النسائية في القارة، من بينهن سامية حسن، رئيسة تنزانيا الحالية، التي تولت المنصب في ظروف مفاجئة عقب وفاة سلفها؛ وسهلي ورق زودي، الرئيسة الإثيوبية السابقة ذات الدور البروتوكولي.

لكن ندياتواه، بخلفيتها النضالية، وتجربتها الواسعة في الحكم، تُجسّد حضورًا مختلفًا؛ وصولٌ ناضجٌ عبر صندوق الانتخاب، وقيادة تنفيذية كاملة الصلاحيات، في بلد ديمقراطي مستقرّ نسبيًا. حيث جمعت في شخصها تجارب المنافي، والوزارات، والمفاوضات الدولية، حتى باتت تتقدّم بخطى ثابتة على رأس دولة لا تزال تبحث عن توازناتها.

من هنا، لا يبدو هذا الحدث مجرد خبر سياسي عابر؛ بل لحظة انعكاس وتحليل، تفتح الباب لقراءة أعمق في بنية السلطة الناميبية، وفي مآلات التجربة النسوية السياسية في إفريقيا المعاصرة. وبهذا، تُعيد التجربةُ طرح سؤالٍ قديم يتجدد، ألا وهو: هل نحن أمام بداية لتحول حقيقي في نماذج القيادة الإفريقية، أم أنها إعادة إنتاج للمنظومة القديمة بوجهٍ نسائي جديد؟

لهذه الأهمية، يسعى هذا المقال إلى استكشاف أبعاد هذا التحول، من خلال تسليط الضوء على خلفية ناندي-ندياتواه السياسية والنضالية، ورصد موقع ناميبيا في الخارطة الإقليمية والدولية، وربطه بالحراك الشعبي والاجتماعي المتنامي في القارة. كما سيناقش المقال أبرز التحديات الاقتصادية والسياسية التي ستواجهها القيادة الجديدة، ويختم بطرح ثلاثة سيناريوهات مرجّحة لمستقبل البلاد، على أمل أن يُسهم في تفكيك دلالات اللحظة، وفهم ما إذا كانت ناميبيا تدخل عهدًا جديدًا، أم فقط تُجَمِّل واجهتها بسردية مختلفة.

من المنفى إلى القصر: روح رولاند في جسد نيتومبو

كانت روت رولاند تحلم بمثل هذا المشهد. أنْ تصل امرأة إفريقية إلى القصر الرئاسي من بوابة الكفاح، لا المجاملة، وأنْ تعبر سنوات النفي والتهميش لتُتوَّج، لا تُنكَّل. لقد حاولتْ، ودفعتْ ثمن المحاولة، ورحلتْ قبل الأوان… لكن حلمها ظل حيًّا، وإنْ كان مؤجّلًا.

واليوم، يعاد تمثيل المشهد ذاته؛ لكن في جنوب القارة هذه المرة، على أرض ناميبيا التي نهضتْ من استعمار مزدوج ألماني ثم جنوب إفريقي؛ لتَمْنَح ثقتها لامرأة من طينة المناضلات المثابرات: نيتومبو ناندي-ندياتواه، التي لم تأت من خلف الستار؛ بل من صفوف النضال. من أقاصي الريف الناميبي، ومن عائلة متواضعة، بدأتْ مسيرتها في سن الرابعة عشرة، حين التحقت بحركة “سوابو”، ولم تفارقها حتى صعدتْ بها إلى رأس الدولة.

كانت سنوات المنفى من زامبيا وتنزانيا إلى الاتحاد السوفييتي ثم المملكة المتحدة، محطات لتشكيل وعيها السياسي وصقل تجربتها، قبل أنْ تعود مع فجر الاستقلال عام 1990، لاجئة سابقة… لكنها امرأة دولة. لقد شغلت مناصب وزارية سيادية؛ من الإعلام إلى البيئة، ثم الخارجية، إلى أن اختيرت نائبة للرئيس، ووريثة شرعية للرئاسة بعد وفاة الرئيس غينغوب.

لكن الأهم أنّ ناندي-ندياتواه لم تصل إلى القصر على ظهر دبابة، ولا عبر بيانٍ رقم واحد؛ بل بخيار شعبي حرّ، حصدت فيه 58.7% من أصوات الناخبين في انتخابات وُصِفت بأنها الأكثر تنافسية منذ الاستقلال. إنها لحظة فارقة، ليس فقط لناميبيا؛ بل للقارة بأسرها؛ لأنّ ما كان حلماً مؤجلًا في قلب إفريقيا مع روث رولاند، صار واقعاً ناضجاً في جنوبها مع نيتومبو.

وهكذا، تسجّل ناميبيا، مرة أخرى، نقطة مضيئة في سجل التحول السلمي للسلطة في القارة الإفريقية، وسط محيط إقليمي اهتزّ مراراً تحت وقع الانقلابات، والنزاعات والانقسامات. فتبقى هذه التجربة نموذجاً مختلفاً، صامتاً في هيبته، قويًا في رمزيته، يؤمن بالتحوّل لا الانقلاب، وبالمؤسسات لا المغامرات العسكرية.

إنّ نيتومبو ليست فقط أول امرأة في بلادها تصل إلى القصر؛ بل هي علامة فارقة في المسار الطويل لتمثيل النساء في إفريقيا، فهي جسرٌ بين جيل رولاند الحالم، وجيل ناندي-ندياتواه الذي أدرك الحلم، بهدوءٍ مهيب لا ضجيج فيه، وبشرعية صندوق لا بندقية.

قيادة برؤية متجددة

في خطابها الأول عقب أدائها اليمين، لم تعتمد نيتومبو ناندي-ندياتواه على الرمزية وحدها؛ بل حرصتْ على تقديم نفسها كقائدة ذات رؤية عملية ومشروع إصلاحي متكامل. فأكدت أنّ انتخابها لا يُمثّل فقط اختراقًا في تمثيل النساء على مستوى هرم الدولة فحسب؛ بل يُجسد ثقة الشعب في خبرتها، وكفاءتها، ومسيرتها الطويلة الممتدة على مدى عقود في قلب الدولة والمؤسسات.

وتحدثت ناندي-ندياتواه بنبرة هادئة وحازمة، معلنة التزامها العميق بإعادة بناء الثقة في مؤسسات الدولة، وتطهيرها من الفساد، وتحقيق عدالة اجتماعية حقيقية تشمل المهمّشين والفئات الضعيفة. وخصّت بالذكر فئة الشباب، التي تمثل أكثر من 60% من السكان، معتبرة أنّ نهضة ناميبيا المقبلة لا يمكن أنْ تتحقق دون توفير فرص عمل وتعليم وإدماج حقيقي لهؤلاء في الاقتصاد والسياسة.

إقليميًا ودوليًا، أكدت على استمرار انخراط ناميبيا في الدفاع عن القضايا العادلة، من حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، إلى دعم الصحراويين في نضالهم، مرورًا بمواقف ثابتة تجاه رفع العقوبات الدولية عن دول مثل كوبا وفنزويلا وزيمبابوي.كما أبرزت التزام بلادها بالمساهمة في مكافحة تغير المناخ، في بلد يعاني دورات متكررة من الجفاف وندرة الموارد، ما يجعل من البيئة والتكيّف المناخي أحد أعمدة الأمن القومي الناميبي في السنوات المقبلة.

خطابها الرئاسي، وإنْ لم يكن شعبيّاً في لغته، حمل إشارات واضحة إلى بداية عهد يوازن بين الشرعية النضالية والتحديات التنموية، في ظل حاجة البلاد إلى قيادة قادرة على تحويل الرمز إلى سياسة، والتاريخ إلى مشروع قابل للتنفيذ.

ناميبيا: بلد صغير بأهمية متزايدة

رغم أنّ عدد سكانها لا يتجاوز 3 ملايين نسمة، إلا أنّ ناميبيا تبرز تدريجياً كأحد النقاط المحورية في التوازن الجيوسياسي والجيواقتصادي لإفريقيا الجنوبية؛ بل وللقارة بأكملها. إذْ تتمتع البلاد بموقع جغرافيّ بالغ الأهمية على الساحل الجنوبي الغربي للقارة، مطلٍّ على المحيط الأطلسي بطول ساحلي يتجاوز 1,500 كيلومتر، ما يمنحها إمكانية الوصول البحري إلى الأسواق العالمية، فضلاً عن إشرافها الاستراتيجي على ممرات الشحن الحيوية على أطراف رأس الرجاء الصالح.

لكنّ الأهمية الجيوسياسية لناميبيا لا تتوقف عند الجغرافيا. فالبنية الجيولوجية للبلاد تجعلها أحد أغنى دول العالم منْ حيث احتياطيات اليورانيوم، وتحديدًا منجم “هوساب “(Husab)، الذي يعدّ ثاني أكبر منجم لليورانيوم عالميّاً. إلى جانب ذلك، تمتلك البلاد احتياطات معتبرة من النحاس، والذهب، والألماس، ومعادن نادرة تدخل في صناعة البطاريات والتكنولوجيا المتقدمة. هذه الموارد، وضعتْ ناميبيا على رادارات القوى الكبرى، وخاصة الصين التي تملك حصصًا مباشرة في بعض المناجم الكبرى، والولايات المتحدة التي تسعى لتأمين سلاسل توريد بديلة خارج النفوذ الصيني، إضافة إلى روسيا التي تُبدي اهتمامًا متزايدًا بإعادة بناء تحالفاتها في إفريقيا عبر أدوات اقتصادية ومؤسسات شبه رسمية.

وفي السنوات الأخيرة، شهدتْ ناميبيا تسارعاً في مشاريع الهيدروجين الأخضر، وهو ما رفع من أسهمها لدى شركاء مثل الاتحاد الأوروبي وألمانيا تحديدًا، الذين استثمروا في مشروع “Tsau//Khaeb” الضخم للطاقة المتجددة على الساحل الجنوبي، والذي يُتوقع أنْ يكون أحد أكبر المشاريع في القارة في هذا القطاع. ويُنظر إلى ناميبيا – إلى جانب جنوب إفريقيا والمغرب – على أنها محطة أساسية في استراتيجية التحول الأخضر العالمي، وخاصة مع تعقّد أزمة الطاقة الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية.

إلى جانب ما سبق، حافظت ناميبيا منذ استقلالها على مسار ديمقراطي تعددي، مع تداول سلمي منتظم للسلطة، وغياب النزعات العسكرية عن المشهد السياسي، ما أكسبها صورة دولة مستقرة قادرة على اجتذاب الاستثمارات طويلة الأجل. فهي تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ “محور الاستقرار المؤسساتي” في إفريقيا الجنوبية، إلى جانب بوتسوانا وموريشيوس، ما يمنحها ثقة أكبر من المانحين والمؤسسات المالية الدولية.

في السياق الإقليمي، تكتسب ناميبيا وزنًا متزايدًا ضمن مجموعة تنمية الجنوب الإفريقي (SADC)، وتلعب دورًا متوازنًا في إدارة ملفات الأمن الإقليمي، ومكافحة التهديدات العابرة للحدود، مثل: التهريب، والهجرة غير النظامية. كما أنها تحاول، وبحذر، بناء علاقات متوازنة بين القوى العالمية، دون انخراط أيديولوجي حادّ، مستفيدة من إرثها التحرري؛ لكنها حريصة على ضبط مسافة استراتيجية متساوية مع واشنطن وبكين وموسكو.

ويمكن القول إنّ ناميبيا اليوم، رغم صِغر حجمها السكاني والاقتصادي، تمثّل نموذجاً نادراً في إفريقيا لبلد يمتلك موارد استراتيجية، وحَكَامة مقبولة، واستقراراً سياسيّاّ نسبيّاً، وموقعاً جغرافيّاً حيويّاً، مما يجعلها مرشحة للعب أدوار أكبر في السنوات القادمة، سواء على صعيد أمن الطاقة، أو إدارة الموارد، أو الوساطة الإقليمية، أو دعم المسارات الانتقالية في جوارها المأزوم.

ولعل تنصيب رئيسة جديدة بهذه الخلفية الرمزية، وفي ظل بيئة ديمقراطية سلسة، يعزز هذا التوجه، ويمنح البلاد زخمًا معنويّاً جديداً في محيط قاري يشهد تحولات جذرية، وتنافساً متسارعاً على النفوذ، ومطالب شعبية متنامية بتغيير قواعد اللعبة السياسية.

هل تواكب ناميبيا إيقاع التحول الإفريقي؟

لا يمكن فهم صعود نيتومبو ناندي-ندياتواه إلى سدة الحكم بمعزل عن التحولات الكبرى التي تشهدها القارة الإفريقية خلال العقد الأخير. فالمشهد السياسي الإفريقي بات أكثر سيولة وتعقيدًا، نتيجة لتداخل عدة عوامل، أبرزها تنامي الوعي السياسي لدى فئة الشباب التي تمثل الغالبية السكانية، وارتفاع سقف التطلعات الاقتصادية والاجتماعية، واتساع الهوة بين النخب التقليدية والمجتمعات المحلية.

وتشهد دول مثل السنغال وكينيا وزامبيا مظاهر متكررة من الحراك الشعبي، والانتخابات التنافسية، والانتقال السلمي للسلطة، في مقابل بروز تيارات معارضة جديدة تطالب بإعادة هيكلة الدولة وتعزيز الشفافية والمحاسبة.

وفي الوقت نفسه، تعزز الحركات النسوية من حضورها في الفضاء العام والسياسي، ليس فقط من خلال رفع الشعارات؛ بل عبر تقديم قيادات نسائية شابة ومخضرمة، تتبوأ مناصب حقيقية في السلطة التنفيذية والتشريعية. وهو اتجاه تعكسه مؤشرات إحصائية صادرة عن الاتحاد الإفريقي تشير إلى أنّ أكثر من 24% من البرلمانيين في إفريقيا هم من النساء، وهي النسبة الأعلى عالميًا، مع وجود نساء يتقلدن رئاسة الدولة أو الحكومة في بلدان مثل تنزانيا، إثيوبيا (سابقًا)، وليس أخيراً ناميبيا.

في هذا الإطار، تمثل نيتومبو ناندي-ندياتواه جسراً رمزيّاً وتاريخيّاً بين الجيل النضالي القديم، وجيل ما بعد التحرير. فهي لم تأتِ من خارج النظام؛ بل من صلبه؛ لكنها تحمل خطاباً يسعى لإعادة إنتاج شرعية الدولة من خلال تبني قضايا الشباب، وتوسيع المشاركة، والتصدي لتحديات مثل الفساد والبطالة وعدم المساواة. إنها لحظة اختبار حقيقية لمدى قدرة حركة “سوابو” التاريخية على تجديد ذاتها، وفتح المجال أمام تحولات بنيوية في مفهوم الحكم.

هذا السياق القاريّ المفعم بالحراك والمطالب، والتجربة الناميبية التي تتشكل على إيقاعه، يفتحان الباب أمام تساؤلاتٍ عميقة حول الاتجاهات المحتملة لمسار القيادة الجديدة في ناميبيا خلال المرحلة المقبلة. وهو ما يستدعي الوقوف عند ثلاثة سيناريوهات رئيسة تستشرف مآلات هذا التحول.

المسارات الثلاثة المحتملة أمام ناميبيا الجديدة

إنّ تولّي نيتومبو ناندي-ندياتواه رئاسة ناميبيا يُشَكّل لحظة فارقة في تاريخ البلاد، ليس فقط لكونها أول امرأة تتبوأ هذا المنصب؛ ولكن لكونها تأتي في سياق تحولات إقليمية ودولية كبرى، ووسط انتظارات شعبية عالية تطالب بالتغيير والعدالة والتنمية.

وفي ظل هذه العوامل المتشابكة، تبرز ثلاثة سيناريوهات رئيسة قد تحدد مستقبل البلاد في المدى القريب والمتوسط، وتنعكس بدرجات متفاوتة على الداخل الناميبي وعلى صورة إفريقيا جنوب الصحراء في العالم.

المسار الأول: الاستمرار في الاستقرار والإصلاح التدريجي

يمثل هذا السيناريو الامتداد الطبيعي للمسار الذي ميز ناميبيا منذ استقلالها، والمتمثل في التداول السلمي للسلطة، والتدرج في الإصلاح المؤسسي، والحفاظ على التوازنات الاجتماعية والاقتصادية. تستند إمكانية تحقق هذا المسار إلى عدة عوامل بنيوية، أولها استمرارية المؤسسات الدستورية، وثانيها رصيد الرئيسة في العمل الحكومي والدبلوماسي الذي منحها احترامًا داخليًا وخارجيًا كبيرًا، وثالثها الشرعية التاريخية لحزب “سوابو” رغم التحديات.

يمنح هذا السيناريو فرصة لترسيخ المسار الديمقراطي في بلد يعاني من تباينات تنموية، وبطالة مرتفعة بين الشباب، ومطالب متنامية بتحسين جودة التعليم والرعاية الصحية. وسيكون لزامًا على القيادة الجديدة توسيع قاعدة المشاركة السياسية، وخلق مساحات أوسع للحوار المجتمعي، مع الاستثمار في التكنولوجيا الخضراء والصناعات المستدامة لتوليد فرص عمل مستقبلية.

خارجيًا، يمكن أن يعزز هذا السيناريو مكانة ناميبيا كـ”نموذج ناعم” للديمقراطية الهادئة في إفريقيا، ويمنحها هامشًا أكبر للعب أدوار إقليمية في ملفات الأمن والتكامل الاقتصادي والطاقة. غير أن هذا المسار يبقى هشًا إذا لم يُدعّم بإصلاحات هيكلية اقتصادية، وتحديث حقيقي للإدارة العامة، وتعزيز الشفافية والمحاسبة.

المسار الثاني: تراجع الدعم الشعبي وانحسار نفوذ الحزب الحاكم

يَفْتَرِض هذا السيناريو أنْ يخفق النظام السياسي الحالي في مجاراة المطالب المتصاعدة للفئات الشابة والمتوسطة، مما يؤدي إلى تآكل رصيد حزب “سوابو” التاريخي وفقدانه للأغلبية في الانتخابات المقبلة. ثمة مؤشرات سابقة لهذا التراجع تجلّت في نتائج انتخابات 2019م؛ حيث انخفضت حصة الحزب من الأصوات إلى ما دون 65% للمرة الأولى منذ الاستقلال، مع صعود ملحوظ للمرشحين المستقلين والمعارضة.

وتكمن خطورة هذا السيناريو في احتمال استمرار الانفصال بين القيادة السياسية والشارع، خاصة إذا تم التعامل مع المطالب الاجتماعية من منظور أمني أو بيروقراطي تقليدي. ومن شأن ذلك أنْ يفتح المجال أمام تيارات احتجاجية غير مؤطرة، وربما صعود شعبوي يعيد تشكيل الخريطة السياسية للبلاد.

إقليميًا، قد يتسبب هذا التراجع في فقدان ثقة الشركاء الدوليين، وتقليص تدفقات الاستثمار، وتزايد الضغط على العملة والميزانية. كما قد تعجز الحكومة حينها عن الإيفاء بالتزاماتها التنموية، لا سيما في مشروعات الهيدروجين الأخضر والطاقة المتجددة، وهي قطاعات تراهن عليها أوروبا بشدة في مرحلة ما بعد الحرب في أوكرانيا.

المسار الثالث: تصاعد الدور الإقليمي والدولي لناميبيا

يرجّح هذا السيناريو أنْ توظف ناميبيا استقرارها السياسي، ومواردها الطبيعية، وموقعها الجغرافي؛ لتوسيع دورها الإقليمي والدولي. فالدولة التي تمتلك رابع أكبر احتياطي من اليورانيوم عالميًا، وأكبر مشروع قيد التطوير للهيدروجين الأخضر في إفريقيا، مؤهلة لتكون منصة للطاقة الاستراتيجية في جنوب القارة.

وتلعب شخصية الرئيسة الجديدة دوراً محوريّاً في هذا المسار؛ فناندي-ندياتواه تمتلك شبكة علاقات دولية واسعة، وقدرتها على مخاطبة المنتديات العالمية بصوتٍ إفريقي مستقل، يجعلها مرشحة للعب أدوار دبلوماسية نوعية في ملفات مثل التغير المناخي، والتحول الطاقي، والأمن الغذائي.

كما يمكن لناميبيا، في هذا السياق، أنْ تُشكل محوراً مهمّاً في إعادة تشكيل التموضع الدولي في إفريقيا، عبر سياسة خارجية متوازنة تحفظ استقلالية القرار، وتعزز التكامل الإفريقي، وتنأى عن الاصطفاف في صراعات القوى الكبرى. ويمنحها هذا المسار مكانة شبيهة ببوتسوانا أو موريشيوس، كنماذج إفريقية ناجحة في الجمع بين الديمقراطية، والتنمية، والاستقلالية السياسية.

أيّ السيناريوهات أقرب للتحقق؟

بناءً على المعطيات الراهنة، يبدو السيناريو الأول – الاستقرار والإصلاح التدريجي – هو الأقرب للتحقق على المدى القصير، بالنظر إلى استقرار مؤسسات الحكم، وشخصية الرئيسة الهادئة والمدروسة، واستمرار الدعم الدولي. لكنْ هذا السيناريو قد لا يصمد على المدى المتوسط والطويل، إذا لم تقم القيادة الحالية بخطوات استباقية لتجديد خطاب الدولة، وضخ دماء جديدة في مؤسساتها السياسية والاقتصادية المترهلة.

أمّا على المدى البعيد، فإنّ تحقيق السيناريو الثالث – أيْ صعود ناميبيا كفاعل إقليمي متقدم – يبقى مرهونًا بمدى نجاح السيناريو الأول، واستيعابه لمخاوف السيناريو الثاني. وبذلك، فإنّ المسار المتكامل للقيادة الناميبية الجديدة سيكون مرتبطاً بتوازن ذكيٍّ بين الإصلاح الداخلي المتدرج، والانفتاح الخارجي المتزن، والاستثمار في رأس المال البشري المحلي.

الخلاصة

ليست كل اللحظات التاريخية تُقاس بصدى التصفيق، ولا بعدسات الكاميرات. فبعضها يرسو في الذاكرة بهدوء، كإشارة عميقة على تبدل الزمن، وتغيّر معناه. إنّ تنصيب نيتومبو ناندي-ندياتواه رئيساً لناميبيا ينتمي إلى هذا النوع من اللحظات: حدثٌ تتجاوز دلالاته حدود الدولة، إلى فضاء قاريّ أشمل، ويعيد طرح سؤال قديم جديد: كيف تعيد إفريقيا إنتاج قيادتها في ضوء ذاكرة النضال، وتحديات المستقبل؟

فما جرى ليس مجرد انتقال سلس للسلطة؛ بل علامة على نضوج سياسي يتخطى الانقلابات العسكرية، والرهانات الفئوية، ليؤسس لتحوّلٍ في منطق الحكم ذاته؛ حيث تتقاطع التجربة النسائية العميقة، مع متطلبات الدولة الحديثة في بيئة دولية شديدة التقلب.

ورغم رمزية هذا التحول، إلا أنّ التحديات المقبلة لن تكون سهلة. فالمواجهة الحقيقية تبدأ الآن، مع الحاجة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وتجسير الفجوة بين الأجيال، وتوسيع فرص التنمية العادلة في بلد يملك الإمكانات، لكنه يفتقر أحيانًا إلى الآليات.

فنجاح ناندي-ندياتواه لن يُقاس فقط بقدرتها على التكيف مع الإرث التاريخي لحزب “سوابو”؛ بل بقدرتها على إعادة صياغة دور الدولة في اقتصاد عالمي متحوّل، ومناخ قاريّ مضطرب، ومجتمع شبابي متطلّع. فهناك شبابٌ ينتظر إشارة، ونساء يُرَاهنّ على الاستمرارية، ومؤسسات تحتاج إلى نَفَسٍ جديد يُعِيد تعريف الكفاءة والشرعية.

في نهاية المطاف، إذا ما نجحت ناميبيا في تحويل هذا الانتقال إلى لحظة تأسيسية جديدة، قائمة على إصلاح صادق، وتوازن مؤسسي، وانفتاح خارجي محسوب؛ فإنها لن تكون مجرد استثناء إفريقي؛ بل نموذجاً يُستأنس به في زمن التقلّبات. فالتاريخ لا تصنعه الرموز وحدها؛ بل تثبّته السياسات، وتوسّعه الإرادة، ويمنحه الزمن شرعيته المستحقة.

تحليلات المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات

أفروبوليسي

المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) مؤسسة مستقلة تقدم دراسات وأبحاثاً حول القضايا الأفريقية لدعم صناع القرار بمعرفة دقيقة وموثوقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى