يكشف الوضع الراهن في شمال مالي، عن تجدد حاد للصراع بين القوات المسلحة المالية وجبهة تحرير أزواد وخاصة في مدينة كيدال والمناطق المحيطة بها، وتشير سلسلة من التطورات الأخيرة – والتي تراوحت بين المواجهات العسكرية والتصريحات الدعائية وعمليات الاستيلاء على الأسلحة والمناورات السياسية في باماكو – إلى تنامي الاستقطاب وعودة الصراع الحاد الذي يهدد الاستقرار الهش في المنطقة.
1. التصعيد العسكري والاشتباكات الرمزية
منذ منتصف يوليو 2025، اشتدت الاشتباكات العسكرية بين القوات المسلحة المالية، برفقة عناصر شبه عسكرية روسية من فيلق أفريقيا، وجبهة تحرير أزواد. ووقعت المواجهة الرئيسية في 14 يوليو بين كيدال وأنيفيس، مما أدى إلى تضارب في الروايات:
فبينما يدّعي الجيش المالي صد ما وصفه ب”جماعة إرهابية”، ومن جهة أخرى نشرت جبهة تحرير أزواد صورا وبيانات تعلن فيها انتصارا حاسما على القوات الحكومية وحلفائها الروس. ويمثل هذا تصعيدا خطيرا في أعقاب التعزيزات العسكرية الأخيرة التي أجرتها باماكو في كيدال، والتي تضمنت تعزيزات جديدة وتعيينات قيادية تهدف إلى إعادة فرض السيطرة على منطقة كانت تاريخيا بعيدة عن متناول الدولة.
2. تعبئة جبهة تحرير أزواد وتحذيراتها للمدنيين
أصدر المكتب الإعلامي لجبهة تحرير أزواد بيانًا عسكريًا في 17 يوليو يحذر فيه السكان القاطنين بالقرب من المناطق الحساسة بعدم الاقتراب من المناطق العسكرية خشية المواجهات الوشيكة. ويتهم البيان الجيش المالي وحلفاءه الأجانب بالتخطيط لعمليات، ويدعو المدنيين الأزواديين إلى البقاء على بعد 100كم من مناطق مثل أغيلهوك وتيساليت وميناكا وغوندام. هذا التواصل الاستباقي من جيش تحرير أزواد – المُصوَّر على أنه وقائي – يُشير إلى ثقة الجماعة وسعيها للسيطرة على الخطاب محليًا ودوليًا، مُصوِّرةً نفسها كممثل شرعي لمصالح أزواد.
علاوة على ذلك، يحثّ على التعبئة الكاملة لمقاتليه، ويُشدِّد على الانضباط والمسؤولية والتنسيق مع السكان المحليين، مُعزِّزًا بذلك هيكلًا عسكريًا شبه حكومي.”

3. ميثاق السلام والمصالحة: الإقصاء والرفض
يعد إصدار الحكومة الانتقالية في باماكو “ميثاق السلام والمصالحة” الجديد تطورًا رئيسيًا آخر ساهم في تعميق الهوة السياسية. وقد صيغ هذا الميثاق، على الرغم من اتساع مضمونه (العدالة، والحوكمة، والفساد، والتعليم)، دون التنسيق مع وسطاء أو حتى جبهة تحرير أزواد أو أي فصائل مسلحة أخرى. وقد رفضته جبهة تحرير أزواد رفضا قاطعا، ووصفت المبادرة بأنها “مسرحية هزلية” يراد منها تشتيت الانتباه ولا أساس لها من الشرعية. وقد أدى سعي النظام العسكري لتجاوز الوساطة الدولية وخاصة الدور التاريخي للجزائر كوسيط إلى تفاقم التوترات. ويصور الميثاق كحل وطني سيادي، مهمشا بذلك أطرافا تصنفها الحكومة الآن “إرهابيين”.
وقد أدى هذا التصنيف الجديد إلى إنهاء أي مسار دبلوماسي للتفاوض، وفي الوقت نفسه أدى إلى تعزيز الاستراتيجية العسكرية التي تنتهجها الطغمة العسكرية. كما يعكس هذا النهج البيئة السياسية في مالي، حيث حلت أحزاب المعارضة، وقمعت السبل الديمقراطية.
4. مصادرة الأسلحة ورواية التدخل الأجنبي
وما زاد من تأجيج الوضع إعلان الجيش المالي في 22 يوليو عن مصادرة كميات كبيرة من المعدات (بزات عسكرية رسمية، عمائم، حراس) تحمل شارات جيش تحرير أزواد. وبحسب ما ورد، كانت المعدات – التي يُزعم أنها صُنعت في الصين واعترضت في توغو – متجهة إلى شمال مالي، عبر تاجر في غاو. وقد صوّرت السلطات المالية، بدعم من معلومات استخباراتية من النيجر، هذا الحدث كدليل على مؤامرات أجنبية لزعزعة استقرار مالي. وبينما لم يعثر على أية أسلحة، شدد خطاب الجيش على “تورط جهات أجنبية” دون تسمية أي دولة بشكل مباشر.
كما تنفي جبهة تحرير أزواد بدء عملية الشراء، وتزعم أن هذه المعدات تستخدم بشكل شائع في المنطقة. ومع ذلك، يبقى التلميح قائمًا بأن جيش مالي يعتزم بناء رواية أوسع عن مؤامرة دولية ضد الدولة، ربما تستهدف فرنسا أو الجزائر بالتلميح. وهذا يعكس تكتيكًا متكررًا تستخدمه السلطات الانتقالية وحلفاؤها من دول الساحل (ولا سيما النيجر وبوركينا فاسو) لتعزيز المشاعر القومية وتشويه سمعة الخصوم.
5. تداعيات أوسع نطاقًا على مالي ومنطقة الساحل
يشير تقارب هذه التطورات من المواجهة العسكرية، والإقصاء السياسي، والتحذيرات المدنية، والخطاب التصعيدي- إلى مرحلة متجددة من الحرب الهجينة في مالي. وتزداد ضبابية الخطوط الفاصلة بين التمرد الداخلي، ومكافحة الإرهاب، والنضال الانفصالي. كما أن رفض إشراك جبهة تحرير أزواد في جهود السلام الوطنية يعزز التشرذم ويفاقم خطر استمرار التمرد.
بالإضافة إلى ذلك، يعكس وجود المقاتلين الروس وتهميش الوسطاء الدوليين (ولا سيما الأمم المتحدة والجزائر) تحول مالي نحو نهج أمني أحادي الجانب لإدارة الصراع. ومع ذلك، يُظهر التاريخ أن مثل هذه الاستراتيجيات – في غياب حوار هادف – غالبًا ما تُرسّخ الصراع بدلًا من حلها.
الوضع الحالي في شمال مالي ليس أزمة داخلية فحسب، بل هو أيضا بؤرة اشتعال إقليمية. تهدد هذه الأوضاع بزعزعة استقرار منطقة الساحل ككل، وتقويض أمن الحدود مع الجزائر والنيجر، وتمكين الجهات الجهادية التي تستفيد من تشتت الجماعات المسلحة وتشتت انتباه الدولة.
التوقعات والتوصيات
التوقعات:
ان استمر المسار الحالي الذي يتسم بالتصعيد العسكري والإقصاء السياسي وتفكك السلطة، فإن مالي تخاطر بدخول مرحلة جديدة من حرب أهلية هجينة. قد يؤدي انهيار الشرعية الداخلية، إلى جانب ترسيخ الجهاديين إقليميا، وإلى إدارات موازية في المناطق الشمالية. قد يؤدي تفكك مالي إلى مزيد من زعزعة استقرار دول الساحل وغرب إفريقيا، مما يشجع على توسع الجهاديين ويثير تدخلات إقليمية ودولية.
التوصيات
إعادة فتح قنوات الحوار: يجب على السلطات الانتقالية في باماكو إعادة النظر في سياساتها الإقصائية وإعادة إطلاق المحادثات مع جبهة تحرير أزواد والجهات المسلحة الأخرى. إن وصف جميع الجهات الفاعلة غير الحكومية بـ”الإرهابية” يهدد بتطرف الفصائل المعتدلة وهو ما دفعها نحو التحالف مع جماعات جهادية مثل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين أو تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى.
استعادة مصداقية عمليات السلام: يجب وضع ميثاق سلام حقيقي بمشاركة جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك الجماعات المسلحة والمجتمعات المحلية والمجتمع المدني والوسطاء الدوليين. ينبغي إعادة النظر في دور الجزائر التاريخي في الوساطة بدلا من رفضه، لا سيما بالنظر إلى نفوذها في الشمال المالي.
حماية المساحات المدنية: مع تصاعد حدة الاشتباكات، يجب على الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية على حد سواء احترام القانون الإنساني الدولي وحماية المدنيين، لا سيما في المناطق المتنازع عليها مثل كيدال وأنفيس وتيساليت.





