ملخص
أحدثت التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ضد نيجيريا – والتي صدرت في سياق إقليمي هام يتمثل في الحصار المستمر لباماكو من قِبل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) – تداعيات جيوسياسية عميقة على مستقبل منطقة الساحل. وبعيدًا عن كونها مواقف خطابية، تكشف هذه التصريحات عن نية واشنطن إعادة تأكيد نفوذها الاستراتيجي في منطقة شهدت تحولات سياسية وأمنية عميقة منذ انسحاب فرنسا. يتناول هذا البحث المنطق الكامن وراء خطاب ترامب، ورفض نيجيريا للتهديدات الأمريكية، والصراع الأوسع بين فروع داعش والحركات الإسلامية المتجذرة محليًا في جميع أنحاء المنطقة. ويجادل بأن منطقة الساحل تدخل مرحلة جديدة يمكن أن تبرز فيها الحوكمة الإسلامية المحلية كترياق لتوسع داعش وتحدٍّ للنفوذ الغربي.
الخلفية السياقية: انهيار نظام ما بعد فرنسا
يُمثل حصار باماكو من قِبل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، المستمر منذ أوائل سبتمبر 2025، ذروة تآكل سلطة الدولة في مالي على مدار عقد من الزمان، وفشل التدخلات الدولية المتتالية. وقد سمح الشلل الاستراتيجي للمجلس العسكري المالي وعزلته الدولية والإقليمية، إلى جانب انسحاب القوات الفرنسية وقوات الأمم المتحدة، ومحدودية فعالية الشركات العسكرية الروسية الخاصة التي يعتمد عليها، أدى بجماعة نصرة الإسلام والمسلمين لتعزيز سيطرتها الإقليمية في وسط وشمال مالي، وأجزاء كبيرة من بوركينا فاسو، والمناطق الحدودية مع النيجر وبنين.
وتُؤكد أوامر إخلاء البعثات الدبلوماسية من مالي، وسيناريوهات التي وضعها المجلس العسكري والتي من ضمنها الهروب من العاصمة، عزلة النظام وفشل حتى ما يعرف بكونفدرالية دول الساحل في مكافحة تمدد الجماعات المسلحة، وخاصة أن كل من النيجر وبوركينافاسو تعانين من نفس المعضلة، وحتى وصول إمدادات من هذه الدول لحليفتها باماكو أمر شبه بمستحيل بسبب سيطرة التنظيمات على الطرقات الرابطة بينها وبين بماكو. وقد أعادت هذه اللحظة من الانهيار الهيكلي إحياء التساؤلات حول ما إذا كانت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين تتجه نحو تكوين إمارة محلية، على غرار حركة طالبان في أفغانستان أو هيئة تحرير الشام (HTS) في شمال غرب سوريا.
توقيت ورمزية إعلان ترامب
يجب فهم بيان ترامب الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2025، والذي هدد فيه بعمل عسكري على الأراضي النيجيرية – ظاهريًا للدفاع عن المسيحيين – في سياق سقوط باماكو الوشيك. وتزامن هذه الأحداث ليس مصادفة. فالجهاز الاستراتيجي لواشنطن يدرك تمامًا أن تفكك الدولة المالية سيُغير موازين القوى الإقليمية، مما يُمكّن جهات فاعلة غير غربية (روسيا، تركيا، إيران) والقوى الإسلامية التي تحظى بشرعية محلية أكثر في المنطقة.
وباستخدامه مصطلح “الدفاع عن المسيحية”، يوظف ترامب مصطلحات حضارية مُصممة لجذب الجمهور المحلي، وفي الوقت نفسه، يُضفي الشرعية على عودة أمريكية محتملة إلى منطقة الساحل تحت ذرائع أخلاقية وإنسانية. وهكذا، يعمل الإطار الديني كأداة جيوسياسية – تُخفي الأهداف الاستراتيجية وراء الخطاب الثقافي.
نيجيريا كمحور جديد للاستراتيجية الغربية
بعد انسحاب فرنسا، برزت نيجيريا كمرتكز جيوسياسي وحيد قابل للتطبيق لأي هيكل أمني غربي متجدد في غرب أفريقيا. ثقلها الديموغرافي، وجغرافيتها الاستراتيجية، وقيادتها للجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ايكواس، وتعاونها القائم مع شبكات الأمنية الأمريكية والأوروبية، يجعلها بديلًا طبيعيًا للنظام المنهار الذي تقوده فرنسا.
لذا، تُعدّ تهديدات ترامب لنيجيريا أداة مزدوجة – قسرية وتحريضية في آن واحد. فهي تُشير إلى استعداد الولايات المتحدة لإعادة الانخراط عسكريًا في منطقة الساحل، مع الضغط على أبوجا لتولي دور الوكالة الإقليمية. الرسالة الضمنية هي أن عودة أمريكا إلى منطقة الساحل ستتم عبر الأراضي النيجيرية، بحجة مكافحة الجهاد العابر للحدود.
رفض نيجيريا: تأكيد السيادة والاستقلال الاستراتيجي
إن رفض الحكومة النيجيرية الفوري لتصريحات ترامب – وإدانتها لها باعتبارها تدخلية واستفزازية – يعكس تأكيدًا متعمدًا على السيادة. وينبع موقف نيجيريا من ثلاث اعتبارات:
مخاوف السيادة الداخلية: كان قبول الإطار الأمريكي سيُضفي الشرعية على العمليات الأمريكية المحتملة على أراضيها.
طموحات القيادة الإقليمية: تهدف نيجيريا إلى إبراز نفسها كجهة فاعلة في الأمن القاري، لا كدولة تابعة للغرب.
البراغماتية السياسية: تُدرك أبوجا أن التدخلات العسكرية الخارجية قد أدت تاريخيًا إلى عدم الاستقرار بدلًا من الأمن في مالي والنيجر المجاورتين.
يُوضح هذا التحدي إعادة التوازن في أفريقيا بعد التدخل الفرنسي، حيث تسعى الجهات الفاعلة الإقليمية إلى الحفاظ على الاستقلالية بين الأقطاب العالمية المتنافسة – الغربية والروسية والآسيوية بشكل متزايد.
الإسلاموية المحلية كنموذج لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية
لا يخفى أنه بعد انهيار التنظيمات الجهادية كالقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية وتفككها في الشرق الأوسط ووسط آسيا، أصبحت إفريقيا مركز العالمي لهذه التنظيمات وصارت هذه الفروع أقوى بكثير من التنظيم الأم، وخاصة أن نصرة الإسلام والمسلمين صارت أقوى وأكبر من تنظيم الذي انبثقت منه القاعدة في البلاد المغرب الإسلامي الذي صار هو بدوره جزء من JNIM، أما تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا يعتبر حاليا أقوى فروع تنظيم الدولة عالميا وأهمها، وتختلف جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) اختلافًا جذريًا عن الجماعات التابعة لتنظيم الدولة، مثل تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا (ISWAP) أو تنظيم الدولة الإسلامية في الساحل (ISIS-S). فبينما تعمل هياكل تنظيم الدولة وفق أيديولوجية عالمية عابرة للحدود الوطنية تنفي الشرعية المحلية، فإن مشروع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين متجذر في الحكم المحلي، والوساطة التقليدية، والتعايش التفاوضي مع المجتمعات القبلية والعرقية، وحتى مع القوى الدولية والإقليمية وهو ما عبر عنه تنظيم في العديد من المناسبات.
ومن هذا المنطلق، تُمثل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين نظامًا سياسيًا إسلاميًا محليًا، وليس مجرد تمرد. ويعكس نهجها استراتيجية طالبان في أفغانستان، وبدرجة أقل، تطور هيئة تحرير الشام في سوريا: التخلي عن خطاب الجهاد العالمي لصالح إقامة حكم إسلامي محدود إقليميًا. تُمكّن هذه البراغماتية جماعة نصرة الإسلام والمسلمين من التوسع مع تجنب العزلة الدولية.
بالنسبة للولايات المتحدة، يُشكل هذا مفارقة استراتيجية. قد يُكبح صعود “إمارة إسلامية محلية” طموحات تنظيم الدولة العالمية، ولكنه في الوقت نفسه يُقوّض النظام الدولي الليبرالي الذي سعت واشنطن للحفاظ عليه.
المنطق الكامن وراء الخطاب الأمريكي
يجب تحليل تصريحات ترامب من منظور الإشارات الاستراتيجية بدلاً من النوايا اللاهوتية. يُشكّل استخدام اللغة المسيحية غطاءً سياسياً لإعادة تموضع النفوذ الأمريكي في منطقة ذات أغلبية مسلمة (شمال نيجيريا: 96% من المسلمين).
باستخدام الحمائية الدينية، تسعى الولايات المتحدة إلى:
إعادة بناء الشرعية الأخلاقية للتدخلات المستقبلية؛
تمييز دورها عن دور الإرث الاستعماري الفرنسي؛
وضع الصراع في إطار حضاري بدلاً من جيوسياسي، مما يُوسّع الدعم المحلي لإعادة الانخراط.
يُوجّه هذا الخطاب أيضًا تحذيرًا مُبطّنًا للمجالس العسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر: إن تحالفها مع روسيا لم يعزلها عن الضغوط الغربية، ولا تزال العودة العسكرية الأمريكية – عبر نيجيريا أو وسطاء آخرين – واردة.
تنافس الهياكل الإسلامية في منطقة الساحل
يكشف الوضع الحالي لمنطقة الساحل عن ثنائية قطبية ناشئة داخل الساحة الجهادية:
تواصل الشبكات التابعة لتنظيم الدولة (ISWAP، ISIS-S) العمل عبر الحدود الوطنية، مُشددةً على الوحشية والنقاء الأيديولوجي.
تسعى جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وفروعها إلى التكامل المحلي والتفاوض السياسي.
سيُحدد التنافس بين هذين النموذجين مستقبل المنطقة. إذا عززت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين سيطرتها على باماكو والمناطق المحيطة بها، يُصبح سيناريو طالبان (نجحت طالبان نوع ما في محاربة تنظيم الدولة في خراسان) مُحتملًا: دولة إسلامية شبه مُستقلة تحارب تنظيم الدولة عسكريًا مع الحفاظ على علاقات براغماتية مع الجهات الخارجية.
ومع ذلك، إذا توسعت الجماعة بشكل مفرط أو انقسمت داخليا، فقد يستغل تنظيم الدولة الإسلامية هذا الفراغ، ويعيد تأكيد نفسه باعتباره الوسيلة الأساسية للتوسع المسلح عبر حوض بحيرة تشاد.
سيناريوهات ما بعد سقوط باماكو
السيناريو الأول: مأسسة حكم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين
تُعزز جماعة نصرة الإسلام والمسلمين هيكلها الإداري، وتُرسي الاستقرار على طرق التجارة، وتُتفاوض على ترتيبات عملية مع المجتمعات المحلية، فتظهر كدولة إسلامية فاعلة. يُقلل هذا السيناريو من وجود تنظيم الدولة، ولكنه يُشكل تحديًا للنفوذ الغربي.
السيناريو الثاني: تفكك مُطوّل
تتنافس الجماعات المسلحة المُتنافسة، والميليشيات العرقية، وفصائل تنظيم الدولة على الأراضي، مما يُحوّل منطقة الساحل إلى منطقة صراع دائم. يُصبح التدخل الغربي أكثر ترجيحًا، ولكنه أقل فعالية.
السيناريو الثالث: عودة الغرب عبر نيجيريا
بذريعة مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية وحماية الأقليات المسيحية، تسعى واشنطن لاستخدام نيجيريا كمركز لوجستي لعمليات الطائرات المُسيّرة، ونشر القوات الخاصة، وتنسيق الاستخبارات. سيُمثّل هذا بداية عودة غربية لما بعد فرنسا، وإن كان ذلك في ظلّ سردية أيديولوجية وعملياتية مُختلفة.
تداعيات جيوسياسية أوسع
تتقاطع الديناميكيات المتكشفة في مالي ونيجيريا مع تنافس أوسع بين القوى العظمى.
رسّخت روسيا وجودها عسكريًا من خلال الفيلق الأفريقي، مقدمةً نفسها كشريك موثوق للمجلس العسكري.
تواصل الصين سياستها القائمة على عدم التدخل، وإن كانت توسعية اقتصاديًا.
تعزز تركيا وإيران نفوذهما عبر الشبكات الدينية والمساعدة الأمنية.
لذا، يجب تفسير خطاب ترامب كجزء من صراع استراتيجي على الملكية الأخلاقية والعسكرية لمنطقة الساحل. تسعى الولايات المتحدة إلى منع تشكيل محور حكم معادٍ للغرب – مستقل عن كل من تنظيم الدولة وروسيا – من شأنه أن يُعيد تعريف الجغرافيا السياسية الإقليمية.
الخاتمة
لم يكن إعلان ترامب ضد نيجيريا عشوائيًا ولا محليًا بحتًا. إنه يُمثل إعادة تأكيد رمزي لقوة الإرادة الأمريكية في منطقة يتآكل فيها النفوذ الغربي باطراد. يعكس رفض نيجيريا وجود كيان أفريقي ناشئ يقاوم الاستغلال الخارجي، ويتنقل بين كتل القوة المتنافسة.
في هذه الأثناء، يُشير حصار باماكو إلى صعود نموذج إسلامي جديد – محلي، براغماتي، ومحدود وطنيًا – يهدد بإعادة صياغة منطق الجهاد والدولة في منطقة الساحل. إذا عززت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين سلطتها، فقد تشهد منطقة الساحل ظهور “إمارة مالية” تُقوّض تنظيم الدولة وتُقيّد النفوذ الغربي في آنٍ واحد.
في نهاية المطاف، لا يقتصر الصراع الدائر اليوم على الفصائل الجهادية أو المجالس العسكرية، بل بين رؤيتين متنافستين للنظام: إحداهما مدفوعة بالتدخلات الخارجية والأخرى بحكم إسلامي محلي يسعى إلى الشرعية من القاعدة. وستُحدد النتيجة ليس فقط مصير مالي، بل البنية الاستراتيجية لمنطقة الساحل وغرب أفريقيا بأكملها.





