حدث وتعليق

الصين تعفي صادرات إفريقيا من الرسوم: شراكة تجارية بأبعاد جيوسياسية متنامية

 أعلنت الصين، في خطوة وُصفت بأنها تحوّل استراتيجي في علاقاتها الاقتصادية مع إفريقيا، عن نيتها إزالة جميع الرسوم الجمركية على وارداتها من 53 دولة إفريقية تربطها بها علاقات دبلوماسية. يأتي هذا القرار استكمالاً لما تم التعهد به خلال قمة منتدى التعاون الصيني-الإفريقي (FOCAC) التي عقدت في بكين عام 2024، والتي شهدت كذلك إعلان بكين تخصيص 360 مليار يوان (نحو 50 مليار دولار) لدعم اقتصادات إفريقيا عبر الاستثمارات والقروض.

وتُعَدّ هذه المبادرة من أكبر محاولات الصين لتوسيع نفوذها في القارة، في لحظة تتسم بانكفاء أمريكي واضح، مع اتجاه إدارة ترامب نحو فرض رسوم جمركية على غالبية الصادرات الإفريقية إلى السوق الأمريكية، مما يُهدد مستقبل برنامج “أغوا” الذي ينتهي العمل به رسميًا في سبتمبر 2025.

إنّ المبادرة الصينية الجديدة تُعيد رسم ملامح التنافس بين القوى الكبرى على السوق الإفريقية، إذ توسّع الإعفاءات الجمركية لتشمل الدول الإفريقية المتوسطة الدخل، وتَعِد بدعم خاص للدول الأقل نموًا تفاديًا لمفاقمة الفجوة الاقتصادية بين دول القارة. ومن شأن هذا التحوّل أن يتيح فرصًا غير مسبوقة لمنتجات القارة في السوق الصينية، بشرط قدرتها على تلبية معايير الجودة والمنافسة، وسط تحديات هيكلية لا تزال تعيق التكامل الصناعي الإفريقي.

1. الصين تمضي بثبات نحو الهيمنة الاقتصادية بدلًا من مجرّد المنافسة

يمثل القرار الصيني تحوّلاً نوعيًا في فلسفة الانخراط مع إفريقيا، إذ تنتقل بكين من مرحلة “التودد الاقتصادي” إلى تموقع استراتيجي يكاد يُشبه فرض الهيمنة الناعمة. لم تعد الصين تكتفي بمبادرات البنية التحتية أو القروض السخية، بل صارت تعيد تشكيل قواعد التبادل التجاري ذاته، وتطرح نفسها بوصفها الضامن الجديد لانفتاح الأسواق العالمية أمام القارة.

اللافت أن هذا الانفتاح لا يأتي في فراغ، بل في لحظة انسحاب أمريكي تكاد تكون محسوبة سياسيًا. وبينما تعمد واشنطن إلى تقويض برنامج “أغوا” بإجراءات حمائية تفتقر إلى الرؤية طويلة الأمد، تملأ الصين الفراغ بتكتيك شديد الفعالية، يعتمد على تقديم الامتيازات بدلًا من الوعود، والتمويل بدلًا من الخطاب.

إفريقيا، وهي تدرك تمامًا طبيعة الصراع بين القوتين، تجد نفسها أمام واقع جديد: لم تعد شريكًا يُغازَل، بل سوقًا تُستهدف بشروط جديدة. وإن كان في هذه الخطوة مكاسب مؤكدة، فإنها لا تُخفي مخاطر الانكشاف الاقتصادي، ما لم تُواكَب باستراتيجية إفريقية شاملة تعيد تموضع القارة كشريك فاعل لا كمجرد متلقٍّ للتسهيلات.

وفي ضوء هذا التطور المحوري، يناقش فريق المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) أبرز الدلالات الاستراتيجية والفوائد المحتملة لهذا القرار، من خلال خمس نقاط تحليلية تضع الحدث في سياقه الجيو-اقتصادي الأوسع.

2. فرصة اقتصادية مشروطة: بين وعد الانفتاح ومأزق الجاهزية

الحديث عن إزالة الرسوم الجمركية لا يعني بالضرورة مكاسب مضمونة. فالتاريخ يُخبرنا أن الانفتاح غير المنظم قد يُفضي إلى تعميق الاختلالات بدلًا من معالجتها. الدول الإفريقية ذات القدرات التصنيعية المحدودة، والبنى التحتية الهشة، ستجد صعوبة في ولوج السوق الصينية ومنافسة الدول المتقدمة صناعيًا، حتى ضمن القارة نفسها.

صحيح أن الصين وعدت بدعم الدول الأقل نموًا عبر برامج التدريب والترويج، لكن هذا وحده لا يكفي. فالمطلوب هو بناء قدرة تنافسية حقيقية، تستند إلى تطوير سلاسل القيمة، وتحفيز الصناعات المحلية، وتحديث نظم الإنتاج. أما دون ذلك، فقد تُصبح الإعفاءات مجرّد واجهة براقة تخفي واقعًا تجاريًا غير متوازن.

أمام إفريقيا اليوم فرصة تاريخية، لكنّها مرفقة بتحذير ضمني: من لا يستعد جيدًا، لن يجني سوى الفتات. فالسوق الصينية ليست سوقًا رحيمة، بل شديدة التنافس، وذات متطلبات صارمة. ولن تنجح دول القارة في اقتناص الفرص إلا إذا تجاوزت منطق التبعية وشرعت في إعادة بناء قدراتها من الداخل.

3. تدهور الشراكة الإفريقية-الأمريكية: أفول “أغوا” كنموذج ناعم للتأثير

برنامج “أغوا” الذي ظلّ لسنوات أحد رموز التعاون الأمريكي-الإفريقي، يتداعى تحت وطأة السياسات الحمائية الجديدة. وإن صحّت التوقعات بإلغائه أو عدم تجديده، فإن إفريقيا ستفقد منفذًا اقتصاديًا مهمًا، ساهم في دعم قطاعات حيوية كالنسيج والصناعات المعدنية والسيارات.

هذا التراجع الأمريكي لا يُفسَّر فقط بتغيّر السياسات الاقتصادية، بل يكشف أيضًا عن خلل أعمق في رؤية واشنطن لإفريقيا. فبدلًا من التأسيس لشراكة متكافئة ومتجددة، تُعيد الولايات المتحدة إنتاج منطق الهيمنة القديمة، غير مدركة أن الزمن تغيّر، وأن إفريقيا لم تعد هامشًا يمكن تجاهله.

في المقابل، تبرز الصين اليوم بوصفها البديل الجاهز، ولكن بشروطها الخاصة. وهو ما يعني أن غياب واشنطن لا يترك فراغًا، بل يُملأ بسرعة من قِبَل منافسين يدركون طبيعة التحولات الجارية، ويتقنون فنون الاستثمار في اللحظة السياسية والاقتصادية الحساسة.

4. الاقتصاد بوابة النفوذ السياسي: من التجارة إلى التحالفات الاستراتيجية

التحرك الصيني لا يُمكن قراءته إلا في سياقه الجيوسياسي الواسع. فبكين تدرك أن تعميق علاقاتها الاقتصادية مع إفريقيا لا يعني فقط توسيع أسواقها، بل بناء تحالفات استراتيجية تعزز حضورها في المنظمات الدولية، وتدعم مواقفها السياسية، لاسيما في القضايا الخلافية مع الغرب.

وهذا التمدد السياسي عبر الاقتصاد ليس جديدًا، لكنه بات أكثر وضوحًا بعد تنامي الانقسامات الدولية. إذ لم تعد الصين تُراهن فقط على القروض والمساعدات، بل باتت تسعى لإعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية من بوابة التبادل التجاري والاعتماد المتبادل.

إفريقيا، من جهتها، أمام تحدٍّ مزدوج: أن تستفيد من الفرص الاقتصادية دون أن تتحوّل إلى ورقة تفاوضية في صراع الكبار. وهذا يتطلب وعيًا سياسيًا ناضجًا، يُدرك أن المصالح لا تُعطى مجانًا، وأن السيادة لا تُقايض بالتسهيلات، مهما بدا بريقها مغريًا.

5. نحو موقف إفريقي موحد: التعدد في الشركاء لا يعني الانقسام في المواقف

إن أخطر ما قد تواجهه إفريقيا في المرحلة المقبلة هو غياب الصوت الموحد. فبين من يلهث خلف الصين، ومن يتشبث بواشنطن، تضيع الرؤية، وتتشظى المصلحة العامة. وهذا ما يستدعي تحركًا عاجلًا من الاتحاد الإفريقي لإعادة صياغة موقف جماعي، يرسم ملامح الانخراط الإفريقي في الاقتصاد العالمي من موقع تفاوضي لا تبعي.

إن التكامل الاقتصادي القاري، خاصة في إطار اتفاقية التجارة الحرة القارية (AfCFTA)، هو المفتاح لتعظيم الاستفادة من المبادرات الخارجية، سواء جاءت من الشرق أو الغرب. فدون كتلة اقتصادية متماسكة، ستبقى كل دولة تفاوض بمفردها، وتقبل بشروط قد لا تخدم المصلحة الإفريقية الشاملة.

ما تحتاجه إفريقيا ليس مجرد تعددية في الشركاء، بل استراتيجية سيادية تُبنى على أساس المصلحة المتبادلة، والندية، والاستثمار في القدرات الذاتية. وحدها مثل هذه الرؤية يمكن أن تصنع من القارة لاعبًا لا ساحة، ومن شعوبها شركاء لا متلقين.

الخلاصة

في خضم هذا التحوّل العالمي المتسارع، تقف إفريقيا عند مفترق حاسم؛ إذ لا يتعلق الأمر بمجرد إعفاءات جمركية أو انتهاء امتيازات تجارية، بل بإعادة تعريف موقع القارة في النظام الاقتصادي الدولي. فبين انكماش الشريك الأمريكي واندفاع البديل الصيني، تنبع الحاجة إلى يقظة إفريقية تستعيد زمام المبادرة، لا فقط في صياغة شروط العلاقة، بل في رسم ملامح مستقبلها الاقتصادي المستقل. إن اللحظة ليست للاحتفاء ولا للانقياد، بل للبناء المدروس على أسس التكامل والتوازن، حيث تكون إفريقيا فاعلًا يصنع شروطه، لا ساحة تتلقى شروط الآخرين.

المصدر
تحليلات المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)

أفروبوليسي

المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) مؤسسة مستقلة تقدم دراسات وأبحاثاً حول القضايا الأفريقية لدعم صناع القرار بمعرفة دقيقة وموثوقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى